لماذا تفتقد الدور العربية إلى مهنة المُحرِر الأدبي؟
القاهرة – أحمد مجدي همّام
تفادياً لهفوة مثل تغير لون عيني إيما بوفاري، من البني إلى الأسود القاتم، ثم إلى الأزرق – والتي لم يتنبه لها فلوبير في روايته الأشهر «مدام بوفاري» – وتفادياً لورطات شبيهة، وُجِد «المحرر الأدبي» في دور النشر، للملمة نثار عملية ولادة النص الأدبي. وبرغم التفات دور النشر أخيراً إلى أهمية دور المحرر، إلا أن المهنة تعاني في عالمنا العربي الكثير من التجاهل وبعض اللبس والخلط، بل وقد تلقى نفوراً وتعالياً لدى بعض كبار الكتاب، على اعتبار أن نصوصهم أعمال إبداعية ذات هالة، وبالتالي لا يصح أن يترك أحدهم بصمة فوق بصمتهم الأخيرة، ناسين أن المُعلم يسهو في بعض الأحيان، وينقاد في أحيان أخرى لغواية الكتابة فيسترسل مجترحاً زوائد وترهلات في نصه.
في السنوات الأخيرة، تنبهت دور النشر المصرية إلى أهمية دور المحرر الأدبي في الارتقاء بالنص وتأكيد جودته، من خلال نقاش يجمع المؤلف والمحرر حول النص قبل نشره، الأمر الذي يساهم في إخراج الكتاب في أفضل شكل ممكن. يقول الناشر إسلام عبد المعطي، مدير دار «روافد» للنشر: «المحرر الأدبي مهنة ملتبسة لدى دور النشر العربية، فهناك خلط بين دور المحرر وأدوار مدير النشر والمصحح اللغوي، وفي معظم دور النشر وبخاصة الصغيرة والناشئة، لا يوجد مشروع لاستحداث وظيفة بهذه الكيفية، ناهيك عن عدم وجود وفرة ممن يصلحون للقيام بهذه المهمة التي تحتاج شخصاً محترفاً لديه القدرة على إنكار ذاته، ليس فقط على مستوى الشهرة، وإنما أعني إنكار الذات الإبداعية، حتى يظل لكل كتاب مذاقه الخاص ولكل كاتب أسلوبه المميز».
عبد المعطي، الذي يقوم بمهمة المحرر الأدبي بنفسه في إصدارات «روافد»، يرى أن العلاقة بين المحرر والمبدع قد تحمل بعض التوتر: «تبقى المشكلة الكبرى من وجهة نظري ليست في قابلية دور النشر لوجود هذه الوظيفة لديها، وإنما في توافر أو تدريب من يستطيعون القيام بها، والأهم في تعوّد المبدعين وتواضعهم ليقبلوا أن يتدخل في أعمالهم من هو ليس بالضرورة صديقاً أو متوافقاً مع أفكارهم ورؤاهم».
كانت دار «العين» كذلك من أوائل دور النشر المصرية التي كرّست أهمية المحرر الأدبي، بغرض ضمان جودة العمل. يقول الشاعر تامر عفيفي، المحرر في دار «العين»: «المحرر الأدبي في دور النشر يساهم بشكل أساسي في إنتاج مشروع كتاب جيد، إذ إن المحرر – في شكله الاحترافي – يقوم دائماً بالاتصال بالكاتب ويناقشه في ما يخص كتاباته، ويستشيره الكاتب في أمر الكتاب، ويقتضي العمل بينهما نوعاً من الثقة التي تمكن كليهما من خلق مساحات للآخر بما يكفي لإنتاج عمل جيد. تلك المساحات المتسعة هي النطاق الأقصى لعمل المحرر، وتتقلص صلاحياته تدريجاً تبعاً للحالة نفسها، إضافة إلى نوع الكتاب. فينتقل الأمر في هذه الحالة من تصورات لطريقة الكتابة وموضوعها، إلى حدود تبدو أضيق كإبداء الملاحظات وطرح النقاط التي يمكن التشاور فيها في مرحلة تجهيز الكتاب للطباعة. وفي مصر يبدو الأمر محفوفاً بالعشوائية وعدم الدقة، لأسباب عدة، أهمها عدم وجود تلك العلاقة الوطيدة والثقة التي تمكّن المحرر من إبداء الإرشاد المناسب من دون الحاجة إلى تبرير أو إضفاء لمشروعية معينة على طريقة الأداء تجاه عمل الكاتب».
أما في دار «ميريت»، فالوضع مختلف قليلاً، إذ لا يوجد محرر أدبي ثابت في الدار، لكن «فلسفة» محمد هاشم مدير الدار، تقوم على اعتماد مجموعة من كتّاب الدار للقيام بمهمات المحرر في إطار ودّي لا يحمل الصفة الرسمية، فيقومون بقراءة النص وتوجيه بعض النصائح والاقتراحات للمؤلف. ومن الكتّاب الذي يقومون بهذه المهمة، الروائي حمدي أبو جليّل الذي يقول إنّ دور المحرر «مفيد ويتمثل في تجويد الكتاب، لكن هذا المحرر هو ابن الثقافة الغربية، وأذكر أن الشاعر الأميركي عزرا باوند عهد بأحد دواوينه إلى محرر اشتغل عليه. وما يعيق وجود مثل هذه المهنة في مصر بشكل كامل واحترافي هو كون سوق الكتاب بطيئاً، بخلاف تقديس الكتّاب لما يكتبونه. لكني أرى أن هذه المهنة هي بصدد الانتشار، إذ بدأ بعض الدور أخيراً في الاستعانة بمحررين لمراجعة الكتب وتنقيحها، وأنا شخصياً أتمنى أن أجد من يحرر لي كتبي، لأن ذلك سيجعلني أتخفف من الكثير من الأعباء».
وعن مخاوفه من الاستغلال الخاطئ لدور المحرر الأدبي يقول أبو جليل: «أخشى أن يستغل بعض دور النشر الصغيرة هذه المهنة بشكل خاطئ، فتقبل بنشر كتب ضعيفة على أمل بأن يعيد المحرر العام تحريرها بشكل يجعلها تبدو أفضل، مقابل بعض المال».
وقد تكون تجربة الروائي عمرو عاشور، أحد أبرز تجليات التفاعل بين المؤلف ومحرر الدار، فهو قدّم مجموعة قصصية للنشر في دار «ميريت»، وبعد أن قرأها محررو الدار اقترحوا عليه تحويلها إلى رواية، لما تحمل من نفس سردي موحد، وهو ما تحمس له واقتنع به ونفذه. ويقول صاحب رواية «كيس أسود ثقيل» – ميريت 2012: «كانت مجموعتي القصصية مقسمة إلى ثلاثة أبواب: العبور من ثقب ضيق، مساحات للدهشة والألم، ومحاولات أخرى، وقرأها الروائيان حمدي أبو جليل وإيهاب عبد الحميد، واقترحا حذف الجزء الأخير، وتوحيد الجزءين الأول والثاني في رواية، لما يحملان من صوت واحد وخيط ممتد يربط أجواء النص، وبالفعل قمت بالاشتغال على المجموعة وأعدت كتابتها».
ويضيف عاشور عن رأيه في مساهمة المحرر الأدبي في النصوص: «غابرييل غارسيا ماركيز اعترف أنه لولا اقتراح المحرر بحذف قرابة المئة صفحة من «مئة عام من العزلة»، لما حققت ذلك النجاح، وهيمنغواي أشار إلى ضرورة مراجعة المخطوط عبر مجموعة من الكتّاب الثقات، كما قام طه حسين بمراجعة «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ. الأمر لـيس جديداً كما ترى، لأن الأدب إجمالاً هو إبـداع ذاتـي من جـهة، وتـلقِ من جـهة أخـرى، والمـحرر الأدبي عين أخرى تفحص النص ووعي محايد دوره صقل العمل».
هذا الترحيب – وإن كان غير متبلور- بدور المحرر الأدبي، يتراجع كلما اتجهنا إلى الكتّاب الأكبر سناً من أصحاب المسيرات الطويلة. وقد يعود الأمر إلى أن التحرير الأدبي مهنة لم تكن موجودة بوضوح في الستينات والسبعينات، يقول الروائي محمود الورداني: «للمحرر الأدبي وظيفة ودور في الثقافات التي جربته وراكمت له تقاليد ومهمات محددة، وشخصياً أرى أنها تجربة ليست مطروحة للنقاش ومنبتة الصلة بتاريخ الإبداع المصري والعربي. فهل سأتفق بعد هذا التاريخ في الكتابة مع محرر يراجع ويعدّل؟ لا أظن أني سأتفق معه».
وبالمثل يرى الروائي إبراهيم عبد المجيد أن دور المحرر الأدبي لا يتجاوز نسبة 4 إلى 5 في المئة، ويقول: «المحرر الأدبي شخصية مستقرة في الغرب، وهو قارئ يعرف كيف يجعل الكتاب قابلاً للبيع والقراءة، وبسبب محدودية عملية بيع الكتاب وقراءته في العالم العربي لم تكن هذه المهنة مهمة إلا في إطار فني، كأن يراجع المحرر بعض المعلومات الواردة في مخطوط الكتاب».
الحياة