لماذا كلما اقتحموا مدينة في سورية عادوا إليها، وما وجه الشبه بين ليبيا وسورية؟!
حسن خضر
كم مرّة اقتحموا حمص وحماة ودرعا وجسر الشغور والرستن والبوكمال، واللاذقية وإدلب على مدار ستة أشهر مما تعدون؟.
لم أعد أذكر، فلم يعد العدُ ضرورياً للخروج بخلاصة مفادها أن القوات الموالية للنظام في دمشق قليلة العدد، وأن عماد هذه القوات الفرقة الرابعة، التي يقودها شقيق الرئيس، وأجهزة المخابرات على اختلاف أنواعها (يقودها أقارب ومقرّبون من العائلة الحاكمة)، وميليشيا الحزب وهي عناصر غير نظامية تضم أعداداً كبيرة من الشبيحة، حسب التعبير الدارج هذه الأيام.
تحظى هذه القوّات بثقة النظام، ومصيرها مرتبط إلى حد كبير بمصيره. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، أن النظام لا يغامر بزج وحدات عسكرية لا تحظى بالثقة في الحرب التي يشنها على شعبه. والدليل: لو كان لديه ما يكفي من القوّات، لما كانت ثمة ضرورة لاقتحام هذه المنطقة أو تلك، والخروج منها، ثم العودة إليها، فالمنطق يستدعي الحفاظ على وحدات عسكرية في المنطقة المعنية، وهذا ما لم يحدث حتى الآن.
وفي سياق كهذا لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن القسم الأكبر من الجيش السوري المحترف يكاد يكون قيد الإقامة الجبرية في المعسكرات، بما في ذلك الدروع والمدفعية والطيران، خوفاً من انقسام الجيش وانقلاب الضباط من الرتب المتوسطة والدنيا على قادتهم، وبالتالي على النظام.
ولا يُستخدم تعبير الإقامة الجبرية، هنا، على سبيل المجاز، بل لوصف واقع يعرفه كل من أطل بهذا القدر أو ذاك على حقيقة وطبيعة الإجراءات التي تتخذها الأنظمة العربية للحيلولة دون وقوع انقلابات عسكرية.
فالعاصمة تكون محمية بقوات موالية، يقودها في الغالب أقارب الرئيس (الحرس الجمهوري)، أما الوحدات العسكرية خارج العاصمة فلا تستطيع التحرّك دون إجراءات معقدة، وتصاريح مُسبقة من أعلى الجهات الأمنية، ولا يندر أن يكون عتادها في جهة، وأن تكون في جهة أخرى. وكلها إجراءات روتينية في زمن السلم الاجتماعي، وما أدراك كيف تصبح في زمن الاضطرابات، والقلاقل، والثورات الشعبية؟
وبقدر ما تتجلى الصورة الاجتماعية الطبقية والجهوية والطائفية (إذا شئت) للمجتمعات في جيوشها، فإذا وقع الانقسام في صفوف الجيش السوري سيقع استناداً إلى خصوصية المجتمع السوري نفسه. ومن الواضح أن هذه الخصوصية، وبالنظر إلى المناطق التي تشتعل فيها الثورة، لا تصب في مصلحة النظام.
تفسِّر خلاصة كهذه السياسة الانتحارية للنظام، فهو لا يملك ما يكفي من الوقت، والموارد البشرية والمادية لشن حرب طويلة الأمد على المناطق التي تتقد فيها جذوة الثورة، لذلك يستخدم أقصى ما يستطيع من القوّة والبطش، ويمارس القتل بطريقة تحرج حتى الحلفاء في الداخل والخارج.
على مستوى التحالفات الداخلية، من المنطقي الاعتراف بحقيقة أن النظام يستند إلى رافعة اجتماعية واقتصادية، ما تزال ملموسة في دمشق وحلب، إلى جانب قاعدته الاجتماعية والاقتصادية العلوية، لكن العنف، بلا خارطة للطريق، يسهم في تآكل وزعزعة هذا النوع من الروافع الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا ما يفسر اتساع بؤر الثورة في ريف دمشق.
وربما نعثر على مسألة إضافية، تفسِّر استخدام النظام لأقصى ما يستطيع من القوّة والبطش، إذا ما نظرنا بجدية إلى حقيقة أن النظام غير قابل للإصلاح. فلا معنى للإصلاح دون انتخابات رئاسية ستُنهي بالتأكيد حكم عائلة الأسد لسورية، ودون تعددية حزبية تكون نتيجتها الحتمية إنهاء هيمنة حزب البعث على المجتمع والدولة. عائلة الأسد لا تستطيع التضحية بالحزب للبقاء في الحكم، كما أن الحزب لا يستطيع التضحية بعائلة الأسد للبقاء مهيمناً على المجتمع والدولة. لذلك، يخوضان معاً معركة البقاء والمصير.
-2-
خلاصة كهذه تبرر القول إن ثمة الكثير من أوجه الشبه بين النظامين الليبي والسوري وإذا كان ثمة من فرق، فإن الفرق الوحيد في الدرجة لا في النوع. وهذا ما يختزله شعار اخترعه أنصار العقيد، وأعاد أنصار الأسد الابن إنتاجه في طبعة سورية خاصة. ففي ليبيا رفعوا شعار “الله، ومعمّر، وليبيا وبس”، وفي سورية رفعوا الشعار نفسه مع تحوير طفيف ليصبح: “الله، سورية، بشّار وبس”.
وقد تمت في الحالتين شخصنة واختزال النظام في صورة الحاكم، ففي ليبيا، كما في سورية، لا يستطيع الحاكم التدليل على أمر من نوع انه الحاكم بأمر الله، وسورية، كما ليبيا، اسم مجرّد يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين.
ومع هذا، وقبله، وفوقه، وبعده، في صياغة شعار من هذا النوع، وبهذه الطريقة نلاحظ هيمنة اللاهوت على السياسة في حضور مُطلق، وإضافة اثنين يُراد إدراجهما في باب المُطلق، أو وضعهما على قدم المساواة معه.
الله بالمعنى اللاهوتي مُطلق، يمتاز بديمومة فوق الزمان والمكان، أما سورية أو ليبيا فلا يمكن إدراجهما في باب المُطلق، كلتاهما كينونة سياسية مادية تقبل التبديل والتغيير، بينما معمّر وبشّار مجرد بشر ليس فيهما ما يرفعهما إلى مرتبة المطلق، أو ما يؤهلهما إلى التماهي مع كينونة سياسية اسمها الدولة.
لم يرتفع كائن من لحم ودم في الأزمنة الحديثة، وفي أي مكان من العالم، إلى حد التماهي مع كينونة سياسية اسمها الدولة، ولم يضع نفسه، أو يضعه أنصاره، على قدم المساواة مع مُطلق فوق الزمان والمكان، إلا وكانت النتائج مُرعبة. وها نحن نرى النتائج في تجلياتها العربية، يومياً، في نشرة الأخبار المسائية، عندما نحصي عدد القتلى. دفع الليبيون 50 ألف ضحية، فكم سيدفع السوريون؟
نحتاج، بالتأكيد، إلى قراءة جديدة لكل ميراث الأنظمة الراديكالية، التي تحوّلت إلى جمهوريات وراثية، لنفهم متى وكيف هيمن اللاهوت على السياسة، وكيف زُرعت بذور الفاشية في الحقل السياسي العربي على يد قوميين ويساريين وعدوا شعوبهم بالحرية، ثم استعبدوها، وهذا على أية حال موضوع آخر.
الأيام