لماذا يكذب النظام؟
عبدالله أمين الحلاق
هذا السؤال طرحه الشهيد جبران تويني في واحدة من مقالاته الأخيرة، متحدثاً عن آلية صناعة الكذب وبثه في الإعلام السوري وعلى ألسنة مسؤولين سوريين رفيعي المستوى. لا داعي لتحديد هوية النظام المذكور، ذاك أن مجرد ذكر كلمة “النظام” تكفي ليعرف المرء أن المعني هو النظام السوري، وخصوصاً إذا ما أضيف الكذب صفةً وتساؤلاً.
يبدو سؤال جبران تويني راهناً اليوم أكثر من أي وقت آخر، بعد مرور 6 سنوات على اغتياله، وهو من اتُهم “النظام” باغتياله من دون أن يملك الكثيرون منطقاً وأفكاراً مُقنِعة لدرء الاتهام عن المتَّهم، باستثناء حفنة ممانِعين تذرروا هنا وهناك. غير أن الكذب اليوم انتقل خطوة إلى الأمام مع تراجع النظام خطوات إلى الوراء على الأرض. لا ينحصر الموضوع في كيفية صياغة الإعلام الرسمي لخبر انشقاق المتحدث باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي قبل أيام، على أنه “إقالة مقدسي من منصبه لأنه تحدث بما لا يتوافق مع السياسة الرسمية السورية”، الأمر الذي ثابرت قناة “الدنيا” الأسدية و”المنار” الإلهية على جعله خبراً رئيسياً في نشراتهما يوم 3 كانون الأول 2012. يعيدنا ذلك إلى بدايات الثورة مثلاً ونفي “النظام” حدوث التظاهرات في دمشق إلا على اعتبارها خروجاً لأهالي حي الميدان إلى الشوارع “فرحاً بقدوم المطر”.
استطراداً وفي السياق نفسه، انقطعت الاتصالات عن كل سوريا قبل حوالى أسبوعين، الأرضية والخليوية والانترنت، في محاولة لعزل المناطق السورية بعضها عن بعضها الآخر، وآنئذٍ خرجت علينا قناة “الدنيا” العتيدة ببرنامج شبيه جداً ببرنامج “ما يطلبه المستمعون”، وهي تتلقى اتصالات من “مستمعين ومشاهدين” من إدلب وحماه وحمص وريف دمشق، لا بل ومن درعا أيضاً! وهي تقدم للمُشاهد صورة عن كذب “القنوات المغرضة” وعن توافر الاتصالات في سوريا، باستثناء خدمة الانترنت التي قامت “العصابات الإرهابية المسلحة” بضرب الكابل الرئيسي لها في سوريا، وفق الإعلام السوري.
منذ بدء الثورة السورية ضد نظام آل الأسد، وإلى جانب إنكار هذا الأخير قتْله الشعب يومياً بالقناصات ثم الدبابات وأخيراً بالطائرات والبراميل، كان في وسع المُشاهد السوري داخل البلاد أو خارجها أن يسمع بعمليات “تطهير المدن السورية”، تليها عملية “مطاردة فلول الإرهابيين”، وهو جالسٌ بعيداً عن أرض المعركة لا يدري حقيقة ما يحدث على الأرض لولا مراسلو القنوات “المُغرضة”، على علاّت تلك القنوات وانتقائيتها. الآن، تَطاوَل الكذب ليصبح مكشوفاً ويكفي لدحضه قيام أي مؤيد للنظام برفع سمّاعة هاتفه الأرضي أو جهازه الخليوي أثناء البرنامج المذكور على “الدنيا”، وهو يحلم بأن تردّ عليه مذيعة البرنامج بصوتها الرخيم الذي يفيض حيويةً وسط كل هذا الموت السوري، علّه يقوم بعدها بتوجيه تحية إلى “جنود الأسد البواسل والرئيس القائد بشار حافظ الأسد”، أو تحية إلى “المعلّم ماهر الأسد” على ما قال أحدهم في اتصاله بالمحطة المذكورة بتاريخ 30 تشرين الثاني 2012، وكان المتصل وقتها من ريف دمشق كما قدمته المذيعة!
للأمانة، لم تحدد المذيعة مكانه بالضبط في الريف: هل هو من داريا أم من حرستا أم دوما، أم غيرها من مناطق تفيض محبةً ووفاء لبشار وأخيه “المعلّم ماهر” على ما تشير مجازر النظام فيها.
لماذا يكذب النظام؟
ليس ثمة خيار آخر لديه سوى الكذب. وقفة قصيرة مع الذات تكفي بشار الأسد ليعرف أن الصدق يعني طي صفحة عشرين شهراً من القتل اليومي للسوريين وتدمير سوريا وبناها التحتية والفوقية، وعنف ومعارك ضد الشعب فتحت البلد على عنف وسلاح منتشر أنّى توجهتَ في سوريا، وعلى تطرف ديني بدأ يلوح ويرفع راياته عالياً، وجماعات مقاتلة وافدة من خارج الحدود السورية، وغيرها من صور تزيد من صعوبة التحول إلى دولة بعد أفول النظام. الصدق تترتب عليه خطوات لم يكن بؤس الشعب السوري المنتفض لأجل الحرية ليصل إلى هذا الحد، لو كان “النظام” على استعداد للقيام بها منذ 15 آذار 2011 وما قبل.
أما وقد صار الزيف مكشوفاً أكثر من ذي قبل، فذاك مؤشر إلى أن استنفاذ النظام للكذب والقتل اليوميَّين، هو اقترابه الحثيث من الهاوية مترافقاً مع كاريكاتوريةِ وهزليةِ إعلامٍ أسَديّ يحاول تعويم ما فشلت به طائرات الميغ على مدى أشهر. وإنّا لمنتظرون.
النهار