لماذا يكرّر النظام السوري استفزاز جارته الكبرى تركيا؟
تبدو خيبة تركيا بأصدقائها الأطلسيين والغربيين عموماً كبيرة، ربما لا يعادلها في هذه الظروف، سوى خيبة الشعب السوري بالعالم ووعوده، ولم يكن بإمكان رجب طيب أردوغان إخفاء هذه الخيبة على هامش زيارته لواشنطن ولقاءاته بمسؤوليها، فبينما تعيش تركيا على حافة اللهيب السوري، ولامست نيرانه قلبها، لا زالت واشنطن وعواصم القرار تقلب خياراتها وتغرق في حسابات معقدة.
إن أي تصور لسورية المستقبلية، ولأي ترتيبات جديدة في البنية الشرق أوسطية، وكذا مسألة التوصل إلى ترتيبات لعودة النفوذ الروسي إلى المنطقة والعالم عموماً، لابد لها أن تطال تركيا، أو على الأقل تكون بلاد الأناضول في قلبها، لا يقتصر الأمر على شكل الحل في سورية ومستقبل تعايش المكونات المختلفة فيها، بل ان الأمر يتعلق بدرجة كبيرة بالموقع الجغرافي لتركيا وأثر هذا الموقع على الأمن والإقتصاد العالمي، وخاصة لجهة حيويته في نقل وعبور خطوط النفط والغاز الشرق أوسطي ومنافسته للنفط والغاز الروسي والإيراني، فضلاً عن جغرافية تركيا المشرفة على بلاد القياصرة والفرس براً وبحاراً.
وفي ظل توجه أميركا الشرق أسيوي ونقل مركز قوتها إلى المحيط الهادي، تصبح تركيا، التي تمتعت بموقع مميز في السياسات الأطلسية، أرضاً رخوة قابلة للتفاوض والتفاهم، وخاصة أن روسيا تحول ثقلها بالكامل إلى المتوسط وأوروبا غرباً، حيث تتركز مصالحها الأمنية والإقتصادية. أكثر بكثير من أي مكان أخر في العالم.
هل يفسر ذلك سبب إستسهال النظام السوري إستهداف تركيا؟. في الواقع تبدو تركيا في نظر بشار الأسد، وداعميه، الحلقة الأضعف في سلسلة الأطراف الداعية لإسقاط نظام الحكم في دمشق والمؤازرة لثورة الشعب السوري، وترجمة لهذا الإدراك، لم يجد هذا الحلف صعوبة في رده على الرسائل التي تلقاها مؤخراً عبر الطائرات الإسرائيلية، بالرد من خلال النافذة التركية وتفجير قرية الريحانلي.
يعرف النظام السوري تماماً ان ظروف تركيا الإستراتيجية، وحساسية وضعها الداخلي، كلها عوامل تتضمن معوقات كابحة في وجه أي تحرك عملاني عسكري مباشر، وهو الأمر الوحيد الذي قد يردع حكام دمشق في هذه المرحلة، بإستثناء ذلك، فالنظام لا تعنيه كثيراً الإدانات والشجب، هذا النوع من ردود الفعل يبقى أمراً مقبولاً ويستطيع النظام هضمه والتكيف معه.
ولعلّ الإشكالية الكبرى التي تواجهها تركيا إزاء المعضلة السورية، وما تطرحه من تحديات في مواجهتها، أن البلاد التي غادرت حكم العسكر، غادرت معه أيضاً طريقة التفكير العسكرية، وأسست مقارباتها في مجال العلاقات مع الجوار، وحتى مع الخصوم المحليين” حزب العمال الكردستاني”، على أساس المصالحة والحلول السلمية وتصفية المشاكل، وهو أمر إستدعى ترتيبات كبيرة في هذا المجال، عبر تأسيس البناء اللازم لإستيعاب مثل هذا التحول، وما يتطلبه ذلك من إجراءات وترتيبات لوجستية وتحولات في العقيدة العسكرية، وكذا بلورة كتل سياسية حاملة لهذا المشروع، ناهيك عن ترسيخه مؤسساتياً وقانونياً، بالإضافة إلى ما يلزم ذلك من عدة أيديولوجية تبرر هذه التوجهات وتشرعنها.
الإشكالية الأخرى التي تقف في طريق الرد التركي، تلك التي تتعلق بحساسية أوضاعها الإجتماعية السياسية، وتأثرها بدرجة كبيرة بالحدث السوري، فبين توجه حكومة “حزب العدالة والتنمية” إلى ترميم الصدع في العلاقة بين المكونات المختلفة للوطنية التركية، في الطريق إلى تظهير الهوية التركية الجديدة، وبين ما يفرزه الحدث السوري من تداعيات وإحتفانات ذات طبيعة مذهبية، تبدو سياسة الحكومة التركية ذات طبيعة حذرة، متخوفة من أي تحرك أو إجراء يصار إلى تصنيفه في خانة الأفعال ذات الطبيعة الإنحيازية، في الوقت الذي تعمل فيه أطراف كثيرة في المنطقة على إغراق الحكومة التركية بهذا النوع من المشاكل.
واقع العلاقات الإقليمية، وحالة الفرز والإستقطاب الجارية على هامش الحدث السوري، تشكل كابحاً أخر لإحتمالية ظهور رد تركي على الإستهداف السوري المباشر والواضح، حيث تدرك أنقرة أن التحالف الروسي- الإيراني في الموضوع السوري يشكل درجة من الخطورة وتؤثر في فعالية تحركاتها في هذا الملف، وربما كان هذا أحد أهم أسباب عودتها إلى إنعاش تحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل في محاولة لموازنة التحالف الروسي- الإيراني ضدها.
إضافة لذلك، فإن حالة التردد الأوروبية، والشركاء الأطلسيين عموماً تجاه الموضوع السوري، وخاصة بعد الإختراق الألماني وفتح قنوات تواصل بين برلين ونظام الأسد، وتردد إسبانيا، وممانعة دول أخرى تسليح المعارضة السورية، شكلت تلك عوامل إنكشاف تركي في مواجهة الأزمة السورية وتداعياتها، وهو ما زاد من حدة الإرتباك التركي، وحصر إمكانية المساعدة الأطلسية في إطار حصول هجوم واضح ومباشر، بمعنى انه لن يتضمن أشكالاً أخرى من الإعتداءات الإرهابية مثلاً.
مجموعة هذه العوامل شكلت إغراءً صريحاً لنظام الأسد للقيام للقيام بسلسلة التفجيرات التي شهدتها بلدة ريحانلي التركية، والحدث بحد ذاته يحمل فرصاً كثيرة للنظام، إذ يمنحه فرصة الظهور بمظهر القادر على لخبطة الأوراق في المنطقة وإعادة تصدير الأزمة إلى دول الجوار، كما يمنحه الفرصة لإظهار قوته على الرد على الغارة الإسرائيلية، على إعتبار أنه هو من يحدد زمان ومكان الرد، وبما أن تركيا ترتبط بتحالف إستراتيجي مع إسرائيل فإنه بذلك يكون قد نفذ تهديداته.
بالطبع، لم يكن ممكناً لنظام الأسد وداعيميه العبث بساحات أخرى قريبة، بالنسبة لإسرائيل، بديهي يبدو الأمر محسوماً، ذلك أن كلفة أي محاولة إستهداف ستجعل من عملية تغيير النظام مهمة دولية عاجلة. أما الأردن، ورغم ضعفه النسبي، إلا ان نظام الأسد يدرك أن هامش اللعب معه محدود جداً، بسبب حساسية القوى الكبرى تجاه أمن وإستقرار المملكة.
من غير المتوقع أن ترد تركيا بشكل مباشر على العملية التفجيرية التي إستهدفتها، الرد المتوقع سيكون من خلال مضاعفة الجهود لحشد الدعم الدولي وراء إجراءات عملانية مشتركة ملموسة ضد هذا النظام، لكن من الواضح، ومن خلال نبرة أردوغان في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الرئيس الأميركي باراك اوباما أن تركيا بدأ يتسرب إلى خلدها خطورة الحسابات الأمريكية وطبيعة الأطماع الروسية، وما إعلان اردوغان عن نيته زيارة الأراضي الفلسطينية سوى رسالة لما قد تتشكل عليه السياسة التركية في قادم الأيام…الذهاب إلى قيادة العالم السني!.
غازي دحمان
المستقبل