لماذا ينبغي أن تبقى سورية واحدة
برهان غليون
في مقابلة الجزيرة مع الشيخ معاذ الخطيب في 11/5/2013 طرحت المذيعة سؤالا على رئيس الائتلاف الوطني ” ليس سهلاً على السوريين سماع كما قالت عن حق: “ما المشكلة في تقسيم سوريا إن اضطررنا للتفكير بما لم يكن ممكناً التفكير به من قبل. في حالة يوغسلافيا مثلاً تم تقسيمها من أجل إحلال السلام. والآن في العراق يوجد بداية حديث حول التقسيم. إذاً في النهاية المجموعات المختلفة عليها أن تجد موطناً لها من أجل إيقاف القتل، ما الخطأ في ذلك؟”
أجاب الشيخ معاذ أن المشكلة تكمن في أن “هذا ليس قرار الناس، هذا قرار مجموعات سياسية ودول إقليمية وإرادات أكبر أو أصغر. هي تفرض على الشعوب هذه الوقائع، ثم بعد ذلك تحاصر الشعوب ضمن منظومات تاريخية وسياسية وعرقية، ويكون هناك دائما فتيل فتن واشتعال للحروب والمشاكل.
وكل الدول التي بنيت على أساس عرقي وطائفي تكون بؤراً للفتن والحروب الدائمة”
جواب الشيخ معاذ يرد على جزء من السؤال. لكن لنفرض أن هناك أطرافا أو أقليات خائفة تطلب مثل هذا التقسيم، هل هذا يجعله أكثر قبولا؟
لا ينبغي أن نتجاهل أن التقسيم بعد سنتين من الحرب الوحشية وانعدام آفاق الحل الواضحة، أصبح الهوس الرئيسي للسوريين، وأن هناك سوريون خاسرون يعتقدون أن التقسيم هو الحل لمشاكلهم القادمة، وفي المقابل هناك أغلب السوريين الذين يخشونه ويعلنون استعدادهم لأي عمل للوقوف ضده. وهناك أيضا العديد من الدول التي تحلم بتحطيم سورية كدولة واعدة، وتلك التي تعتقد أن أسهل الحلول للخروج من الأزمة التي لا تريد أن تتورط فيها هو في تبني التقسيم الذي ربما يعطي لهم، بالإضافة إلى ذلك فرضة استعادة الوصاية على الدولة التي بقيت خلال عقود طويلة مصدر قلاقل بسبب روح السيادة والقومية التي ميزت ثقافة شعبها واختياراته منذ ما قبل الاستقلال.
في نظري، التقسيم في أي شكل جاء لن يكون حلا ولكن مصدر أزمات مضاعفة، ولن يخفف من العنف ولكنه بالعكس، في الظروف التي تعرفها المنطقة، والمواجهات الكامنة فيها بين جميع الأطراف، سيدفع إلى تفجير كل العنف المكبوب والمضبوط حتى الآن على مستوى المنطقة بأكملها، ويعمم المآسي داخل الدول المنقسمة وفيما بينها بسبب الاختلال الكبير في التوازنات الاجتماعية والمذهبية والدولية الذي سيثيره. والسبب.
أولا أن الدول المولودة حديثا، أي دولة، تحتاج إلى عقود طويلة قبل أن تجد المجتمعات التي تعيش ضمن حدودها توازناتها الداخلية، وتسن قاعدة ثابتة للتعامل والحياة المشتركة، وعقودا أخرى حتى تكتسب دورها وموقعها المعترف به والمقبول من دول الإقليم. وخلال هذه الفترة تعيش المجتمعات نزاعات وأحيانا حروبا أهلية عنيفة، وهذا هو وضع سورية اليوم التي لم تخرج بعد من الصراعات الداخلية للوصول إلى توازن يرسو على أساسه تفاهم وطني شامل يلتزم بمبادئه جميع الأفراد يحفط حقوق كل واحد منهم، ويوفق بين الجماعات المتنافسة، ويقيم حياة وطنية ثابتة ومستقرة. ولو انقسمت سورية الآن سيعني ذلك تحطم البنية الوطنية السورية التي بذل الكثير من الجهد والتضحيات لبنائها قبل أن تقوضها مطامع نخبة جاهلة وفاقدة لمعنى الوطنية، وسيطلق ديناميات حروب جديدة داخل الأطراف المتباعد والمتناثرة والمتصارعة على الموارد والسلاطة، وسنقضي عقودا طويلة إضافية في كل جزء منفصل لايجاد توازن مستحيل التحقيق. ولأن الوصول إلى مثل هذه التوازنات البنيوية والتفاهمات الوطنية اصعب في البلدان الصغيرة المعرضة لأن تكون مناطق تجاذب وتنافس بين الدول الاقليمية الكبرى، ستكون الحرب أشد عنفا داخل الدول المنقسمة الصغيرة وفيما بينها وعليها.
ثانيا أن التقسيم يشرع الأبواب واسعة أمام استخدام الدويلات الصغيرة التي لا حظ لها في البقاء مع السيادة للصراع بين الدول الإقليمية الاكبر على جذبها واستخدامها كأدوات في استراتيجيات الهيمنة الاقليمية والدولية المتنازعة.وسيعمل هذا على تفاقم الأزمات وتنامي النزعات للحروب والاقتتال، وبالتالي حرمان الشعوب من حقها في التقدم و إدانة المنطقة كلها بالتخلف والتقهقر.
ولا تستقيم مقارنة الأوضاع عندنا بما حصل في اوربة الشرقية.فمن جهة، لم يولد الانقسام في منطقة شرق أوربة لم نزاعات جديدة لأنه حصل في منطقة زالت أسباب التنازع على الهيمنة الاقليمية فيها مع زوال الحرب الباردة، ولم يعد هناك سوى التنافس الاقتصادي في ما بينها. بينما تقع المنطقة العربية في بؤرة النزاع على الهيمنة بين الدول الإقليمية المتنافسة وبين القوى الدولية التي نقلت محور نزاعها من مناطق مثل أوربة الشرقية إلى الشرق الأوسط. ومن جهة ثانية لم يؤثر التقسيم سلبا على امكانات التطور والتنمية للدول الصغيرة الجديدة ولكنه فتح افاقا اوسع لها باندراجها في اقتصاد الاتحاد الاوروبي الذي قدم لها ولمجتمعاتها فرص نمو استثنائية، ونمى لدى شبابها اتجاهات ايجابية متمحورة حول تحسين شروط حياتها بدل النزاع والاقتتال الدائمين.
ثالثا أنه في منطقتنا حيث توجد مشاريع هيمنة إقليمية معلنة، من اسرائيل إلى ايران إلى تركيا، وتنافس بين الدول الكبرى على النفوذ في إقليم يزخر بالنزاعات غير المحسومة، بما فيها سياسات الطاقة والمسألة اليهودية وغيرها، يقود تقسيم سورية إلى فتح باب مواجهات استراتيجية وجيوسياسية ستحول أراضي جميع الدول المجتزأة إلى ميدان حرب دائمة، وسوف يفاقم ذلك من مستويات العنف وأسباب الاقتتال. وربما لن تهدأ الحرب بين الجميع لعقود طويلة. وسنذهب نحن جميعا كحطب لوقود حروب الدول الإقليمية الكبرى المتنافسة.
ورابعا لأنه ليس هناك لأي جماعة وطنية أن تحظى بالاستقرار ما لم تنجح في أن تنمي داخل حدودها قيم العصر ومعاييره في ما يتعلق ببعث الثقة بالأمان والإطمئنان لدى الانسان، واحترام حقوقه الأساسية، والتمسك بمعايير المواطنة، بما تعنيه من حرية ومساواة وعدل وكرامة، وخلق فرص حقيقية للارتقاء بمستوى حياة الناس إلى المستوى الذي يرضي طموحاتهم في عصر العولمة والانتفاح المتبادل. وليس من الممكن تحقيق معدلات معقولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية في دول تتحول إلى غيتيوات أو معازل مذهبية أو عشائرية أو إتنية. يحتاج التقدم الحضاري اليوم إلى شروط لا يمكن أن تحققها إلا المجتمعات الواسعة التي تستطيع أن توفر فرصا أكبر للاستثمار المنتج والمربح في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والعلمية. لذلك، لايمكن لتبني خيارات تدفع إلى المزيد من تفتيت الجهود وتشتيت القوى أن يساهم في تحرير الشعوب، وإنما يحررها تجاوز منطق المعازل والغيتوات والحدود الضيقة المغلقة، وتوسيع دائرة الاستثمار و الانتاج والبحث والتفكير. فهذه هي اليوم شروط تنمية الابداع والتقدم والارتقاء بمستوى حياة ووعي الأفراد.
لربح معركة السلام والاستقرار الدائمين، وفي إثرها معركة الكرامة والحرية والتفاهم بين الأفراد والجماعات، ينبغي ضمان التقدم الحضاري الذي يفتح آفاق التقدم الاجتماعي للجميع، وبناء دول قائمة على احترام حقوق الانسان، وتجاوز مفهوم دويلات الطوائف والعصبية الطبيعية، القائمة على الولاءات القبلية أو الدينية او المذهبية، التي هي المولد الدائم للحروب الدورية الداخلية والإقليمية. فلا يمكن لدولة تقوم على العصبية المذهبية او القبلية أن تنتج مواطنة أو حقا إنسانيا. إنها لا تنتج إل الإحباط والتوتر والنزاعات الداخلية، لأنها تعجز عن خلق النسيج الوطني الذي يثمر في المواطن والانسان، ولا تقوم إلا على نظام الولاءات المذهبية والعشائرية والزعامات المكرسة والثابتة التي تعيد طبيعة العلاقات بين الأفراد إلى عصر القبيلة والاقطاع. وأمامنا أفضل شاهد على ذلك تجارب لبنان منذ تأسيسه، والعراق المقسم الذي أنتجه الاحتلال، والذي تسعى إلى تكريسه اليوم سياسات الهيمنة الايرانية.