لماذا يودي بنا حبّ سورية الى الموت؟
عناية جابر
كانت فتنة الشاب السوري هي التي تُملي عليه هتافهُ. يحدس أنهُ يموت، سائراً في التظاهرة، مقدماً نفسهُ تحت أنظار العالم، لوابل الرصاص المنهمر على المتظاهرين، لا لكي يؤلف صورة للبسالة لأجل الساعة الأخيرة، وإنما لأن جمالهُ الجسدي المتكبّر جعلهُ يشمخ برأسه عالياً، يشّد جذعهُ ويهتف لحرية سورية، أيضاً يرمي حجراً بإعتباره رصاصة، ويسحق فتيلاً حارقاً تحت كعبه.
حركات تنسجم مع تحديقه الى كاميرا جوّال لأحدهم، ومع القالب المتناغم لمجمل جسده وقسمات وجهه. بطولته لم تكن مجرد وقفة متكلّفة، ولا منتحلة. كان جميلاً ويهتف من أجل سورية جميلة، لكي يكون جديراً بجماله، ليُضاعفهُ، ليتجلى جمالهُ أكثر في هتافه لها، يُغذّيها، يملأها.
تحت الرصاص كغيمة حديد من السماء، حاجة الشاب الى الرقة والحماية، دفعتهُ الى التراص مع ناس المظاهرة، بعد أن كان يسبقهم قليلاً. إنه يحمل روح سورية. ومن الطبيعي لمن أُهين، إهانة تفوق الجنون، ان يُثير الحزن في الناس المهذبين، لكنه أثار إعجابي العميق وتعاطفي. تحت غيمة الحديد تلك، ترّاصت الأكتاف وعلت الحناجر
واختلطت الجموع، يهزّها خطابها العاطفي، وتختبر رجع أصواتها التي كانت نسيتها تماماً.
انهمر الرصاص على الحشد من أعلى السطوح. شعرت بالخجل لأني لست على مقربة، خلف نافذة أو أقف على رصيف، أدعم هتافي المحبوس بغناء من القلب، لسورية نفسها، سورية فيروز والجمعة العظيمة و’اليوم عُلًق على خشبة’. سورية الملاذ، وسورية التي في البال، وسورية التنّهد المطمئن.
رؤية الشاب الجميل ممدّدا على الأرض في اهتزاز الكاميرا، ويُحرّك الإهتزاز بركة الدم التي تحضن رقادهُ، أجمل وأخطر صورة شهوانية للكرامة الإنسانية. صورة طلعت من المهرجان الداخلي لأحلام شاب أعزل وجميل. لماذا لهذا الدم تحديداً كل هذه الحُمرة القانية؟ ولماذا مُخضّباً هذا الميت أكثر من كل الموتى الذين رأيت؟
علاقة الدم بالهتاف، علاقة نافرة تجعل من الأجساد المطروحة في الشوارع، أشبه بالدمى، علاقة هوليوودية مغالية في هوليووديتها، إذ ما علاقة الهتاف ببحر الدماء هذا؟
ما علاقة القبضات المرفوعة بكل هذا الموت؟ يبدو التحسّر على فكرة سورية أكثر من التحسّر على سورية نفسها، ثم.. وبعدين؟ أريد حصتي من هذه الفكرة وهذا الحنين!
هل من المؤكد تماماً أن الحزن يكون أعظم إذا كان الإنسان أشدّ وعياً به؟ الوطن يكون أجمل حين نحبُهُ حقاً؟ إننا نعي الحزن، ونحب وطننا حين تكون أذهاننا مركزّة عليه، حين نتفحص الوطن بروح متوترة لا تهن. الحزن يُذبلك كشمس تنظر في وجهك، وتنهشك نارها حتى أني وقد رأيت الى موت الشاب، بقيت زمناً طويلاً أشعر بإلتهاب في جفنّي.
اننا نعاني لأننا غير قادرين على النظر الى أسانا بثبات. ناس المظاهرة السورية يظنون أن تغيراً بسيطاً يُدّمر عدم الإرتياح، ويجعل كل سورية تلتئم كقبضة مشدودة. بدون التغيير ما من شيء بعد له معنى.
إن اشمئزازي وحزني العميقين، جاثمان من قبل أن أرى جثة الشاب الهامدة. أليس ذلك لأني أُقرّبُ وضعي من وضعه، لأن كل شيء في داخلي مقفر؟ حتى أن عزلته وموته أقلّ فداحة. عزلة مع فُجاءة الموت، تُجمّد قلب الميت! هذا العالم العربي الخالي من المرح، ومن الحرية، وأستلّها الآن ببطء من ذاتي نفسها، أنظمها كقصيدة وأهديها للشاب المطروح غدراً. موتهُ أتاح لمرارتي فرصة التدّفق، ولكلماتي هذه أن تتحدّث عنه.
منذ أن بدأت الكتابة عن الشاب الجميل الذي تهاوى تحت وابل رصاصاتهم، الكتابة المكرّسة بأكملها لتحية شخص ميت أقيم معه صلة حميمة، وأنا مغمورة بإثارة إستعارة موته، متدّثرّة بحجة غيابه الذي هو غيابي. حين يُقتل شاب لأنه يحّب بلده، فالعالم يزداد ثقلاً ويأساً. موته’يدفعني نحو جرأة اعظم، ولديّ من القوة ليس فقط لأقوم بإرتكابات بائسة، وإنما أيضاً لأهين دون وجل الإنسانية كلها، أهينها وأدمرّها. انني ثملة بالحقد، بالعنف، باليأس.
الهتاف هو الكلام العالي، والكلام يقتلُ، يُسمّم، يبتر، يشوّه ويقوّض عروشاً راسخة. وفي عالم عربي تنقصه الإستقامة والرأفة، يطلقون النار على من يهتف، يتكلّم ويرفع الصوت. الأنظمة الطاغية متآلفة مع العار كتآلف السمك مع الماء، وكل ما على ‘الهتيفة’ فعلهُ لبلوغ نصرهم، هو أن يتزيّنوا بفضائل الصوت، فضائل الصوت العالي لكي يزيلوا سوء الطالع هذا، فلا تبقى بعد هذه المذلّة، هذه الدموع والغضب.
من عدسة تليفوني المحمول، كنت أرى كلماتي التي كتبتها للتوّ، تحوّم في حضور جثة الشاب المقدّسة.الموت أوصد بابه على الميت، وساءلتهُ من خلف الباب الموصد محملّة صوتي كافة أنواع الحيطة الممكنة : لماذا أودى بك حب سورية الى الموت؟ لكن الباب العملاق حال دون أن أسمع إجابة ما. بقي الميت يحتفظ بسّر لا يسمح إلإ لرائحة خفيفة بالتسرب إليّ. رائحة ذات رهافة مدهشة حتى أنني تساءلت عن الألعاب التي تُمارس في قبور الموتى.
القدس العربي