لمن تدق الأجراس في سوريا ؟
وحيد عبد المجيد
لا حل اليوم أو غداً في سوريا. هذا ما يستفاد من لقاء جنيف الذي عُقد يوم 11 يناير الجاري وانتهى بلا نتائج، كما من اجتماعات ومؤتمرات سابقة. ويعني ذلك أن الاستقرار في الشرق الأوسط سيبقى بعيد المنال لفترة غير معلومة.
ويزداد خطر استمرار هذا الوضع لأن المنطقة تمر في مرحلة انتقال نتيجة التداعيات السلبية الكثيرة والإيجابية القليلة لما أُطلق عليه «الربيع العربي». ولذلك فعندما يستعظم بعض السياسيين والمراقبين المقارنة بين الصراع الداخلي في سوريا الآن والحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي، ويرون فيها «تهويلًا»، فهم يهوِّنون على الأرجح ويقللون حجم أزمة قد تفوق آثارها ما حدث في حروب أهلية سابقة.
فلا مبالغة في المقارنة بين سوريا اليوم وإسبانيا الأمس. ومع كل يوم جديد، يبدو الصراع السوري أكثر شبهاً بالحرب الأهلية الإسبانية. خذ مثلاً مشاهد الطائرات التي تقصف المدنيين وتدمر المنازل والطرق. ألا تُذكِّر بما حدث في مدن إسبانية، مثل مدينة جرفيكا التي خلَّدها الفنان الكبير بيكاسو في إحدى تحفه؟
لذلك ربما لا يكون السؤال الأساسي اليوم هو عن استمرار الصراع السوري أو إنهائه، بل عن المدى الزمني الذي سيستغرقه، والآثار التي ستترتب عليه عربياً وإقليمياً كذلك.
فقد أصبح واضحاً أن سوريا ليست ليبيا، ولن تكون، وأن التدخل العسكري ليس وارداً. فالدول التي تدخلت في ليبيا وعجّلت بحسم الصراع وإسقاط نظام القذافي، ليست مستعدة لعمل مماثل في سوريا. والدولة الوحيدة التي تبدو حكومتها مستعدة للتدخل، وهي تركيا، يرفض معظم شعبها -وفق استطلاعات الرأي العام- التورط في صراع لا يعرف أحد متى وكيف يمكن أن ينتهي.
ولا نتيجة لهذا كله إلا استمرار الصراع لفترة يصعب توقع مداها. فلم يتمكن نظام الأسد من إنهاء الاحتجاجات على مدى ما يقرب من عامين. وأخفقت استراتيجيته القائمة على القوة الطاغية باستخدام أسلحته الثقيلة ومدرعاته وطائراته. ونجحت شبكات المحتجين الحيوية والمؤلفة من خلايا صغيرة في تجنب معظم الضربات المدمرة الموجهة ضدها، وفى زيادة معدلات هجماتها المضادة بالتوازي مع توسع نطاق الانشقاقات في قوات النظام.
والواقع أن الجيش السوري، مثله في ذلك مثل القوات المسلحة في الدول الأخرى، منظم في إطار وحدات واسعة ذات قدرة نارية فتاكة. لكن عددها قليل مقارنة بخلايا ووحدات المحتجين الأصغر حجماً والأكثر حيوية ومرونة وقدرة على الحركة السريعة. وقد زادت فعالية هذه الوحدات تدريجياً نتيجة اكتسابها مهارات حرب المدن والشوارع وحصولها على مدافع مضادة للدبابات، وتنامت قدرتها على أن تفاجئ قوات النظام في أكثر من موقع في الوقت نفسه كما تفعل خلية النحل.
ولم يجد النظام السوري وسيلة مناسبة حتى الآن لتقسيم قواته إلى وحدات أصغر حجماً، دون أن يحمل ذلك في طياته خطر المزيد من الانشقاق عنها. ويبدو أن إحدى مهام كوادر «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» التي ذهبت إلى سوريا هي مساعدته في ذلك وتقديم الخبرة المكتسبة من تجربة مواجهة القوات الإسرائيلية خلال الحرب على لبنان صيف عام 2006.
لكن الفرق شاسع، بل يبدو الوضع معكوساً لأن الأسد لا يواجه القوات الإسرائيلية التي تشبه إلى حد كبير قواته من حيث تنظيمها، بل يسعى إلى قمع محتجين منظَّمين في خلايا ووحدات صغيرة ويجيدون حرب الشوارع والمدن. لذلك فهو يحتاج إلى خبرة في مواجهة عناصر غير نظامية وليست قوات تقليدية.
والأكيد أن المستشارين الإيرانيين واللبنانيين يقدمون له نصائح مفيدة، لكنها لا تكفي لتحقيق تفوق حاسم في الميدان. وربما يكون الروس أكثر قدرة على مساعدته في مواجهة المحتجين اعتماداً على تجربتهم في الشيشان. فبعد أن طرد مقاتلين غير نظاميين الجيش الروسي من الشيشان عام 1995، غيّرت موسكو استراتيجيتها وأنشأت شبكة من الوحدات الخاصة الصغيرة التي نجحت في حسم المعركة.
لكن الظروف مختلفة كثيراً. فقد كان بإمكان النظام الروسي أن يغير استراتيجيته دون ضغط على مدى ثلاث سنوات. فلا يمكن إنشاء شبكة فعّالة من الوحدات الخاصة في أسابيع أو أشهر قليلة، وفي وسط العمليات القتالية. فعندما يقترن تغيير الاستراتيجية العسكرية بإعادة تنظيم القوات، لابد من وقف الهجمات التي تشنها هذه القوات. وهذا أمر مستحيل بالنسبة لبشار وقادته العسكريين اليوم.
غير أن عدم قدرة النظام السوري على الحسم لا تعني أن معارضيه في وضع أفضل كثيراً. فرغم صمودهم في الميدان ونجاحهم في إحباط الهجمات المدمرة التي استهدفت وحداتهم المقاتلة، فهم أيضاً لا يملكون قدرةً على حسم الصراع حتى الآن.
فالقاعدة العامة المستخلصة من تاريخ الصراعات الداخلية الكبرى من هذا النوع، هي أن المحتجين الذين يخوضون حرب المدن والشوارع لا يستطيعون الانتصار إلا إذا تمكنوا من خلخلة القوات النظامية عبر إضعاف روحها المعنوية. فهذه القوات لا تُهزم إلا إذا أصابها الإحباط واليأس وبلغت الانشقاقات في صفوفها معدلًا يصيبها بالانهيار. وليست هناك مؤشرات أو معطيات تفيد بإمكان حدوث ذلك في أسابيع أو شهور قليلة.
ولا ننسى أن معظم القادة المركزيين والميدانيين يربطهم انتماء طائفي ويخوضون ما يعتبرونه معركة حياة أو موت. كما لا تزال فكرة «المؤامرة الخارجية» تجد قبولاً في أوساط القوات النظامية من خلال تعبئة معنوية وسياسية قوية ومستمرة. وستظل إيران وروسيا تغذيان ترسانة هذه القوات لفترة طويلة على الأرجح.
ويُضاف إلى ذلك عجز السياسيين السوريين المعارضين في الخارج عن حل خلافاتهم وتوحيد خطابهم وتنظيم تحركاتهم الكثيرة العدد والقليلة الأثر بسبب ما يشوبها من عشوائية وعدم تنسيق ودخول عدد من العواصم على خطها بدون رؤية واضحة.
كما أن وجود مقاتلين من بلاد أخرى في أوساط الوحدات التي تقاتل ضد نظام الأسد يثير قلقاً ويزيد صعوبة التدخل الخارجي ويضع سقفاً لخيار تطوير تسليح المعارضة وتدعيم قدرتها عبر إنشاء مناطق آمنة ينطلقون منها.
وقد زاد القلق الدولي بعد الهجمات التي تعرضت لها السفارات والقنصليات الأميركية في بلاد «الربيع العربي» احتجاجاً على فيلم مسيء للرسول عليه الصلاة والسلام في 11 سبتمبر الماضي والأيام التالية.
لذلك بات ضرورياً أن يقود قادة الدول العربية الأكثر استقراراً، حواراً جاداً للتفاهم بشأن سيناريوهات الوضع في سوريا وانعكاساته المحتملة على المنطقة، إلى أن تأتي الإجابة على السؤال الذي ظل مطروحاً في إسبانيا لسنوات طويلة وهو: لمن تدق الأجراس؟
الاتحاد