لمن تدق الأجراس في سورية
دومينيك مويزي
مع كل أسبوع يمر، يصبح الصراع السوري أكثر شبهاً بالحرب الأهلية الإسبانية، بل إن صور الطائرات الحربية وهي تقصف المدنيين وتدمّر المدن حولت مدينة حلب إلى نسخة جديدة من مدينة جرنيكا، التي خلدها بيكاسو في تحفته، ولكن أوجه التشابه الحقيقية بين الصراعين تكمن في سلوك الجهات الفاعلة الرئيسة في المجتمع الدولي، الذي اتخذ مرة أخرى موقفين متناقضين.
فعلى أحد الجانبين تقف روسيا وإيران، المصممتان على دعم نظام الرئيس بشار الأسد، وعلى الجانب الآخر تقف الأنظمة الديمقراطية الراسخة، المترددة والمتفاوتة في مستوى دعمها للمتمردين. في إسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، دعمت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية بشكل كامل تمرد الجنرال فرانسيسكو فرانكو، في حين عرضت الدول الديمقراطية على مضض قدراً ضئيلاً من العون على الجمهورية الإسبانية.
وهناك أوجه تشابه أكثر عمقاً، فقد زعم كثيرون في ذلك الوقت أن دعم إسبانيا الجمهورية يعني تقديم العون للفوضويين والشيوعيين الأشد خطورة في وقت كان التهديد السوفياتي في أوروبا ينمو بشكل ملحوظ، وبهذا المعنى فقد تحول “الشيوعيون” بالأمس إلى “الأصوليين الإسلاميين” اليوم.
والواقع أن العديد من المراقبين اليوم يرون أن مساعدة المتمردين السوريين أمر محفوف بالمخاطر، بل ربما يعرض الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط للخطر، ورغم أن النظام السوري بغيض فإن الاختبار الآن، كما يزعمون، أصبح بين الأمل الافتراضي في الديمقراطية في العالم الإسلامي والخطر الحقيقي المتمثل بتعريض أرواح المسيحيين للخطر، وعلى هذا فمن المؤسف أن المرء مضطر إلى اختيار الوضع الراهن.
لا شك أن التردد الغربي يعكس أيضاً عوامل استراتيجية ودبلوماسية أشد عمقاً، والواقع أن نظام الأسد كان يعتزم بإسقاطه الطائرة الحربية التركية التي تجولت في الأجواء السورية بث رسالة تحذير واضحة إلى المجتمع الدولي مفادها: “لا تقتربوا من شؤون سورية الداخلية”.
إن سورية ليست ليبيا، فقد تغير السياق السياسي بشكل ملحوظ، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية واشتداد الأزمة الاقتصادية في أوروبا. ويبدو أن روسيا والصين تعتقدان أن الوقت قد حان للانتقام من الغرب المتغطرس الذي خدعهما وغرر بهما فيما يتصل بالغرض الحقيقي من “التدخل الإنساني” في ليبيا.
هذه المرة تحمل روسيا والصين بطاقات أفضل، ففي وقت يبني الرئيس الأميركي باراك أوباما حملته جزئياً على سحب القوات الأميركية من العراق فضلاً عن خطته الرامية إلى سحب القوات من أفغانستان أيضاً، فإنه لا يستطيع أن يجازف بالتدخل في سورية. ومن ناحية أخرى، يناضل الاتحاد الأوروبي من أجل البقاء، ولا يمكنه تكريس طاقاته لمعركة غير مؤكدة النتائج. وبالنسبة إلى الغرب عموماً فإن توقيت انتفاضة المتمردين السوريين ما كان من الممكن أن يصبح أسوأ على الإطلاق.
ولكن على الرغم من الانقسامات العميقة في صفوف الثوار، فإن تكاليف التقاعس الغربي قد تكون أفدح من خطر التدخل، والواقع أن المجتمع الدولي لم يعد قادراً على الاستمرار في التخفي وراء ذريعة الجهل، فقد خسر براءته قبل عقدين من الزمان، ولم يعد بوسعه عندما يواجه بمذابح المدنيين أن يتظاهر بأنه لا يعرف. ولكن وراء الجوانب الأخلاقية، هناك اعتبارات جيوسياسية، ففي ظل الاضطرابات التي يعيشها العالم العربي، ما هي الرسالة التي يريد الغرب إرسالها؟ ومع التغيرات المستمرة الطارئة على موازين القوة العالمية، فما الرسالة التي يبعثها الغرب إلى الأنظمة الاستبدادية التي تساند الأسد؟
إن هذه الأنظمة لن تقرأ تردد الغرب إلا بوصفه إشارة خضراء لتنفيذ أجنداتها الهازئة، وهذا أمر خطير في حالة إيران بشكل خاص، فكلما أبدى الغرب قدراً أقل من العزم والتصميم في سورية، أصبح الإيرانيون أكثر اقتناعاً بأنهم قادرون على اللعب بأعصاب المجتمع الدولي وتجربة صبره إلى ما لا نهاية.
ومع استمرار روسيا وإيران في إرسال الأموال والأسلحة، إن لم يكن المستشارين العسكريين، إلى سورية، فمن المستحيل أن نستمر في استخدام لغة النفاق التي لا يمكن تفسيرها إلا باعتبارها صيغة للتقاعس عن العمل. وتهديد النظام السوري “بعواقب وخيمة” إذا استخدم الأسلحة الكيميائية لا يعني غير شيء واحد: “اقصفوا مواطنيكم بالقنابل كيفما شئتم، ولكن لا تستخدموا سوى الذخيرة التقليدية”.
لقد حان الوقت لتزويد المتمردين بما يحتاجون إليه بشدة: الصواريخ المضادة للدبابات والصواريخ أرض جو، ولا شك أن مثل هذا الاختيار لا يخلو من المخاطر، فهل نعرف الأشخاص الذين نريد مساعدتهم؟ أليس من الممكن أن تُحَوَّل هذه الأسلحة باتجاه الغرب ذات يوم، كما حدث في أفغانستان؟ وبتوريط أنفسنا عسكرياً في الصراع، حتى لو بتزويد المتمردين بالمؤن، ألا نعطي دفعة دعائية للجماعات الإرهابية التي هي على استعداد بالفعل لشن هجمات في الغرب؟
رغم كل هذا فإن مخاطر السلبية والتردد والتنافر أعظم كثيراً، وكلما طال انتظار الغرب، أصبح المتمردون أكثر تطرفاً، وهو ما من شأنه أن يضعف موقف القوى المعتدلة ونفوذها.
إن منطق التدخل يمر عبر دورات، ففي أعقاب الإبادة الجماعية في رواندا وأزمة اللاجئين التي ترتبت عليها ثم اندلاع الحرب في منطقة البحيرات العظمى في إفريقيا الوسط في تسعينيات القرن الماضي، أدى مزيج من الشعور بالذنب، والازدهار الاقتصادي، ومكانة أميركا الدولية الفريدة إلى التدخلات في كوسوفو، وأفغانستان، وللأسف العراق. واليوم نمر بدورة مختلفة تماماً يخيم عليها شبح العراق، والأزمة الاقتصادية العالمية، والانحدار (النسبي) في الغرب.
وعندما يتعلق الأمر بالتدخل اليوم، فإن احترام الشرعية يتغلب على المخاوف المتعلقة بالمشروعية والتي كانت سائدة قبل عقد من الزمان، فقد انتقلنا من نقيض إلى آخر، في حين كان سلوك طريق وسط هو التصرف الأكثر حكمة.
ولكن في المقام الأول من الأهمية، لا ينبغي لنا أن ننسى دروس الحرب الأهلية الإسبانية، فمن الخطورة بمكان في كل الأحوال أن نعطي انطباعاً بأننا أول المترددين عندما نجد أنفسنا في مواجهة الأنظمة الاستبدادية.
* مؤسس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وأستاذ بمعهد الدراسات السياسية في باريس، وهو مؤلف كتاب “الجغرافيا السياسية والعاطفة: كيف تعمل ثقافة الخوف والإذلال والأمل على إعادة صياغة العالم”.
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
الجريدة