لمن تُقرع الأجراس؟/ أمجد ناصر
يقال إن كلمة “لغة” العربية مأخوذة من اللفظة اليونانية “لوغوس” التي قد تعني الكلمة أو العقل (الكليّ) لكن جذر “اللغة” موجود، عربياً، وهو “لغا” الذي قد يعني الهذر وما لا طائل من ورائه، أو نباح الكلاب، أو لغط القطا أو الحيدة عن صحيح الرأي!
الأفضل، إذن، الأخذ باللفظة المشتبه بنسبتها إلى اليونان (لوغوس) وحملها على معنى “الكلمة”. فذلك أكرم لـ “اللغة” ولنا، بدل أن تكون بمعنى اللغو وما لا يعول عليه من الكلام.. أو نباح الكلاب!
الغريب أن مادة “لغا” لا تؤدي، في أي اشتقاق لها، وفي أي تركيب لغوي تدخل عليه، المعنى الذي نقصده اليوم: اللغة. وبهذا المعنى أكد الباحث المصري الراحل الدكتور حسن ظاظا في كتابه “اللسان والإنسان: مدخل إلى معرفة اللغة” عدم وجود شاهد واحد، في الأدبيات العربية القديمة، على استعمال أسلافنا لكلمة “اللغة” بهذا المعنى الاصطلاحي الذي هي عليه اليوم، ، ليقرر بعد ذلك أن أصل كلمة “لغة” يوناني من “لوغوس” التي تعني الكلمة أو الكلام، أو العقل.
أما الكلمة التي استخدمها العرب للدلالة على معنى “اللغة” الذي نعنيه اليوم فهي: اللسان. وبصرف النظر عن أصل كلمة “لغة” فقد اهتم العرب بالكلمة، وبالغوا بالاحتفاء بها فأعطوا، بكرم حاتمي، مائة معنى، أحيانا، لكلمة واحدة.
ولكن هذا حدث قديما، عندما كان هناك فقه واجتهاد ونظر وعلوم ومناظرات واحتكام لأصل ومرجع، عندما كان يمشي الشاعر، العالم، الفقيه، الصوفي، الطبيب، الفلكي، مائة يوم بلياليها كي يتحقق من لفظة، معنى، معلومة، مخطوط.
تلك أيام كانت اللغة واسعة سعة الجغرافيا والبشر اللتين تتحرك فيهما، وحيّة حياة الأنهار والبحار والسهول والصحارى والأشجار والمدن والغيوم وطرق التجارة والسيوف والأقلام والإسطرلابات والجياد التي تنبض تحت شمس تشرق بالقرب من سور الصين وتغرب وراء جبال البرانس.
هذا يعني، بداهة، أن اللغة ثمرة واقع أهلها وخيالهم. فما هو، اليوم، واقع أهل العربية وخيالهم؟
ليس أدل على حال لغتنا، وغربتها بين أهلها، من قيام مؤسسات حكومية ومدنية عربية بتعيين يوم خاص من أيام السنة للغة العربية، أو تشكيل مجالس وهيئات لـ “حماية” اللغة العربية، ثم وصل الأمر إلى قيام اليونسكو بإعلان يوم عالمي للغة العربية (هو الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول)، ناهيك عن حملات متحمسة ومتقطعة هنا وهناك للكتابة بالعربية والتكلم بها بدلا من اللغات الأجنبية (الإنجليزية تحديدا، لغة التكنولوجيا).
هذا التواتر في “الاهتمام” و”العناية” باللغة العربية دليل على أمرين: الأول سيئ، ويعكس حجم التحديات التي تواجه لغتنا في هذه “العولمة” التي ظاهرها “تشارك” و”تبادل” في الإنتاج المادي والمعنوي، وباطنها (حقيقتها الفعلية) سيطرة وإقصاء للأضعف.
أما الثاني: فهو جيد لأنه يبدي أمارات على حياة هذا الجسد الجغرافي والبشري المسمى العالم العربي الذي يتوسط “العالم القديم” ويتوافر على أهم ثرواته، ويضم كتلة بشرية شابة وضخمة العدد (نحو 350 مليون نسمة).
لن أعدد المبادرات والمؤشرات الإيجابية الأهلية والحكومية، فليس هذا مجالها، وسأكتفي بمساهمة فردية مفاجئة قدمها لنا روائي وقاص وليس من “أهل الاختصاص” هو الكاتب السوري رفيق شامي الذي يقيم في ألمانيا منذ نحو أربعين عاما ووضع أعمالا روائية باللغة الألمانية لاقت نجاحا عالميا.
كل كتب رفيق شامي السابقة -حسب علمي- روائية وحكائية وكلها أيضا كتبت باللغة الألمانية إلا كتابه الذي هو محور حديثي الآن “قرعة جرس لكائن جميل” (دار الجمل، 2012). فهذا هو عنوان الكتاب المكرّس للغة العربية، الكائن الجميل على حد تعبيره، المعرض لإهمال أهله ويحتاج، لهذا السبب، إلى أكثر من قرعة جرس واحدة، بل إلى قرع أجراس عديدة على نحو متواصل كي يصحو ذووه على حجم المخاطر التي تتهدد وجوده.
يتكىء رفيق شامي في عمله “البحثي”، المبحر في فضاءات الخط العربي وتاريخ اللغة العربية وحاضرها، إلى أقوى أدواته: السرد الحكائي، إذ يبدأ هذا الكتاب الفريد من نوعه بلقاء يغير مسار حياة سارده وينتهي، في التفافة دائرية واسعة الفرجار، إلى النقطة التي انطلق منها: الأمير الذي يقص عليه حكايته، وفصول كتابه، في استيحاء لأساليب السرد العربي الكلاسيكية (شهر زاد في ألف ليلة وليلة، أبو حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة”).
لكن ذلك “السرد” الحكائي ليس سوى الوعاء العام الذي ينسكب فيه مقصد الكتاب وغايته: واقع اللغة العربية المزري وسط أهلها وسبل إعادة الاعتبار إليها في عالم تكتسحه التكنولوجيا ويهرول، من دون التفات للوراء، صوب آفاق لن يصل إليها إلا من تسلح بعلوم العصر ووطد الذات ليس على البقاء فقط بل على خوض هذا الماراثون المفتوح.
من الصعب، هنا، عرض ما يحفل به الكتاب من معطيات وتحليلات وآراء لمختصين عرب في خصوص اللغة العربية وما تعانيه اليوم من إعاقات في تصديها للعلوم والتكنولوجيا على نحو خاص، فضلا عن تراجعها كلغة قراءة وتواصل وتعبير في عقر دارها، لذلك سأتوقف عند بعض ما يعرضه الشامي في كتابه الضخم (440 صفحة من القطع الكبير).
يقول السارد، على طريقة المؤانسات، لأميره، إن من الخطأ خلط اللغة بالدعاوى الأيديولوجية (القومية والدينية على السواء) التي تلجم اندفاعاتها نحو التجدد، وتحول دون انفتاحها على العالم، ولكن السارد لا ينسى وهو يدفع الدعاوى الإيديولوجية عن حق اللغة بالتحرر من الوصايات المفروضة عليها من خارجها، أن يرفض بشدة دعاوى معاكسة تبخس هذه اللغة وتستهين بها وتدعو إلى إحلال العامية (بوصفها لغة التخاطب اليومي) محلها، والتخلي عن الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني.
كاتب هذه السطور لا يعرف، للأسف، اللغة الصينية ولا طبيعة النقاش الذي يحتمل أن يكون دائرا حولها في أوساط النخبة الصينية، وإن كان يعرف من خلال احتكاكه ببعض الشعراء الصينيين المنفيين في أاوروبا أن النخبة الثقافية الصينية طرحت على نفسها، مثلنا، قضية التراث والمعاصرة، وتبنى بعضها قضية الحداثة الأدبية ونافح عنها بشدة في مواجهة دعاة “الأصالة” و”التراث”.
ولعبت ترجمات من الشعر الأوروبي (الملتزم فكريا غالبا) دورا في انفتاح القصيدة الصينية المعاصرة على فضاء الشعريات العالمية، واستغل مترجمون وشعراء حداثيون هذه “الثغرة” فوسعوا إطار تلك الترجمات لأسماء أوروبية أو أميركية لاتينية معروفة بمواقفها اليسارية وليس بشعرها “الملتزم” لكي يقفوا على أوسع مدى يمكن للسلطات الثقافية التابعة للحزب الشيوعي الصيني تقبله من شعر “الرفاق” الغربيين.
افترض انطلاقا من هذه المعرفة المحدودة بالحراك “الحداثي” الصيني أن اللغة الصينية المكتوبة بـ “كاريكاتير” وليس بالحرف كما هو حال لغتنا (بلادنا هي التي اخترعت الحرف والأبجدية معا) لم تقف حائلا دون أن تنافس الصين على الرقم واحد في الاقتصاد العالمي، إضافة إلى احتضانها معظم (إن لم يكن كل) خطوط تصنيع الأجهزة الإلكترونية المعقدة (حتى لو كانت مجرد تجميع).
لا يشذ رفيق الشامي عن كثير ممن تصدوا لموضوع اللغة العربية والتحديات التي تواجهها من موقع الحب والانتماء، عن القول إن الدعوة إلى تبسيط قواعد الفصحى لا تعني إحلال العامية محلها بل العكس.
ويقترح شامي أن يبدأ العمل على تيسير مناهج اللغة العربية من مقاعد الدرس الأولى، وعدم الاعتماد على كلاسيكيات كتب النحو والصرف والبلاغة التي ألفت من أجل العاملين في حقل اللغة والكتابة، ولم يكن مقصودا أن تتوجه إلى غير المختصين.
لذلك ينبغي العمل على إيجاد طرق أكثر سهولة ومناهج ميسرة توجه للتلاميذ في المراحل الأولى ضمن ما يسميه “واجبنا في تيسير دخول الأطفال إلى جنة اللغة بدل حرف مواهبهم وفضولهم للجديد في جهنم مستعصيات اللغة وحذلقات نحاتها”.
“قرعة جرس لكائن جميل” أكثر من مجرد استغاثة يطلقها كاتب عربي يكتب بالألمانية، ولكنه محب وغيور على لغته الأولى، إنه إلى ذلك عمل ممتع في القراءة ومشوق في عرضه وحكاياته وإخبارياته… من دون أن ننسى ما يسبغه الكاتب من مديح غامر على واحد من أهم فنوننا المهملة، أيضا: الخط العربي.
الجزيرة نت