لمّا تعطّلت لغةُ الكلام/ سحر مندور
كان عاماً صعباً على الغالبيّة، حتى في تحقيق إنجازاتها الصغيرة والكبيرة. كان عاماً يشوبه القلق، التوتّر، وقد طال الملايين بيننا ومنّا بالموت والنزوح والانهيار. لمّا يسكن المرء المحظيّ بالسلامة إلى جردة الحياة الخاصة، قد لا تكون المصائب كبرى كانهيار المجتمعات، لكن الضغط المحيط مؤثّر وفاعل. أن نحاط بأخبار الجريمة، أن نختبئ من أحوالٍ عظمى في بلادٍ حولنا، أن نُصاب في المدخول الشهريّ. أن نبقى على أهبّة الخسارة. ليس من السهل أن يحيا المرء في هذه المنطقة في هذا الوقت. ليس هذا من السهل أبداً.
استعمار الخيال
حالٌ كهذه تحتاج بشدّة إلى واحاتٍ آمنة، لكنّها كحالٍ ليست مؤهلة لتنتج واحاتٍ شبيهة. تلك الواحات محارَبة، وممنوعة، هنا، وهناك، وبأشكالٍ مختلفة. في لبنان، لمّا سعى بعض ناسه إلى خلق واحةٍ خارج السرديّتين الداميتين الحاكمتين، طُحِنوا وهم أساساً طريّيو العود. في مصر، شرّعت السجون أبوابها العشوائيّة، ومع كلّ إطلاق سراحٍ يأتي كـ «مكرمة» وهو حقّ، «يختفي» ناسٌ، يُعتقل ناسٌ، يُمنع ناسٌ، ولا ينمو اقتصادٌ للكثرة المنتظرة. في سوريا، لا حديثَ عن واحاتٍ، وإنما حول توصيف القتلى، حول مصير الأحياء. يخترق «الإنسانيّ» مساحات السياسة في سوريا، بينما «النخب» القطبَيّة التي أنتجها الوضع لا تشدّ إلا بعيداً عن بعضهما، لا تخاطب الكتل البشريّة. هذه الكتل صارت اختصاص الخطاب «الإنسانيّ». إلى ذلك، شهدت السنةُ الماضية ليلةً غاب عنها ضوءُ القمر فأعلنت فيها أغنى دولة عربيّة الحرب على أفقر دولة عربية، وهي تغرقها منذ ذلك الحين بالحديد والنار ليلَ نهار. يشقّ العراق ضنى السنين ليعلو منه صوتٌ لا يسلّم بالانهيار التامّ. هذا صوتٌ جميلٌ جداً، فهو يأتي من واحدٍ من أشدّ الأجسام صبراً وتحمّلاً. لم ننتهِ، لكن الواحات لا تأتي من النواحي التي تمتهن «السياسة»، مهما كان معناها المحليّ في حالٍ كهذه. الطيران المتعدّد الجنسيّات يخطّ السماء فوقنا. تغيّرت الدنيا بها، خلال الأعوام القليلة الماضيّة. وقد تغيّرت أمامنا في العام الماضي.
لم نغفل مفاجأة. لم نهضم غرابةً بلا استغراب. لكن المفروض علينا هو حيّزٌ خاصّ مراقَبٌ ومحكومٌ بعنيف الأدوات والضيق الفكريّ. لا نقاشات تهزّ الذهن ولا أفكار لامعة تعبر فوق رؤوسنا. لا نستظل بتحليلاتٍ ومقارباتٍ واقتراحات. المخيّلات وقعت تحت استعمار المعركة، بينما الأجسام لا تمتلك فيها قراراً أو حقّ المشورة حتى. الصياح، الحدّة، منع النقاش، جمود الشعار، جمود التحليل، جمود اللغة، كأنها أُصيبت بالأسمنت، كأنها وجدت فيه راحةً لها. تمرّ سنواتٌ وتزداد الأفكار وحدويّة، إقصائيّةً، تشنّجاً. كأنها وقعت في حدادٍ مُرّ أخرجها من سيلان الوقت والحياة. تغيّرت بنا الدنيا. لَهَت بنا الحياةُ، كما تقول الستّ أم كلثوم. وقد تأكدنا في العام الماضي وبتنا نعرف تماماً أن هذا الهائل الذي نعيشه ما هو إلا العابر في صياغة واقعٍ مختلف لم يحلّ بعد. في اليوم والغد المرعبَين، تُصاغ الحياة اللاحقة لكلّ هذه الحروب.
استفاقة «البوصلة»
في الحيّز العام للنقاشات هنا، يسود ثقل «البوصلة». هي، تعريفاً، تتحرّك تبعاً لموقع حاملـ /تها. لكنها في الاقتباس السياسيّ تصبح الوجهة الثابتة العابرة للمواقع والدنيا والصراعات والبشر، عادت لتَفرِضَ قولاً واحداً، يأمر بالالتصاق ويزجر الفوارق، مهما أتت دقيقة، وحقّها أن تأتي شاسعة. قولٌ يقفل على نفسه، يطرد. إن الفعل السياسي والرأي يمتلكان حصانة حريّة التعبير في الحيّز العام للمسؤوليّة المجتمعيّة التي يفترض بهما أن ينمّا عنها. لكن التطرّف الإقصائيّ أتى مستعمراً للحريّة ومتخفّفاً من الواقع. تُبنَى الحجج بترابطٍ ذهنيّ: هذا يُعتبر شهيداً ولو أجرم لأنه قضى فوق أرضه بنيرانٍ أعتبرُها عدوّةً، ولكنّي أُحجمُ هناك عن منح الصفة لذاك لأنه… وتتواصل الأبنيّة العشوائيّةُ في القراءات السياسيّة بهوس امتلاك طهرانيّة وجذريّة متخفّفة من مسؤوليّة الواقع الجاري.
اليوم، تبدو الأفكار هنا بعيدةً عن مجتمعٍ نشأ في كنف الحرب السوريّة، وباتت له طقوس وزوايا آمنة، مدنٌ وضواحٍ تغيّرت معالمها، علاقةٌ بالحياة اختلفت عمّا كانت عليه منذ خمس سنوات. هناك إقصاءٌ تامّ للواقع من الصياغة السياسيّة، وحصرٌ له في دور المثل الدال: تُستقى منه الأمثال التي تؤكد صدقيّة هذا التطرّف، هذه الحدّة، هذا الإقصاء، هذا الانفجار المسمّى رأي. لا بدّ أن في ذلك كله عواطفَ وديناميّات كثيرة تتفاعل، ولا بد أن الاشتباك مع واقعٍ كهذا يُنتج حالاتٍ قصوى. لكن أيضاً، لا شكّ في أن إسكات الصوت المجتمعيّ في معظم الخطابات المحليّة عن الحرب في سوريا هو فعلٌ سياسيّ. لغرز عقرب البوصلة في عمقٍ إقصائيّ، يجب الانصرافُ عن كمّ التناقضات والتشابكات والتطوّرات والتبدّلات التي تسود حالاً كهذه. الجمود يأتي «رغم الرياح»، وكأن هذه التغيّرات رياحٌ بين السحاب، لا يعيشها مجتمعٌ بات جماعاتٍ نزحت وتشتّتت في الداخل والخارج، وله فيها قولٌ. له فيها القول الأول، والقراءة النادرة والماسّة.
بداية الحريّة
عبر النقاشات، لا نتقدّم في المعرفة نحو فهم تعقيدٍ في مشهدٍ، كاغتيال قائدٍ عسكريّ كبير كان له جيش على الأرض. يراوح النقاش في شجارٍ بدائيّ همجيّ حول تعريف الميّت. وعبر النقاشات، لا يتمّ التدخّل الفعّال في إنتاج المعرفة عن الحرب والجريمة، وإنما يسود الانعزال الدفاعيّ: «قربانة» تُلقّم بين مؤمنين، يتناولونها في طقسٍ حصريّ، ثم ينبتون أنياباً كلما حدَثَ حدثٌ لدى «العدوّ». ردّ الفعل هو منهج السياسة السائد، والدوائر تضيق. والناس خارجها، إلا إذا التقوا على قولٍ معها أو حضروا كأمثلةٍ في سرديّاتها. هناك فجاجةٌ تجلّت في العام الماضي على مستوى النقاش العام. لم تَعُد العصبيّات مستثارة بين الكتل الشعبيّة: ظلّت قابلة للاشتعال، كامنة في راهنها لحين الحاجة أو الطلب، لكنها لم تعدْ تصنع الأيام، تعجنها في غضب. الحال ليست كذلك الآن، هنا. الشارع ليس غاضباً. ولم يأت ذلك من سأمٍ، وإنما من حجم المصيبة. والاشتباك ما عاد بديهياً: مثلاً، الاعتداد بالقوّة الروسيّة صار يحدّه الاعتداد الروسيّ بالتنسيق مع إسرائيل. العصبيّات موجودة، لكن مستوى الحدث بات مختلفاً. ما عاد يربط الأسماء والعائلات والمفكّرات المحليّة، بل بات أساساً يأتيها من أعلى. الطيران فوق هذه البلاد صار حربيّاً ومتعدّد الجنسيّات. وتفادياً للتعقيد والواقعيّة، التقت في الحيّز العام الأصوات المتحاربة على لغاتٍ جامدة، لغاتِ أنظمةٍ نثور ضدها، لغات تقوم على ربط الاختلاف بالخيانة. صارت هي التي تصنع هواء الحيّز العام، هنا.
كانت سنة 2015 صعبةً على الجميع، وهكذا نقول عن كلّ عامٍ مؤخّراً. العيش في هذه المنطقة في هذا التوقيت لا يساعد. كلّ شيءٍ مُساوَمٌ عليه. كلّ شيءٍ قد يكون مؤقتاً. استهلاكُ الطاقةِ ليس خياراً ذكيّاً، فامتلاكها امتياز. أما العنف اللفظي والقسوة ضد التفكير فلا مفرّ منهما، على ما يبدو، إلا بانصراف المزيد من الناس عنهما، مع الوقت. الواقع سيفرض ثقله أكثر، فهو واقعٌ وثقله سيتفاقم. وكذلك المنتفعون من تطرّف الخطاب إن بالراتب أو بالصورة أو بالأفق، سيستمرون في مصادرته، وإبعاده عن أرضٍ تتبدّل معالمها كلّ يوم. إلى جانب هؤلاء وأولئك أينما كانوا وكنّ، قد تطفو واحةٌ أرضيّتها موجودة في كلّ مجتمعٍ حولنا، لكنها ممنوعةٌ وما زالت عاجزةً أيضاً عن بلوغ السطح. في الحيّز العام، نحتاج واحةً تتأسّس في معاداة الظلم، ضد الديكتاتور، ضد القتلة، ضد التكفيريّين، ضد الاحتلال، وتجتهدُ في مقاربة الواقع، بلا حواجز قوامةٍ على الرأي تتطلب إثبات «الطهارة» وتفرض المراوحة عند الكلمة الأولى.
خلق الواحات حيثُ الكلام ممكنٌ، حيث الاختلاف مشتهى، وحيث النقاش حيويٌّ، قد يكون مخطّطاً مُغرياً للعام هذا، فيه شيءٌ من الأمان الطويل الأمد. خلق واحاتٍ يتواجد فيها مَن خفتت لديهم/ن الرغبة بدخول معترك «البوصلة» والتعرّض للتسكيت. لا جدوى من صرف الطاقة هناك، فضآلة الإنتاج الفكريّ والسياسيّ الراهنة تجعل من الحدّة تبذيراً لطاقةٍ عزيزة ونادرة. فلتستعر العصبيّات في المساحات الموازية للموت تماماً مثلما تفعل الآن، ولتتجوّل في البنى الذهنيّة المنفصلة التي يتيحها نسبيّ الامتيازات. بعيداً عن هذه الحال العقيمة، من المغري أن نوجد لأنفسنا مساحات نقاشٍ تُعيننا على البقاء متّصلين/ات بواقعنا المتبدّل، نقاربه بخصوصيّة المعرفة التي يمتلكها كلٌّ منا، حساسيّة تجربة كلّ منا، من موقعه ومن موقعها في تلقّي الحياة حتى الساعة. لا نأتي من سياقٍ واحد، ولا الواقع يصنعه سياقٌ واحد. التخفّف من القمعيّة في إدارة النقاش العام هو بالتأكيد توجّهٌ آمن. هو نظرةٌ تُرمى نحو العدالة، عبر غابةٍ كثيفة الجرائم.
السفير