لمّ الشمل معاناة سوريّين لجأوا إلى بريطانيا/ لندن ــ كاتيا يوسف
كثيرون هم هؤلاء المهاجرين الذين نجحوا في الهرب من نار سورية ووصلوا إلى أوروبا، لا سيّما بريطانيا. لكن منحهم حقّ اللجوء لم ينهِ مآسيهم. هم يأملون بالحصول على حقّ لمّ شملهم مع عائلاتهم.
عندما يبلغ مهاجر إحدى البقاع الأوروبية، لا يعني ذلك بالضرورة انتهاء رحلة معاناته، مثلما يظنّ الناس، وخاصة عندما يكون مهاجراً لاجئاً هارباً من ويلات الحروب والدمار. كثيرون هم طالبو اللجوء الذين تركوا خلفهم أطفالهم ونساءهم وأهلهم، وفضّلوا المخاطرة وحدهم بحياتهم. وملامح وجوه هؤلاء وحدها، كفيلة بأن تروي الألم الذي يعتصر قلوبهم والحسرة التي تتملّكهم والقلق على الذين تركوهم في منتصف الطريق، بعدما أوصلوهم إلى مناطق شبه آمنة. أمّا الأطفال الذين غيّب الموت ذويهم خلال رحلة العبور الصعبة إلى برّ الأمان، فهم بمعظمهم عانوا من الاستغلال على أنواعه. ومن حالفه الحظ منهم، وصل إلى دولة تحمي الطفولة وترعاها. وكتب له القدر حياة جديدة.
لا يُخفى على أحد تدفّق عشرات آلاف المهاجرين إلى الدول الأوروبية في الفترة الأخيرة، لا سيّما من الدول العربية ومناطق في أفريقيا وجنوب آسيا. بعضهم غامر بحياته وبحياة جميع أفراد أسرته، بعدما صمّموا العيش معاً في بلاد جديدة أو الموت معاً أيضاً. أما آخرون، فلم يتجرّأوا على المغامرة بفلذات أكبادهم وانطلقوا بمفردهم، بعدما قطعوا وعوداً بلقاء قريب ولمّ الشمل عند أوّل فرصة سانحة.
على الرغم من الأوضاع المأساوية التي يعاني منها اللاجئون بأكثرهم، تختلف مواقف حكومات دول أوروبا منهم وتعاطيها معهم. المجر على سبيل المثال، أقفلت حدودها في وجههم بالأسلاك الشائكة، أمّا السلطات التشيكيّة فختمت أرقاماً على أذرع اللاجئين بحبر لا يُمحى. وقد أتت ردود فعل هاتَين الدولتَين وغيرهما، لتعيد إلى الأذهان ما قرأناه في كتب التاريخ عن محطات مظلمة من الحرب العالمية الثانية، حين انتُهكت حقوق الإنسان وقُتل مئات الآلاف من دون أن يلتفت إليهم أحد.
ألمانيا التي لعبت دور الجلّاد في تلك الحرب الكونيّة، تقدّمت دول أوروبا في رفع راية الإنسانية عالياً اليوم، عندما أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن استعداد بلادها لاستقبال 800 ألف لاجئ سوري، وقد تبعتها النمسا التي فتحت حدودها أمامهم.
من جهتها، قرّرت بريطانيا استقبال 20 ألف لاجئ سوري فقط على مدى خمس سنوات، وذلك بعد ضغوط دولية وداخلية تعرّضت لها حكومة ديفيد كاميرون. وكان الأخير قد قام بنفسه بجولة في مخيّمات اللاجئين في لبنان للتعرّف على احتياجاتهم وتأمين سفر آمن لهم إلى أوروبا عبر البحر، من دون المخاطرة بحياتهم.
هي حرب واحدة تلك التي هجّرت ملايين السوريين، ورويت منها قصص حزينة ومؤلمة لا تعدّ ولا تحصى. حكايات وصل بعضها إلى آذان العالم، فيما بقي الكثير طيّ الكتمان. وتحدّثت الصحافة العالمية وما زالت، عن رحلات أمل، وإنْ كان شبح الموت يخيّم عليها. هي رحلات خاضها هؤلاء الهاربون من مصير محتوم إلى آخر مجهول، بعدما ضاقت أرضهم بهم، فابتلعت من استطاعت منهم في حين لفظت آخرين إلى خارج حدودها.
حمد أبو الستّة
حمد (40 عاماً)، واحد من هؤلاء اللاجئين السوريين في بريطانيا، يقول لـ”العريي الجديد”، إنّه يخشى التحدّث إلى الصحافة حتى لا يؤثّر ذلك على طلب لمّ الشمل الذي تقدّم به، والذي في حال نال قبولاً، يسمح لعائلته بالانضمام إليه. يبدو الرجل حزيناً وهو يشكو ألمه بحرقة، فيقول: “جوع وجعنا، وبهدلة وتبهدلنا، وشفنا الموت بعيوننا”. ويخبر أنه أصيب “بشظايا القذائف التي دمّرت منزلي، حين كنت أحاول النجاة بحياتي. هي استقرّت في ظهري وخلّفت فيه جروحاً بليغة. وقد لامست إحدى تلك الشظايا رئتي. توقّع كلّ من حولي أن أموت”. لذلك، أراد إنقاذ عائلته من براثن الموت الذي كان يخيّم على وادي بردى في ريف دمشق، فوفّر لها ما يلزم للانتقال إلى لبنان ومنه إلى مصر، بينما بقي هو يعاني بين الحياة والموت.
ويشير حمد إلى أن عائلته “عانت من مضايقات كثيرة، في الفترة التي تلت عزل الرئيس المصري محمد مرسي، فطلبت من زوجتي الانتقال مع أولادنا الستة ووالدتي إلى تركيا”. وعندما قرّر الانضمام إلى عائلته، سلك الطريق الأصعب إلى تركيا، بعدما بات قادراً على السير. لكن بعض الأشخاص تعاطفوا معه وساعدوه بوضعه على نقالة، بينما ظلّ يمشي من حين إلى آخر. بعد 15 يوماً وصل إلى تركيا، ونقل إلى مستشفى على وجه السرعة وخضع لعملية جراحية.
بعدما تعافى، لم يشأ حمد تعريض أفراد عائلته لمخاطر السفر في البحر، فانطلق وحده متجهاً إلى بريطانيا. أمضى ما يقارب أربعة أشهر متنقلاً من بلد إلى آخر حتى وصل وتقدّم بطلب لجوء، حصل عليه بعد ستة أشهر، ليحاول من ثم تقديم طلب لمّ شمل أسرته. لكنّه قوبل بالرفض.
ويوضح حمد أنّ زوجته الأولى توفيت تاركة ابنتَين (توأم)، في حين أنجب وزوجته الثانية ثلاث بنات (اثنتان توأم) وابناً واحداً، “بيد أنّ وزارة الهجرة لم تصدّق بأنّ جميع هؤلاء أبنائي. واتّهمتني بتزوير بعض الأوراق، إذ هي تعود إلى عام 2015 بينما أنا موجود في البلاد منذ عام 2014”. وينفي حمد أن يكون قد زوّر أيّ مستندات، شارحاً أنّه دفع الرشاوى لأشخاص في سورية حتى يحصل عليها. ويشدّد على أنه حين رحل عن بلاده، غاب عن باله حمل أي أوراق معه. كان همّه الوحيد النجاة بروحه. أمّا الأطفال، فيؤكّد أنّهم “كلّهم أولادي، لكنني لا أملك صوراً قديمة معهم، لأنّ منزلنا احترق بما فيه. وهنا، يطالبونني بمزيد من الصور القديمة لإثبات أبوّتي”.
إلى ذلك، يعاني حمد من حالة اكتئاب اليوم، بحسب ما خلص الأطباء. هو كان قد دخل المستشفى قبل أيام وخضع لفحوصات عديدة، في حين وصفوا له المورفين للتخفيف من ألمه. لكنه خرج بعدما أتت نتيجة الفحوصات الطبية طبيعية، وحُصرت المشكلة بالحالة النفسيّة. وهو ما زال يتناول أدوية مهدّئة.
اليوم، ينتظر حمد بفارغ الصبر قرار وزارة الهجرة بشأن الطلبات الجديدة التي تقدّم بها لجلب أسرته إلى البلاد، والتي كلّفته ما يزيد عن ألف جنيه سترليني (1537 دولاراً أميركياً)، من دون احتساب أجرة المحامي. وفي حال رُفض طلبه، يقول حمد إنّه سوف يغادر إلى تركيا لأنّه لم يعد يحتمل الابتعاد عن أطفاله وزوجته.
زياد محروم من العودة
زياد، في الثلاثينيات من عمره، مهاجر آخر وصل إلى بريطانيا مع أخيه قبل عام تقريباً. يخبر أنّه سوف يسافر الأسبوع المقبل إلى تركيا للقاء والدته، “فأنا لم أوفّق لغاية اليوم بالحصول على تأشيرة لها بهدف جلبها إلى بريطانيا”. وكان بلوغ أوروبا قد تطلّب منه محاولتين اثنتَين. الأولى، يصفها بالمغامرة، وهي عندما انطلق مع والدته وأخيه وزوجة الأخير في مركب في البحر. لكنّهم كادوا أن يموتوا جميعاً، فعادوا أدراجهم. حينها قرّر الشابان أن ينطلقا وحدهما في رحلة فرضتها عليهما الظروف، إذ استحالت عليهما العودة إلى أرض الوطن بعدما اتّهمهما النظام بالخيانة.
يقول: “من المستحيل أن أعود. الموت أرحم من العذاب الذي قد تلقاه”. هو كان قد عانى كثيراً في السجون السورية، التي لم يتوقّع أن يخرج منها حيّاً. يضيف: “توقّعت أن أموت، لكنني أردت العيش في بلد يصون كرامتي ولا يجرّمني حين أطالب بالحريّة”.
مهاجرون صغار
في أحيان كثيرة، يصل أطفال مهاجرون إلى بريطانيا بمفردهم، من دون أيّ مرافق. عن هؤلاء، تقول مديرة الأخبار في منظمة “سايف ذي تشيلدرن” (أنقذوا الأطفال)، جيما بيركن، لـ”العربي الجديد”، إنّهم “تعرّضوا لتجارب مروّعة قبل وصولهم، وعانوا من عنف جسدي واستغلال جنسي واستعباد وتعذيب خلال رحلة العبور إلى هنا”. وتشدّد على أنّ “المنظمة تدعم هؤلاء الأطفال الوافدين، عن طريق تدريب الأسر الجديدة الحاضنة لهم على كيفية التعامل معهم، بسبب الاضطرابات النفسية التي يعانون منها من جرّاء ابتعادهم عن أهلهم وأسرهم والآلام التي اختبروها”.
لكن بيركن تشير إلى أنّه في حال بلغ هؤلاء الأطفال سن الثامنة عشرة، تصبح مسألة بقائهم في البلاد أمراً تقرّره وزارة الداخلية، وتوضح أنّ المنظمة طالبت الحكومة البريطانية بتحمّل عبء الأطفال الذين وصلوا إلى أوروبا من دون مرافق، مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى واستقبالهم في البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن المنظمة دعمت في عام 2012 نحو 74 ألف شخص في سورية، ليبلغ العدد 838 ألفاً في عام 2013، ويصل في عام 2014 إلى 1.6 مليون شخص. أمّا اليوم، فيبلغ عدد السوريين الذين تقدّم المنظمة لهم يد العون نحو ثلاثة ملايين، من بينهم مليوني طفل.
العربي الجديد