لم أصل فارغاً…/ عباس بيضون
أيّها الشاب الذي اكتأب حين بلغ الأربعين، عندما أحصى ما خلّفه وراءه فلم يجد شيئاً مهماً. لكن صديقاً يُصغي كثيراً له طمأنه بأن الأربعين هي ذروة العمر وبأنّ الإنسان يصل فيها إلى أفضل ما يكون، لكن الأربعين تراجعت وتراكم عليها العمر، وبات العمر نفسه سؤالاً صعباً، ما هو العمر إذا بقي الشخص في سؤال بل أسئلة الشباب. ماذا يكون العمر إذا بقي المرء يقرأ كما كان يقرأ ويشتهي كما كان يشتهي ويُحبّ ويكره كما كان يُحبّ ويكره، إذا بقي يتابع رياضته اليومية كما كان يتابعها، ماذا يكون العمر إذا بقي صاحبه يكتب كما كان يكتب وبالزخم والانفعال نفسيهما. بل هو ينظر إلى وجهه فيجده تغيّر لكنه ليس التغيّر الذي يمكن حسابه بالسنوات. ويقال له إنّه ما زال محافظاً على بقية شباب، ولا يصدّق ولكنّه لا يعرف ماذا يعني أن يصير الواحد عجوزاً إذا كان ما زال غير منهَك بالعمر وغير متداعٍ وغير منهار، لكن لماذا أحدثك على هذا النحو، لماذا لا أستحضرك أكثر أنا الذي كتبت تقريباً ثلاثة كتب تسترجع أجزاء من حياتي، لكني لم أفكر في أنني أكتب عن شبابي، كتبتُ عن حياتي التي لم أميّز فيها بين طفل وفتى وشاب وكهل. كانت حياتي وهي كلها لي وأنا أملكها سواء كنت في أولها أو أواسطها أو في خواتيمها. إنها حياتي ولا أوزعها على أطوار وحقبات، بل إنني أشعر أن كلّ ما وصلت إليه إنّما نما فيها شيئاً فشيئاً، وترعرع فيّ وكبُر ونضج، وأنني لم أكن يوماً إلّاها، رغم أن وجودي عاصف بالتناقضات ورغم أنّني في صراع دائم مع نفسي ورغم أنّني لست شجرة لأشعر أنني واحد لا أتجزّأ، لست جداراً لأكون كتلة واحدة، بل أنا عند نفسي أقرب إلى تيار أو إلى ريح يفِد عليها ما يفِد من كل مكان ومن كل مطرح. وقد تفِد عليها نقائض وتباينات.
كنت شاباً بالتأكيد، وقد أفعمني شبابي بأحلام وخيالات لم أنجح يومها في أن ألتقط زيف بعضها ولم أفهم أن بعضها طلاء ليس إلّا، وأنّ حماسي لها ليس إلا لأنّني أردتها هكذا واندفعت إليها هكذا، ولم أكن يومها بحاجة إلى أكثر من نفخة لأمتلئ ولأطير. لم أكن بحاجة إلى أكثر من إيماءة لأتحرّك وأسير وأتقدّم. كان هذا بالنسبة لي من حاجتي إلى أن أتحمّس لشيء، أي شيء. حاجتي لأن أجد معنى، أي معنى. أن أجد ضداً، أي ضدّ. كنت ممتلئاً بأشياء وبلا أشياء، سعيداً بامتلائي، رغم أني لا أعرف ما هو وما فحواه. في الثالثة عشرة تقلّبت من البعث إلى الشيوعية إلى الوجودية، وبالتأكيد كنت دائماً مفعَماً بما حويته واحتواني. أذكر أن كاتباً هجا الشباب وقد راقني أن يهجوه، كما كان يروقني، وما زال، كل شيء خارجاً عن المألوف. والآن لا أهجو الشباب لكنّني لا أصدق أعاجيبه ولا إعجازه. بل أنا أقرب إلى الشعور بأن رثاء الشباب ليس سوى حنين عقيم. وأنّه في الحقيقة كسل قد يكون الشباب منبته فكسل الكهول من كسل الشبان، ومَن يبدأ كسولاً يثابر على كسله. ليس الشبان جبابرة ليبكوا على عمر كانوا فيه جبابرة، وليسوا أنبياء ليبكوا على زمن كانوا أنبياء، وليسوا أصحاب معجزات ليرثوا معجزات كان في أيديهم صنعها. يمضي الشباب ونبقى نحن في أعقابه كما نحن. لسنا ربيعاً ذابلاً ولا شتاءً قارساً ولا هجيراً محرقاً، فالعمر ليس سوى فصل وحيد مملّ وموصول. مع ذلك أكلّمك أيها الشاب الذي كنته كجزء من سيرة، بل كفتى تفتق عن طفل وتفتق عن كهل. أراك وأرى نفسي فيك فأنا الشاب الذي كنته ولا يزال حاضراً فيّ. أنا الشاب قبل أن أكون الكهل وربما لا زلت شاباً أكثر مني كهلاً. لا أعرف إذا كان بين الكهل والشاب فاصل وحاجز. أحملك الآن في كهولتي وأشعر أنّك تغذيها وأنّك تمرح فيها وأنك تملأ جانباً منها. كل ما في الأمر أن أشياء كثيرة سقطت مني على الطريق، لكنّي لم أصل فارغاً.
السفير