لم تصل الشوكولاته إلى الغوطة!/ منيرة الحموي
طُلب مني أن أكتب عن ابنتي، رزان زيتونة. لست صحافية ولا كاتبة، ولكني سأكتب ما يجول بخاطري. لن أتحدث عن عمل رزان أو إنجازاتها، لأنّ الكثيرين فعلوا هذا من قبل.
لن أنسى تلك الأوقات، في بداية الانتفاضة في سوريا، حين كانت تتوارى عن الظهور العام لكي تتفادى الاعتقال. كانت تغادر البيت ليلاً فقط، متخفية. وكنت، كلما اشتقت إليها، أسعى لمقابلتها سرّاً. كررت نصحها بأن تغادر البلد وتسافر إلى الخارج، كما فعل كثيرون من أصدقائها. كانت تهز رأسها بابتسامة حزينة، وتجيب: «لن أغادر بلدي». فكنت أعود إلى البيت مكتئبة، أصلّي يائسة كي يحفظها الله ويحميها، منتظرة بلهفة أن أعاود رؤيتها. ولقد أصابتني صدمة حين أخبرتني أنها تنوي الانتقال إلى الغوطة الشرقية للإقامة هناك، وحين سألتها عن السبب أجابت: «إنها منطقة آمنة يا أمّي، وهناك سأعيش بأمان وأتمكن من التحرك بحرية، ولن يهددني أحد».
ورغم ألمي وحزني لقرارها، الذي عنى أنني لن أتمكن من رؤيتها بعد ذلك اليوم، فقد أردت لحياتها أن تكون مستقرة وآمنة، وأذعنت لقرارها حفاظاً على سلامتها.
بعد وصولها إلى الغوطة أخذنا نتواصل عبر «سكايب»، وكانت على الدوام تحرص على دفعي إلى الإحساس بأنها مرتاحة، لكن قلبي كان يقودني إلى شعور معاكس. وكنت أحدّث أباها بمخاوفي، ولكنها ظلت تبدي الهدوء لكي تجنّبنا القلق.
وحين اشتد الحصار على الغوطة الشرقية، وافتقر الناس إلى الخبز والغذاء، أخذت أقلق أكثر، وكنت أسألها إنْ كان الخبز متوفراً لديها، فكانت تجيب: «لا تقلقي يا أمي». وحين أخذت ألحّ في السؤال، ضحكت وأذعنت أخيراً: «ما أحبّ أن أحصل عليه هو بعض الحلوى والشوكولاته. لا أنا ولا الأطفال في الجوار تذوقوها منذ زمن طويل».
وبالطبع، ذهبت في اليوم التالي وابتعت لها كل أنواع الشوكولاته، واشتريت الكثير لأني عرفت أنها لن تتذوقها بنفسها، وستوزعها على الآخرين الذين معها. كذلك اشتريت لها بعض الأدوية، لأنها كانت تشكو من تسمطات على يديها، كما اشتريت بعض الأدوية لزوجها وائل، لأنه كان يعاني من أوجاع في المعدة، وبعض الأشياء الأخرى التي طلبتها صديقتها سميرة.
وبالطبع اشتريت كل هذه الأشياء آملة من الله أن أجد شخصاً قادراً على الوصول إلى الغوطة وتسليمها. المنطقة كانت تحت الحصار، والطرق مقطوعة ولا سبيل إلى الدخول أو الخروج، ولكني وُعدت بأننا سنجد شخصاً موثوقاً يمكن أن يشق طريقه إلى هناك.
وفي اليوم التالي، قبل سنة من الآن، استيقظت على نبأ خطف ابنتي مع زوجها وصديقيها، سميرة وناظم.
لم أكن قادرة على تصديق ما سمعت، واعتقدت أن الأمر اختلط في مكان ما، ولكن النبأ كان صحيحاً لسوء الحظ. شعرت أن العالم يطبق على صدري. لم أستطع البكاء، بل كان قلبي هو الذي يبكي، وعيناي لا تذرفان دموعاً. شعرت بألم رهيب ينتشر في كل بقعة من جسدي.
مرت أيام وشهور وأنا أنتظر، عبثاً. في كل ليلة آوي إلى فراشي آملة أن أستيقظ على خبر طيب ما، ولكن دون جدوى حتى الآن. آمالي آخذة في التبدد والواقع المرّ يظلّ قائماً. لقد فقدت ابنتي في تلك المنطقة المحررة حيث توجّب على الجيش الحرّ أن ينتشر في كل مكان، وحيث راودني الأمل في أنها ستكون آمنة، لأنّ مهمة ذلك الجيش كانت حماية المدنيين أينما كانوا وفي كل وقت. واليوم ليس لدي حلّ لما أنا فيه، ولا أمل إلا إيماني بأنّ الله سوف يردها إليّ سالمة، صحبة زوجها وائل وصديقيها سميرة وناظم.
الحرية لهم، والحرية لكل أولئك المفقودين، والمخطوفين، والمعتقلين، أينما كانوا.
(عن الأصل الإنكليزي، ترجمة وتحرير «القدس العربي»)
منيرة الحموي