لم نستخدم الكيماوي بعد.. فقط كنا نمازحكم!
عمر قدور
يروج مؤيدو النظام السوري رواية مفادها أن قواته قامت بعملية “نوعية ذكية”، فقامت برش مادة الطحين من الطائرات على الثوار في بعض الأماكن، موهمة إياهم أنها تستخدم السلاح الكيماوي، ما أدى إلى فرارهم من أرض المعركة، وبالتالي إلى سهولة القضاء عليهم. وبصرف النظر عن صحة الرواية أو عدم صحتها فإن التباهي بها وحده يؤشر إلى المستوى الوضيع الذي بلغه مؤيدو النظام، وإلى مستوى المخيلة الإجرامية التي باتت تسرح في سوريا من دون خط أحمر، باستثناء تلك الخطوط التي يرسمها الدم السوري، والتي يُنتظر أن تطوق رقبة النظام في النهاية.
لم نستخدم الكيماوي بعد.. فقط كنا نمازحكم! ربما يتعين على السوريين النظر إلى الأمر بهذه الفكاهة، بانتظار أن يتم حقاً استخدام الكيماوي الموعود، وأن تفي القوى العظمى بوعودها الحازمة فيما لو استُخدم. كأن على السوريين أن يتذوقوا لوعة انتظار الكيماوي، ولوعة الموت به، قبل أن يفهم العالم تلك الصرخة البسيطة التي أطلقها مواطن سوري في مستهل الثورة: “أنا إنسان.. ماني حيوان”. هكذا ربما تتوقف العقدة السورية عند أسئلة من نوع: هل سيستخدم الكيماوي؟ متى سيستخدمه وهل يملك منه ما يكفي لإبادة السوريين وترويع المنطقة كلها؟ بعد أي عدد من قتلى الكيماوي سيكون العالم جاهزاً لوقف المجزرة؟ وماذا لو اكتفى النظام بالقنابل العنقودية مع القليل من الطحين أحياناً؟!
نعم، وبجدية فظيعة، تتوقف حياة السوريين الآن على الإجابة على هذه الأسئلة، وينتاب غالبيتهم اليقين بأن النظام لن يتورع عن استخدام مخزونه من الغازات السامة، بخاصة بعدما بادر إعلامه إلى اتهام “عصابات إرهابية” بإعداد عبوات من السلاح الكيماوي في تركيا بغية استخدامه في سوريا، وبعدما راسل الأمم المتحدة محذراً من استخدام “العصابات الإرهابية” لمخزونها الكيماوي. فالعصابات الإرهابية، التسمية التي يستخدمها النظام للدلالة على الثوار، لم تعد تكتفي بتفجير المناطق المؤيدة للثورة، ولا بذبح مؤيديها بالسكاكين، لذا ليس مستبعداً وفق هذه الرواية أن تعمد إلى استخدام الكيماوي في عملية انتحار عظمى لها ولمؤيديها. لمَ لا؟ طالما أن أحداً لا يردع القاتل الحقيقي، وطالما أن العالم لا يزال يسمح له بتمرير أكاذيبه من على منصة الأمم المتحدة؟!
لعل أهم ما فعلته التصريحات الدولية بشأن الكيماوي هو التأكيد على أنه خيار جدي بالنسبة إلى النظام، وفي الواقع لم يتلقف السوريون التصريحات الدولية بجدية مماثلة، بل غلبت السخرية على تلقيهم لها، بخاصة وهم يسترجعون تصريحات سابقة بدت حازمة في وقتها وسرعان ما تراجع أو صمت عنها أصحابها. عموماً يدرك السوريون أكثر من أي وقت مضى أن قواهم الذاتية هي التي لها الأولوية في إسقاط النظام، ولم يعودوا يعولون كثيراً، أو أقله عاجلاً، على دعم دولي فعال. فالتصريحات الأخيرة لن تقدم عزاء لمن سيموتون بالكيماوي قبل أن توضع موضع التنفيذ، ولن تردع نظاماً يتوقف يومياً أمله في البقاء على اتخاذ أخطر القرارات وأشدها فتكاً؛ لذا ينظر كثير من السوريين إليها كرخصة للقتل بما هو دون الكيماوي، ويرون قياساً إلى استغلال النظام لما سبق من تراخٍ دولي أنه لن يتورع عن الوقوع في المحظور والمراهنة على الإفلات من العقاب ثانية.
لم تستخدم قوات النظام الطحين على سبيل الخدعة فقط، فهذه مجرد بروفا لاستخدام أسلحة مماثلة، ويتحدث بعض النشطاء عن استخدام الفوسفور الأبيض في أمكنة أخرى، وهناك معلومات مسربة عن قيام النظام بإعداد عبوات صغيرة من الغازات السامة تنتشر في دائرة قطرها نصف كيلومتر. يتزامن هذا مع حملات لمؤيدي النظام على صفحات التواصل الاجتماعي تدعو إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، بوصفها أسلحة “نظيفة” تفتك بالبشر ولا تتسبب بخراب كبير، أي تُبقي على ممتلكاتهم غنيمةً لهم. قد نؤوّل هذا على أنه تراجع من قبلهم عن شعار “الأسد أو نحرق البلد”، فالمؤيدون بدأوا يكتشفون وصفة مجزية أكثر لهم، هي إبادة النسبة العظمى من السوريين ووراثة البلد بما فيها، وربما كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالضريبة الاقتصادية لحرب النظام التي بدأت آثارها تطالهم أسوة بالآخرين.
في الواقع يبدو الكيماوي هو الحل الأكثر جذرية لأزمة النظام، إذ من المؤكد أنه لن يربح حربه على السوريين بالأسلحة التقليدية التي يتناقص مخزونه منها باطراد. لقد تمكن الثوار من الوصول إلى العديد من المناطق الاستراتيجية والسيطرة عليها، وتمكنوا من السيطرة على قسم لا يستهان به من أسلحته، وقد لا يكون بعيداً اليوم الذي يطوقون فيه آخر المعاقل الأمنية في العاصمة؛ كل هذه الانتصارات، وعلى الرغم من تلكؤها أو تعثرها أحياناً، تؤشر إما على رحيل النظام أو على لجوئه إلى خيارات اليأس الكبرى. يُضاف إلى ما سبق التدمير الهائل الذي أوقعته قوات النظام بالبنية التحتية للبلد ككل، والذي سيجعل إعادة إعمارها من قبل النظام مستحيلة فوق استحالة بقائه؛ الأمر الذي لا يُستبعد أن يدفع برؤوس السلطة إلى التفكير كمؤيديهم، ولعل الأخيرين أكثر فصاحة إذ ينذرون بإعادة عدد سكان سوريا إلى الرقم الذي كان مع انقلاب الأسد الأب، أي سبعة ملايين سوري فقط.
بانتظار ما ستؤول إليه قضية الكيماوي، لا بأس بالاعتراف للنظام بنجاحه في خدعة الطحين. فالثوار، ورغم أنهم يتوقعون منه الأسوأ، لم يتوقعوا ما تفتقت عنه مخيلته الإجرامية. فالطحين، الذي صار سلعة عزيزة في الأسواق وعلى موائد السوريين، بات يُستخدم في قصفهم على سبيل النكاية والإرهاب معاً. لا بد من الإشارة هنا إلى أن سعر ربطة الخبز راح يناهز الأربعة دولارات في بعض المناطق السورية المنكوبة، وإلى أن الأفران في معظم المناطق لا تستطيع توفير المواد الأساسية للعمل، وفي مقدمتها الطحين والوقود. وقد يكون من المفيد التذكير بأن قوات النظام عمدت إلى قصف الأفران بشكل منهجي في العديد من المدن الثائرة، وأن مئات المدنيين قتلوا تحت القصف وهم يصطفون في طوابير طويلة للحصول على الخبز، وأن هؤلاء لن يخطر في بالهم أبداً أن يفتحوا أفواه أبنائهم في انتظار أن تقصفها الطائرات بالطحين.
مع ذلك، ورغم الشكوك التي تساور قضية الكيماوي، ثمة يقين يتجذر لدى السوريين، هو أن النظام ساقط لا محالة. هذا اليقين بدأ يصل حتى إلى مؤيدي النظام، ولعل مطالبتهم باستخدام الأسلحة الكيماوية دليل إفلاس ويأس أكثر من كونها دليل إيمان بالنصر. هنا سيكون على النظام قراءة الأمر جيداً، ورؤية أولئك الذين يريدون الخلاص سريعاً وبأي ثمن، لأن هذا الثمن قد يتعين قريباً بإسقاطه. لن يكون مستبعداً، فيما خلا دائرة ضيقة من المتعصبين والمتورطين بالدم، أن يفكر مؤيدو النظام بأن الخلاص منه هو الحل، ولن يكون هذا بمثابة صحوة جماعية لضمائرهم النائمة، بل سيكون بمثابة انتصار لإرادة الحياة لديهم. في المحصلة قلة فقط تبقي على رهانها على الجياد الخاسرة، وقلة أقل منها بكثير تبقي على رهانها على الجياد الميتة.
المستقبل