صفحات المستقبل

لم يمت أحد في الغوطة/ ديما شريف

قررت الاحتفال بعيد ميلاد عازف البيانو كاونت باسي. كان سيبلغ التاسعة بعد المئة يوم 21 آب 2013. لا أريد أن أرى أي شيء آخر. أركّز على الموسيقى. أحاول أن أصل إلى قناة الموسيقى الكلاسيكية على التلفاز. لا أتذكر رقمها. عليّ أن أتجول بين المحطات. أدير نظري كي لا أرى المشاهد والجثث واسمع فقط صراخ الناس. هذه تصرخ: “أنا عايشة أنا عايشة”. ذلك يسأل: “هاد الطفل إرهابي؟”. وثالث يناجي إلهه. الأصوات تثير غثياني. ألا يعرف هؤلاء اني أريد الاحتفال؟ اركض إلى الحمام وأفرغ جوفي مما يوجد فيه.

أعود إلى غرفة الجلوس وأعاود بحثي عن المحطة اللعينة. تخفّ صور الأطفال. ارتاح قليلاً. أتوقف عند محطة لا دم عليها. “واضح أن الموضوع ملفّق”، يقول الرجل. يضيف “كيف استطاعوا أن يصفّوا الجثث على الأرض في وقت قليل، ويكتشفوا أن الهجوم حصل بغاز كيميائي؟”. يسكت قليلاً ويطلق قنبلته: “بندر هو من قام بهذا الأمر ليورط النظام”. أتابع بحثي عن محطة الموسيقى. “النظام يحارب الإرهابيين ومن مات إرهابي”، يقول رجل على محطة أخرى. اهرع من جديد إلى الحمام. لم يعد يوجد ما يمكن إفراغه.

أعود إلى غرفة الجلوس من جديد. أقرر إطفاء التلفزيون والبحث عن كاونت باسي على الحاسوب. أجد “أصدقائي” الفايسبوكيين وقد أمطروا الموقع بتحليلاتهم. الكل خبير عسكري. الكل يفهم في النووي والكيميائي والبيولوجي. ذلك يبكي من سقط وهو مسؤول مع حزبه عن آلاف من ضحايا الحرب اللبنانية. وذاك يفنّد حصول أي مجزرة ويستعرض ما لديه من معلومات عن تركيب الصور وتحضير الممثلين ليلعبوا الدور المخصص لهم، والمموّل من المحور الصهيوصليبي العلماني الليبرالي اليساري الماسوني الغربي الخليجي. حسناً اشعر بالمزيد من التحسن. لا أحد مات إذاً، ولم يقتل أي طفل. استطيع متابعة يومي بشكل طبيعي.

أعود إلى التلفاز. تبدأ نشرة أخبار منتصف اليوم. المذيعة تكاد تختنق بدموعها وهي ترى جثث الأطفال، وأكوام المختنقين. أصرخ: لا تبكي هذا كله تمثيل. أنسى انها لا تستطيع سماعي. أقرر أن اكتب لها رسالة لأنبهها إلى ما يحصل. حرام. هي صحافية ويجب أن تبقى حيادية وتفهم أن لا احد مات. عليها الحفاظ على موضوعيتها تجاه ما يحصل.

أغيّر المحطة. هنا إعلان عن انتخاب ملك جمال لبنان لعام 2013. جميل. كل هذه العضلات والأجساد البرونزية أجمل من أجساد الأطفال البيضاء. المحطة الأخرى تبثّ برنامجا عن العقارات. سأشتري هذه الفيلا حين أكبر من دون شك. حين أكبر مالياً بالطبع. أتلهى بأنواع الرخام والبلاط المستخدم. لونها يشبه لون الأطفال على المحطات “المغرضة”. سعرها قد يكفي لشراء أدوية لمدينة كاملة تحت الحصار. لا يهم. أتابع تنقلي بين المحطات. أصل أخيراً إلى محطة الموسيقى. انتظر انتهاء إعلاناتها وأنا أتوقع أن تتوالى موسيقى الفرح. لكنها لا تصل. أقف عاجزة حين تبدأ الموسيقى. لماذا موسيقى الموت هذه؟ أين الجاز الفرح؟ يعود شعور الغثيان من جديد. هناك موت في الأجواء. اكتشف حينها ما حصل. لقد مات الله. مات مع كل طفل سقط فجر ذلك اليوم. لقد مات منذ سقط أول طفل في حروبنا الصغيرة. مات ولن يعود أبداً، فلا تتعبوا أنفسكم باستدعائه.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى