لنعترف: لسنا في وارد الديموقراطية بعد/ عصام الخفاجي
حين أراجع تجربة ثورات 2011 العربية، لا أخجل من القول إننا، أعني الديموقراطيين، أخطأنا حين اعتبرنا أن الهدف المباشر الذي ينبغي التركيز عليه هو إقامة نظام سياسي ديموقراطي.
لا أنطلق هنا من موقف أبوي يوجّه الشعوب أو الثائرين إلى ما يجب عليهم القيام به، بل أهتدي بما ثاروا عليه وبالشعارات التي رسموا. أطلق إحراق محمّد بوعزيزي نفسه، بعد أن أذلّه رجال الأمن وسدّوا سبل العيش بوجهه، شرارة ثورة تونس. وأطلق موت الشاب خالد سعيد تحت التعذيب في مصر شرارة ثورتها التي لم تكن الدعوة لها في عيد الشرطة مصادفة. واستعرت الثورة السورية إثر تعذيب قوات الأمن السورية صبيين سوريين حتى الموت. لا أذكر أن شعار الديموقراطية تصدّر مطالب الثوّار بل كانت مطالبهم محاربة الفساد والمحسوبية، تعسّف السلطة وإطلاق يد أجهزتها القمعية في دوس حقوق المواطن من دون خوف من عقاب، الثراء الفاحش للمقرّبين من السلطة وتدهور أحوال المواطنين. وكلّها مطالب لا شك في جذريتها لكنها ليست توأماً للديموقراطية.
نزل مئات الألوف إلى الشوارع وحملوا السلاح في سورية مطالبين بقيام نظام سياسي جديد يقوم على سيادة القانون. نظام لا يستقيم مع بقاء الطغم الحاكمة بل يستوجب إسقاطها، بل إن ثوار مصر ذات الدولة العميقة التي ربطت مصالح الحكام بمصالح بيروقراطية وظيفية ترسّخت في مواقعها على مدى عقود، لم يتوقعوا أن تفضي ثورتهم إلى سقوط حسني مبارك وأركان حكمه في البداية.
ديموقراطية سياسية من دون سيادة القانون تقوم على تقديس الانتخابات الدورية لا تضمن القضاء على الفساد ولا على إخضاع الرئيس أو قوى الأمـن لسلطة القانـون ولا تؤمّن بالضرورة حرية التعبير. هي تعطي شعباً تعرّض وعيـه السياسي إلى تـشويه عميق حق اختيار بدائل تطرح نفـسها نـقيـضاً جذرياً للنظام السابق، وهي نقيضه بالفعل من حيث برامجها السياسية والأهداف التي ترمي إلى تحقيقها من خلال الإستيلاء على السلطة، لكنها، ولأنها إبنة البيئة الفاسدة المستبـدّة، قد تغيّر الجهاز القضائي المسيّس إلى جهاز موالٍ لها لا يقل تسييساً، وقد تعيد تركيب أجهزة الأمن مخفّفة من سطوته، لكنها لن تضعها تحت سلطة القانون. وهي ستطلق حرية الإعلام لكنها ستسلّط عليه سلطة رأي عام مشوّه الوعي يخنقها لأنها خرقت الحياء العام أو تعرّضت للقيم المقدّسة أو لأنها انتهكت قوانين تمنع التشهير بالرئيس أو القوات الأمنية أو القضاء وهي لم تمارس غير حقها في النقد.
ليس ضرورياً تأييد الكسس دو توكفيل، أهم مؤرخ ومنظر عايش الثورة الفرنسية ومؤلف «النظام القديم والثورة»، الكتاب الذي صار معلماً، في قوله: «ما بدا للوهلة الأولى حباً حقيقياً للحرية تبين أنه ليس أكثر من كره لطاغية».
كان علينا أن نتعلم من تجربة عراق ما بعد 2003. شعب متعطّش للحرية بعد انتهاء كابوس خنقه عقوداً من الزمن. خنقه استبداد وبشاعة فاقا بأضعاف استبداد وبشاعة نظام البعث في سورية. كان علينا أن نعترف بأن إقامة نظام سياسي انتقالي يمتد زمناً يطول أو يقصر سيرسّخ بناء مؤسسات مهنية قد لا تكون مثالية، وهي لن تكون مثالية بالتأكيد، قبل الدعوة إلى الانتخابات، وهذه ضرورة ما بعدها ضرورة. كان، ويجب، علينا الإعتراف بأن إدارة بوش، أياً يكن ما اقترفته بحق العراقيين وأيّاً كانت نياتها، كانت على حق حين حاولت وماطلت لتأجيل الانتخابات داعية إلى نظام انتخابي مماثل للنظام الانتخابي القائم في أميركا يستند إلى محافل انتخابية غير مباشرة (كوكوس) تنتخب مندوبيها إلى جمعية تأسيسية.
كان، ولا يزال علينا امتلاك الجرأة لنقد المجتهد الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني الذي هيّج قطعاناً جماهيرية نزلت بمئات الألوف ثائرة ضد مؤامرات أميركا ومطالبة بانتخابات مباشرة لأنه كان مدركاً أن نشوة الانتصار على حكم اضطهد الشيعة ستتوّج أتباعه حكّاماً للعراق الجديد. كان علينا أن ندرك أن هؤلاء الذين اكتووا بجحيم الاستبداد وشهدوا أملاكهم تُصادر بقرارات أصدرها الحاكم الفرد وتعرّضوا إلى إذلال أبنائه وإخوته وأصهاره لهم كانوا متعطّشين لكي يكووا خصومهم بجحيم الاستبداد ولاستباحة أملاكهم وأملاك البسطاء ولقيام أبنائهم وإخوتهم وأصهارهم بإذلال من يشاؤون. كان علينا أن نعي أن قادة الإسلام السياسي الشيعي أدركوا الأمر قبل أن ندركه. كان علينا أن نرى أن نظام فساد ومحسوبية ومؤسسات أمنية وقضائية لا تستحق أن تُسمّى مؤسسات، كان النتيجة الطبيعية والمرغوبة لكل هذا الذي هيّجه شعار حكم الشعب الذي صار بالفعل حكم شعب أبله.
كان علينا التعلّم من تقديس المحتجّين على نظم ما بعد التغيير والثورات لمستبدّين عادلين. أكثر ثورات الربيع العربي نضوجاً فرضت إعادة نصب الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية إلى موقعه في قلب العاصمة تونس بعد أن أزاحه زين العابدين بن علي إلى موقع على أطرافها. جمهرة هائلة من المصريين رفعت صور جمال عبد الناصر في ثورتها على حسني مبارك ثم صوّتت لمصلحة ناصري كاد أن يفوز بالرئاسة لولا تشتّت أصوات العلمانيين. مؤسس الجمهورية العراقية عبدالكريم قاسم ظل اسما مقدّساً بين العراقيين الذين أقاموا له بمبادرات فردية نصباً في الساحة التي حاول البعثيون اغتياله فيها. وكلّ هؤلاء كانوا حكّاماً لا علاقة لهم بالديموقراطية من قريب أو بعيد. كانوا نماذج للنزاهة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو الطائفة. كانوا قادة لم يوصلوا أحداً من أقاربهم إلى الحكم أو يسهّلوا لهم سبل الوصول إلى الثروة. وكانوا قادة يؤمنون بأن بقاءهم في الحكم هو السبيل لإصلاح البلاد، وهو إيمان ضمني بأنهم وهم يعلنون حبهم لشعوبهم كانوا يرون فيهم جمهرة غافلة حتى وهم يعرفون أنهم لو دعوا إلى انتخابات فسيفوزون فيها بلا عناء ولا تزوير.
«كان علينا» هو من أكثر التعابير سطحية وسذاجة في التحليل العلمي. كأننا نقول: «كان علينا تعليم الإنسان البدائي قيادة السيّارة». لكن الحشود التي نزلت إلى الشوارع كانت ترفع شعارات هي في جوهرها ثورة «سيادة القانون» التي كانت ستمهّد الطريق للانتقال إلى الديموقراطية بعد زمن يطول أو يقصر. تلك الحشود اكتشفت أن إرادتها الشعبية جاءت بإخوان مسلمين سرعان ما ثارت عليهم متطلّعة إلى عبد الناصر منبعثاً في صورة البديل المنقذ، لتكتشف مجدّداً أن لا مشتركاً بينهما غير الإستبداد، وأن العدالة الإجتماعية ومحاربة الفساد تفرّقهما.
إن اتّفقنا على أن تعبير «كان علينا» سطحي وساذج، فهل أن ثمة ما «علينا» الآن فعله إن تعلّمنا، أو أردنا التعلّم من الدرس؟ تأخر الوقت كثيراً. لكنني أفكّر في سورية. ما الذي كنت سأسعى لفرضه على جدول أعمال اجتماع جنيف لو كنت مفاوضاً؟ ليس الكثير بالطبع بعد أن حسم النظام تفوّقه على شعبه. ليبق الأسد أو يرحل في مرحلة انتقالية أو بعد انتقالية. لنضغط، وما أخفّ ضغطنا ويا للأسى، من أجل جعل أجهزة الأمن تحت سلطة قانون أعرج بلا شك. لنضغط من أجل محاسبة الفاسدين من مقرّبي السلطة. أوهام بالتأكيد. لكنها مطالب سيصعب على أنصار الأسد الإقليميين رفضها صراحة على الأقل.
في شغلي النظري، «فنّدت» الرؤية الشائعة عن فولتير كداعية للديموقراطية. فقد كان الرجل من أنصار نظام «الاستبداد المتنور» الذي ساد في أجزاء من أوروبا في عصره. المستبد المتنوّر في رأيه أكثر معرفة بمصلحة شعبه من معرفة الشعب لها. «أن تخدم أسداً حسن التكوين خير من أن تخدم مئتي جرذ».
لعله كان محقّاً.
* كاتب عراقي
الحياة