لن يحكمنا إلى الأبد…
طريف الخياط
قبل ثلاثة و ثلاثين عاما، في يوم كهذا، السادس عشر من كانون الثاني، صرخت أول صرخة لي في الحياة، ثم بكيت… ربما عرفانا لمن اختارت مخاض الألم، كي تستقبلني بابتسامتها الدافئة، و كأن الحياة هي اضطرابات أحوالها، فبادئتها مفارقة، تؤلمك حين تقبلها، و يألم غيرك كي تدركها… و ربما بكيت، لأنني لم أرد ما أُريدَ أن يكون…
لم أملك يوما، أن أفهم درسها الأول، و لن أملك…
في ذاك المنزل، عرفت وجهها، امرأة صلبة، تشع من عينيها الثقة، كانت درسي الثاني، فالأنثى نصف المجتمع، هي امرأة، خارج كلاسيكيات باب الحارة، هي المثقفة و القارئة، المالكة لقرارها و شريكة القرار… لم تكن أمومة ناقصة، بل كانت وعيا على درب الأمومة، يملك فيض حنان، تحار فيه بحار نبتون…
وبعد، إلى الروضة فالمدرسة، أرجع كل يوم مرددا ببلاهة الأطفال، بالروح بالدم نفديك ياحافظ، كنت إذا سئلت عن أعظم الخلق، أقول حافظ، فتقابل براءتي ابتسامة غريبة، و كأنها تبطن “بكرا بيكبر و بيفهم”… على الغداء، في المساء، في العطل، أسمع مرات عن أحداث حماة، “قبل الأحداث”، “وقت الأحداث”، “نفد”، “مات” ، “ما رجع”، و أسأل شو هيي الأحداث؟، ما شي حبيبي ، بس ما تحكي قدام حدا…
هو الدرس الثالث إذا… الأحداث…
لا زلت أذكر تلك اللحظة، حين كررت سؤالي القديم، شو هيي الأحداث، ليغرق الزمان و المكان، في ثلج غزير كذاك الذي قالت عنه أمي ساعة ولدت، و يأتي الجواب “حين قصف الجيش العربي السوري مدينة حماه”، , و ذبت في الصقيع، لماذا و كيف و متى… يفرض الألم نفسه، تسترسل الذاكرة بسرد قصة عمي الذي قتل برصاص قناص، و قريبنا الذي أخرج من بيته و عمره 13 عاما، ثم لم يعد، و آخرون دخلوا معتقلات الموت الأسدية… لم يكن أحد من أولئك إخوانيا على ما يشاع عن أهل المدينة، و لم يكن كثر منهم ملتزمون حتى بالصلاة… لا شيء مبهم إنه الأسد…
و يستمر الدرس في تكرار نفسه، ترديد الشعارات الصباحية، الهتافات، التربية القومية، التربية العسكرية… كل ما يحيط بنا، من معجزات الأسد، لا حياة قبله، سيحمينا إلى الأبد، حتى بت أخاف الأبدية، و أخاف أن تتكرر تلك المنجزات، التي أزهقت 50 ألف روح في أسابيع…
هو أبونا حافظ الأسد، أبو الشعب، باني سوريا الحديثة، بطل التشرينين، الرفيق المناضل، القائد المفدى… و على ما توحي تلك الأبوة بسلطة أسرية شرقية، كانت تعنيني تعبيرا ينسبني إلى تلك المنجزات، فأترقب بجزع، أن يعلن عتاة البعث، أن أبناء جيلنا، و من سبقه حتى مطلع السبعينات، و من تلاه إلى آخر الزمان، من صنائع الأسد و معجزاته…
القائد الرمز، لم أره يوما، إلا تجسدا لظلامية شيطانية، عاشت بيننا، و فعلت ما تشاء، و قدرت على ما تشاء، و من تشاء، و لا زالت هنا، و إن بجسد آخر…
و بعد أن غادرت تلك الأرض، المقدسة بذكرياتها، كنت أخاف، كلما دخلت مطار دمشق، أن أسمع عبارة “شرف معنا”، فلم ألتزم يوما بالنصيحة “لا تحكي قدام حدا”، و لم أقبل أن تفرض الحياة ضمن شروطها، طقسا ذميما من العبودية، بعد أن اختارت هي لحظة الوجود، و قررت أنا، أن أترك لها لحظة العدم…
تلك هي، ولادة و أمومة، ثم أسد… لا و كل الكل، لن يحكمنا إلى الأبد…