لن يسمع استسلامنا…
حسام عيتاني
يطمئن سائق سيارة الأجرة بعد أن يسأل الراكب عن المنطقة التي ينتمي إليها. فيبدأ حديثاً أليماً عما يعاني في حياته البيروتية.
يتساءل السائق «متى ستنتهي عندنا». يتابع «أنا سوري تركت مدينتي بعد توقف الأشغال فيها. أولادي ثمانية. كنت أجد صعوبة في تأمين الدراسة لهم كلهم في سورية. جئت بهم مع زوجتي إلى لبنان بحثاً عن عمل. لا قدرة لي على تسجيل الأطفال في مدرسة هنا. ولا حتى على توفير مصاريف تعذيتهم اليومية. نتدبر أمرنا بالذهاب آخر النهار إلى بائعي الخضار لشراء البضاعة الذابلة الباقية عندهم. ونرتدي ما نجده في البالات».
ويقول «هل تعلم ماذا يريد؟ حقاً ماذا يريد؟ هل يعتقد (الرئيس بشار الأسد) أنه ورث البلد فعلاً عن أبيه؟ وورثنا نحن كذلك؟ لماذا لا يرحل بعد كل هذا الموت والدمار؟ فليأخذ ما يريد ويتركنا في مصيبتنا. تعبنا. تعبنا ورثّت حالنا. لم يبق لنا عمل ولا مصلحة نعيش منها». يتوقف قليلاً ثم يستأنف «لكن اسمعني جيداً. إذا كان يعتقد أننا سنعود لنقول له «أمرك معلم»، فهذا ما لن يسمعه في حياته».
هذا الحديث المسائي في سيارة الأجرة والذي فاض من سائقٍ تعِبٍ يريد أن يخفف عن نفسه بكلام إلى راكب لم يسبق أن رآه، يلخص صميم المشكلة في سورية: السوريون، أو قل أكثرية كبيرة منهم، منهكون من الحرب التي يشنها النظام على مجتمعهم. لكنهم يعرفون أن النظام قد انتهى. إنهم يفسرون، ويحسنون تفسير، أعمال القمع والقتل اليومي، كعلامات على انسداد طرق النظام وعجزه عن الإتيان بأي حل كان. حتى الحل العسكري والأمني الذي روجت له أبواق هنا وهناك، أخفق ولم يعد في متناول النظام.
السائق عينة فردية من عشرات الآلاف من السوريين الذين نزحوا إلى لبنان ولم يسجلوا أسماءهم في لوائح اللاجئين ولا يحصلون على أي نوع من المساعدات. بل يحاولون تدبر أمور عيشهم في بلد ينبذ أهله ويشردهم في دول العالم بحثاً عن حياة كريمة.
الأمر المهم أن صمود السوريين على موقفهم ليس أبدياً ولا يمكن الرهان على تحملهم الحرب عليهم إلى ما لا نهاية له. في المقابل، ما من شيء يوحي بأن النظام قادر ليس على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة هيمنته السابقة، بل حتى على الإمساك أمنياً وعسكرياً بما تبقى له من معاقل في دمشق وحلب ومناطق الساحل.
بين هذين المأزقين، قسوة المعاناة النازلة بالسوريين وافتقار المجموعة الحاكمة إلى القدرة على استعادة صفتها كـ «نظام»، يقف العرب والعالم رافضين تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية في إنهاء هذه المراوحة التي يدفع الشعب السوري ثمنها آلاف القتلى كل شهر. وواضحة وضوحاً لا زيادة عليه تلك العلاقة بين إغاثة المدنيين السوريين العالقين في دول الجوار والنازحين داخل بلدهم، وبين المساهمة في تسريع سقوط حكم الأسد، وهو ما تعلمه أجهزة النظام التي تبدي وحشية لافتة في التصدي لكل محاولات مساعدة النازحين واللاجئين.
ومن الترابط العضوي بين الإغاثة والسياسة، يصح الانتباه إلى مواقف بعض فئات السوريين خصوصاً من الذين انتقلوا إلى الخارج والذين يمكن القول إن البعض منهم لا يبدي الحد الأدنى من التضامن مع أبناء بلده، مشاركاً بذلك في إطالة عمر الأزمة وتعميق معاناة مواطنيه.
الحياة