صفحات الثقافة

لوران فان در ستوكت: على طريق دمشق/ جوزف الحاج

منح مهرجان “فيزا الصورة” جائزته الـ”فيزا الذهبية ” عن فئة “نيوز” لهذا العام، للمصوّر الصحفي لوران فان در ستوكت (Laurent Van der Stockt)، (مواليد بلجيكا 1964) عن عمله حول سوريا التي دخلها من الحدود اللبنانية سراً 4 مرّات. المرّة الأولى في تموز 2012 بالتزامن مع الهجوم على حلب، أما رحلته الأخيرة فكانت في نيسان الماضي، مع الصحافي الفرنسي جان- فيليب ريمي، إلى العاصمة دمشق، حيث شهدا إستخدام السلاح الكيماوي للمرة الأولى، حسبما صرّح در ستوكت. نشرت “لوموند” الفرنسية هذا التحقيق مرفقاً بنص لرفيق الرحلة ريمي في خمس حلقات.

“كان بإمكان اللجنة منح عمل فوتوغرافي أصيل، عن معارك حقيقية، لكنها إختارت عملاً صحافياً” قال فان در ستوكت، ملمّحاً إلى صور زميله ومنافسه للجائزة، غوران توماسيفيتش المؤثّرة، الملتقطة في سوريا أيضاً “إنها رسالة إلى المصورين الشباب. ليس الهدف صوراً للعرض أو لحصد الجوائز، بل محاولة لمقاربة الحقيقة.” بهذا، طرح فان درستوكت أسئلة المهنة الجوهرية. إحتارت لجنة الجائزة بينه وبين الصربي توماسيفيتش. المقارنة مهمة، حقق المرشحان للجائزة عمليهما في سوريا. صور توماسيفيتش نوع فوتوغرافي يستدعي التوقف مطولاً عند الإختيار: صور إستعراضية عن المعارك، فوضى ودماء. “نكاد نعتقد أنها صور من فيلم (إنقاذ الجندي رايان)” قال أحد أعضاء لجنة الجائزة.

من الجوائز الأخرى: الـ”فيزا الذهبية ” عن فئة “الصحافة اليومية” للفنلندي ميكلاس ميليتو، والـ”فيزا الذهبية” عن فئة “الإنساني” لسيباستيانو تومادو، عن تحقيقيهما حول مدينة حلب.

قبل سوريا، غطّى فان در ستوك حروباً وصراعات عديدة: يوغوسلافيا، أفغانستان، الشيشان، الكويت، العراق… وحصدت أعماله أيضاً العديد من الجوائز.

يتذكّر فان در ستوكت عندما كان في أحد أحياء جوبر: “بدأت أجهزة اللاسلكي “تفرقع”، فسارع المقاتلون إلى وضع الأقنعة الواقية. لم يكن أحد على علم بما يحدث. نصحني مرافقي منير بالإنسحاب. في اليوم التالي، زرنا مراكز الإسعاف للتحقيق وجمع الأدلة. ستة أشهر من التصوير والتحقيق، بضعة أيام من التصوير الفعلي. كان الدخول إلى دمشق والخروج منها عملية معقّدة تستغرق أسابيع. في سوريا نصل إلى لحظة يحس فيها المرافقون بانعدام التوازن مع مهماتهم.”

ماهي مضامين صوره؟ مقاتلون مسلّحون يحملون أقنعة واقية، مشاهد من المدن المدمّرة، لا معارك حقيقية، ألوان مظلمة، تكوينات عادية، تكاد من دون نص جان- فيليب ريمي تبوح بالقليل، وحتى من دون الصور ربما أضاع النص الكثير من بلاغته. قراءة الكل، الصور والنص، تكشف تحقيقاً شاهداً. هذا ما حاول فان در ستوك إستكشافه، قانعاً بدعم النص المكتوب عندما لا تعود الصور تكفي وحدها. قلة من المصورين يفكرون بالطريقة نفسها: باولو وودز في عمله عن هايتي يقول: “هناك مبالغة في كون الصور تحكي عن نفسها. الفوتوغرافيا لغة فقيرة، كسولة وسطحية. إنها بحاجة لتهجئة إذا كانت تمثّل العالم.” من هنا رغبة وودز في جعل كتبه ضخمة (“إيران: معركة النفط”، “صينيون في أفريقيا”…)، مرفقة بنصوص مطوّلة.

أكّد جان بودريارد والسينمائي الفرنسي جان- لوك غودار ذلك، كل على طريقته: “ما يهم في الصورة الصحافية، هي التعليقات التي نلصقها تحتها.”لكن في مهنة التصوير الإعلامي، وخصوصاً لدى الفوتوغرافيين، التجاذب بين التحقيق البصري والتحقيق المكتوب لا يهم كل الناس. ليس ذلك المبرر الوحيد، فتطور سوق الصحافة له تأثيراته: إنعدام التمويل، كما تقول الصحافة المصوَّرة، التي تقلل من نشر تحقيقات عن الأحداث. ينتج عن كل ذلك تغيّر في مواقف المصورين الشباب الذين كانوا يذهبون لتغطية الحدث من غير تحديد موعد لعودتهم، كي يحصلوا على صور صادقة، قريبة من الحدث، بهدف نشرها في الصحف اليومية. اليوم، يكتفون بأيام معدودة لإلتقاط صور صادمة بهدف عرضها في المهرجانات، أو نشرها في كتاب، أو ترشحها لجائزة، بعد ترميمها بواسطة برمجيات متخصصة.

ينهي فان درستوكت مداخلته بقوله: “على المصوّر محاولة الإقتراب قليلاً من الحقيقة.” هنا أيضاً يبدو الرهان ثقيلاً وهشاً لوقوعه بين متناقضين. من جهة، هناك من يؤمن بأن المصور الصحافي هو شاهد رئيسي يرصد العالم، وربما يتمكّن من تغييره؛ من جهة ثانية، مؤرخون وعلماء إجتماع ومصورون لا يجدون في العدسة أي مرتجى، طالما الحلقة التي تربط المصوّر بالصحيفة مصابة بغرغرينا الربح التجاري، ما يجعل الأفضلية للصور الإستعراضية والكاريكاتورية. يعتبر فان در ستوكت الصنف الأول صبيانياً بينما الثاني متشدداً. في حديث أدلى به في آذار 2011، قال فان در ستوكت: “كشف حدث ما، هو مقاربة لمسألة البرهان، خصوصاً في الفوتوغرافيا. أرى أنه لزاماً على المصور أن يفتّش، أن يكون وحيداً ويذهب إلى حيث لا يرى أحد غيره ما يحدث هناك. أشعر بالضيق إذا بقيت في مكان يجتمع فيه خمسون مصوراً يصعب التمييز بينهم. البحث عن الأصالة ربما لا يتفق مع واقع الأشياء.” معادلة طبقها فان در ستوكت في سوريا، وفي كل مكان عمل فيه.

فان در ستوكت الذي يموّل تغطياته بنفسه منذ أكثر من 20 عاماً، وصل في رحلته الأولى إلى حلب في أواخر تموز 2012، وغادرها في مطلع آب، حاملاً العديد من الصور عن ضواحي المدينة التي أنهكتها الحرب. دخل سوريا من دون علم السلطات، كان عليه الإختباء في منازل خاصة خشية إفتضاح أمره. “كمصوّر أجنبي من غير المعقول العمل بطمأنينة وأمان. كان هناك عنف بربري، إذا طال فرداً فقد يطال أيضاً أقاربه وأصدقائه. قصف بكل أنواع الأسلحة من طائرات ودبابات ومدفعية. في تلك الفترة كانت منطقة صلاح الدين الجبهة الأكثر إحتداماً. في الريف يغادر النساء والأطفال قراهم لقضاء الليل في العراء تجنباً للقصف، ويعودون إليها عند الشروق. في فترات الهدوء يعاود الفلاحون والموظفون أعمالهم. في حلب يقبع السكان في منازلهم، وعندما تهدأ المعارك ينزلون إلى الشارع لشراء حاجياتهم من المخازن التي تفتح أبوابها فور توقف الرصاص. هناك نزوح مستمر، من منطقة إلى أخرى في وسط المدينة، وقد يتحول هجرة إلى الخارج، إلى تركيا مثلاً. أما دوافع هذا النزوح فهي الهرب من الإنتقام والخوف والنقص في الإحتياجات الضرورية. أما الذين لا يملكون أموالاً أو وسائل نقل فيبقون في أماكنهم رغم الخطر المحدق بهم.” قال.

ينتمي فان در ستوكت إلى جيل من المصورين لم يعد يؤمن بقدرة الصورة على تغيير العالم. “هناك دائماً فكرة وجود مجتمع آخر، والفوتوغرافيا يمكنها إعتاق الكلمة.” قالها عن صوره في العراق التي إلتقطها وسط الفوضى مع بدء الإجتياح. رافق لثلاثة أسابيع الفرق العسكرية المتجهة إلى بغداد: “كان شعارهم “إبحث وأقتل”. كان الجيش العراقي أشبه بشبح غير موجود. لم أر حرباً مثلها.” قال.

فان در ستوكت، بلجيكي، مثل بطل القصص المصورة تان تان، ولد في 1964. حقق ريبورتاجه الأول في السادسة عشرة من عمره. بعد سنتين، دخل إلى رومانيا خلسة وعاد بتحقيق عن الحياة فيها تحت حكم تشاوشيسكو. في 1990 عاد إليها مرة أخرى أثناء ثورتها.

“انا من جيل عايش الحرب اليوغوسلافية، أدركنا حينها أننا لسنا أمام حرب “إكزوتيكية” مثل الحرب الفييتنامية. إنها حرب أوروبية! يمكن أن تنتقل إلى كل زاوية في أوروبا. حرب الشيشان لم تكن إكزوتيكية، كانت حربي الأطول، بين 1995 و1999، ثم جاءت بعدها حرب العراق.”

عندما طُرح عليه إقامة معرض لصوره، أجاب: “لم أصورها كي تُعرض.هناك مشكلة اليوم مع التصوير الصحافي، لقد تقدّم الجمالي على كل شيء.”

لا يُعتبر فان در ستوكت، ما يسمى في قاموس المهنة “زر صحافة” نضغط عليه فيأتينا بصور عن الحدث، بل هو إنسان يطرح أسئلته باستمرار، ولم يبق أمامه سوى الإنتقال للعيش في أميركا ليتحقق إذا كان لايزال متاحاً فيها كل شيء.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى