لو كنتُ روائياً/ عقل العويط
أتوجه بهذه الافتتاحية إلى الروائيات والروائيين اللبنانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين والعرب أجمعين، لحضّهم على إيلاء الشأن العام الراهن، بما ينطوي عليه من مآسٍ وفجائع وجرائم وفظائع، الاهتمامَ الأدبي والدرامي الكافي. هي بالطبع لا تهدف إلى “تعليم” هؤلاء، أو “تلقينهم”، أو “توجيههم”. حاشا. إنها تلفتهم فقط، إلى أن الرواية “الكلاسيكية” الكبرى قد تكون الأشدّ تمثيلاً للوقائع الرهيبة، والأكثر تعبيراً عنها. الروائيون، إلى جانب الشعراء، هم أساتذتنا و”حلفاؤنا” في كتابة الوجع والأمل والثورة والحرية. الزميلة الباحثة رفيف صيداوي تتصدى في هذا العدد للسؤال: الرواية اللبنانية إلى أين؟
لو كنتُ روائياً لبنانياً، لتركتُ الفنون الحديثة والتيارات الحديثة والتقنيات الحديثة (لمرة واحدة فقط)، وكتبتُ روايةً “كلاسيكية” عن لبنان اليوم. ليس انتقاصاً من الحداثة، ولا تقليلاً لشأنها، وأساليبها، ومقارباتها، ودلالاتها. أنا نفسي شاعرٌ “حديث”، ومن طبيعتي وواجبي أن أدافع عن “الحداثة”، في الفنون كلّها، فلا أكون “حديثاً” في الشعر، وأطلب من الروائيين أن يكونوا “رجعيين”، أو “تقليديين”، أو “كلاسيكيين”.
خارج تصنيفات الحداثة والكلاسيكية، وأبعد من مراميهما. المسألة ليست هنا بالتأكيد. إنها موجودة في “سرّ” عظيم من “أسرار” الكتابة الروائية، هو جوهرها الحكائي. مرةً ثانية، أطلب من الروائيين الحديثين أن يسامحوني، وأن يعذروا تطفّلي.
لو كنتُ روائياً لبنانياً، لكتبتُ رواية “واقعية”، “تاريخية”، “كلاسيكية” (لمرة واحدة فقط)، عن الجوع، مستخدماً لغة هذا النوع وتقنياته ومكوّناته وخصائصه ومفاهيمه. لو كنتُ هذا الروائي، لكتبتُ عن الفقر. عن القهر. عن الظلم. عن الألم. عن المرض. عن الموت الفردي والجماعي. عن القتل المنظّم والقتل العشوائي. عن الهجرة والتهجير. عن اللجوء. عن اللاجئين. عن الضمائر المبلّطة بالباطون المسلّح. عن الوجع. عن التعب. عن الضجر. عن اليأس. عن العذاب. عن الكفر. عن الطوائف الجائعة إلى التقاتل. عن الله الذي تتناتشه الأديان والمذاهب. عن انهيار الدولة ومؤسساتها. عن التهريب. عن المافيات. عن القمامة. عن الخيانة. عن العمالة. عن الأطفال في الشوارع. عن العاهرات والعاهرين. عن تهافت رجال الدين. عن جنون المسيحيين والمسلمين. عن تعهّر الزعماء السياسيين. عن دناءة الطبقة السياسية. عن أزمة السير والازدحام الخانق. عن عبقرية التجّار. عن المرتزقة. عن تشوّه البيئة. عن انهيار التعليم. عن تدني مستوى الشهادات والأساتذة. عن الوفاء الكاذب. عن خراب العلاقات الأسرية. عن الجيل الجديد. عن الأطباء القتلة. عن البناء العشوائي. عن المجارير. عن المياه الملوّثة. عن الهواء المريع. عن الأنهر الذاهبة إهداراً. عن الأوادم. عن الكسارات والمطامر. عن اللحوم الملأى بالحشرات. عن الأشجار المريضة. عن الغابات المعرّضة للانقراض. عن الرشاوى. عن الإرهاب. عن التكفير. عن المطاعم المدججة برائحة السموم والموت. عن المقاهي. عن براعة الموظفين في التغيب عن العمل وتسطير الإفادات المرضية. عن الزفت. عن القطيعية والقطعان البشرية. عن الحياة التي لم تعد تشبه صعود أول القمر وغربة آخر الشمس.
لو كنتُ روائياً لبنانياً، أو كاتب قصة، لكتبتُ قصةً قصيرة كل يوم، وبدل المانشيتات التي تحفل بالأخبار السياسية، المحلية والعربية والعالمية، وفظائع السياسيين وعظات رجال الدين وألاعيب رجال المال والأعمال، وسوى ذلك من جرائم وسخافات وتفاهات، لاقترحتُ على أصحاب الصحف نشر هذه القصص، يومياً، في الصفحات الأولى، لتتصدر كل التحليلات والحوادث والوقائع، ولتحتل واجهات مواقع التواصل الاجتماعي، ونشرات الأخبار التلفزيونية والإذاعية.
لو كنتُ روائياً لبنانياً، لكتبتُ روايةً عن سقوط سلّم المعايير والقيم. عن انعدام الأخلاق. عن استسهال القتل. عن فساد الناس مطلقاً. عن ازدهار فلسفة العدم. عن الحاجة إلى محو هذه الأرض ومَن عليها.
لو كنتُ روائياً، لكتبتُ روايةً عن آخر هذا الزمان.
* * *
لو كنتُ روائياً سورياً، لكتبتُ (لمرة واحدة فقط)، من بين جميع الروايات الممكنة والضرورية، روايةً خالصة عن الرئيس السوري بشار الأسد، وعن والده الرئيس الراحل حافظ الأسد، وعن المآثر التي تخلّد اسميهما وفعائلهما في سجلات التاريخ السوري، واللبناني، والعراقي، والفلسطيني، بما يجعل كتابتي عنهما نوعاً من العرفان بالجميل حيال المصير الرائع الذي آل إليه الشعب السوري، والشعوب العربية عموماً، على أيديهما البريئتين من كل دم.
رواية كهذه، لا بدّ أن تصحّح كتابة التاريخ، للأمانة فحسب، وأن تُدخل العزاء إلى قلوب الأحرار والثوّار والأرامل والثكالى والأيتام والمشرّدين والمهجّرين والمقتلعين واللاجئين، فضلاً عن جموع السجناء والمخفيين والضحايا والمرعوبين والمعطوبين والمهلوسين والمحبطين واليائسين والتائهين في أرجاء الأرض السورية.
رواية كهذه، لا بدّ أن تنفد طبعتها الأولى من الأسواق على الفور، فيعاد طبعها بملايين النسخ، ولا بدّ أن تُطلَب ترجمتُها الفورية إلى اللغات العالمية، ليتخطى أثرها الطيّب حدود البلاد والعباد، ويعمّ المسكونة جمعاء.
لو كنتُ روائياً سورياً، لكتبتُ رواية (لمرة واحدة فقط) عن عباقرة القتل الحديث من أهل “النصرة” و”داعش” و”حالش” و”مالش” و”فالش”، وكل مَن ينتمي إلى هذه الجماعات من جنود التكفير والإرهاب والذبح وقطع الرؤوس والنهب والافتراس والغزو والتهجير والتدمير، لسرد المكرمات الثقافية والفكرية والدينية التي تحرّك عقول هؤلاء، وتنشّط غرائزهم، والتي من شأنها تغيير وجه التاريخ السوري، وجعل سوريا أرضاً للخير والبركة والازدهار والسلام.
لو كنتُ روائياً سورياً، لكتبتُ روايةً أروي فيها كيف هؤلاء هجّروا الأكرادَ والمسيحيين والإيزيديين والصابئة والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان، وذبحوا بعضهم، واستأصلوا بعضهم الآخر، ومحوا المدن والقرى، ودمّروا الآثار، وخرّبوها، وعاثوا، وهذا كله باسم إله الحبّ والسماح، وتعظيماً لأثره في الأرض.
لو كنتُ روائياً سورياً، لكتبتُ روايةً تقضّ مضاجع مَن لا يُقَضّ له مضجع، لا في قصر الشعب السوري فحسب، بل في كل القصور التي تؤوي مجرمي هذا العالم، شرقه وغربه، شماله والجنوب؛ رواية من شأنها أن تركّع هذا العالم، وتجعله يبكي دماً على ما يفعله في سوريا.
* * *
لو كنتُ روائياً عراقياً…
* * *
لو كنتُ روائياً فلسطينياً…
* * *
لو كنتُ روائياً، لبنانياً، سورياً، عراقياً، فلسطينياً، عربياً، أعجمياً، لكتبُ روايةً عن جماليات التديّن الإسلامي الرهيب، وعن الحبّ القاتل بين السنّة والشيعة، ولجعلتُها تروي ما لا يرويه حتى الواقع نفسه.
* * *
قد تكون وحدها الرواية “الكلاسيكية” الكبرى تستطيع أن تفعل ذلك. الرواية باعتبارها ملحمةً تروي، ونهراً يهدر في الوجدان الجمعي، وزلزالاً يصف الزلازل، ويقوّض أركان الأمر الواقع وركائزه. ليس كالراوي “الكلاسيكي” مَن يحكي، ويصف، ويجسّد، ويروي، ويشوّق، ويشهد، ويسرد، ويوثّق، ويحلّل، ويفكّك، ويعرّي، ويخترق الركامات والحواجز، ويدخل إلى الطبقات المعتمة من الفجائع الفردية والجماعية، ويكتب الخراب الروحي والمادي. وليس مثل هذه الرواية الملحمية الكبرى مَن يترك للشخصيات أن تستسلم للبوح والاعتراف والوصف والشهادة، وتقول ما لا يتخيّله واقعٌ أو خيال.
* * *
لقد طفح الكيل. ولم يعد ينفع شيء مع سرّاق الحياة والحبّ والأمل والسعادة والعقل والروح والسياسة والمال والدين. لم يعد ينفع الصبر ولا التهذيب ولا اللياقات ولا انتظار الأعاجيب وأحكام المصادفات والأقدار. يجب فقء هذه الدملة الخطيرة بأدب الحكي القاسي الفجّ اللئيم.
وحدها الرواية تفعل ذلك. فسامِحوني أيها الروائيون، إذا كنتُ أعتقد، من طريق الصواب أو من طريق الخطأ، أن الرواية “الكلاسيكية” هي التي تستطيع… لمرة واحدة فقط.
النهار