صفحات الثقافة

“لو وضعتم الشمس بين يديّ”.. تفاصيل الإنسان السوري المعذب


آخر أعمال الروائي خليل النعيمي

عمان – محمد السمهوري

يتنقل الروائي السوري خليل النعيمي في روايته الجديدة (لو وضعتم الشمس بين يدي)، بين قلب ساخن، وعقل بارد، يحاكي فيما بينهما الحالة السورية ببعدها الإنساني والسياسي والوجودي، “كنت أعرف أن الجائع لا يشبع من الانتظار، لكنه بغير الانتظار لن يحصل على شيء” صفحة 24، هذه الجملة التي يقولها بطل الرواية هي مفتاح مهم ولافت يرصد من خلاله ما يمكن إسقاطه على الوضع والظرف الصعب الذي يمر به الشعب السوري في ثورته ضد نظام الاستبداد والقمع السياسي والاجتماعي والثقافي.

في هذا العمل الروائي للنعيمي، وهو العارف فيما يكتب من سرد طويل مكثف للشخصيات، يسعى الى مقولته الوجودية والتي تكشف عن تفكير متواصل في مفردات حياة الانسان ما بين دمشق المدينة التي تنسحب مع بطلها الى باريس لتفرض نوعا من الحوار والسجال عن ماهية الاشياء وحقوق الانسان، من نقطة شخصية جدا تتقاطع مع النظم والافكار والمدن والاغتراب القسري عن مسقط الرأس، والذاكرة الاولى.

قد يكون هذا العمل الروائي الجديد للنعيمي مكمل في سياق مشروعه الإبداعي، لكنه في رواية (لو وضعتم الشمس بين يدي)، اراد ان يحاكي ذاته وتجربته الانسانية الفكرية، من منظورين ابرزهما في تنقله ما بين دمشق كمدينة اولى وبين صحرائه في الجزيرة السورية، مع وجوده في مدينة باريس بوصفها مدينة المعرفة وحقوق الانسان والثقافة.

فتش عن القمع

أصوات عديدة داخل الرواية كانت ترزح تحت وطأة العذاب والالم من واقع حالها، تتضح ان مشكلتها الاساسية ليست شخصيا، بل ان القمع والاضطهاد السياسي والفكري هو احد اسباب ما تعانيه من ظلم وقهر “في مواجهة صمته الذي طال، اروح ابحث في اعماقي عن مزايا اخرى لحياتي الاولى شديدة القسوة، واجدني اهذي مفاخرا الجوع الكاسح الذي عانيته في طفولتي هو الذي حررني من ضرورة الشبع، والمسكن البائس في اطراف المزة القديمة، عند اقدام سجنها الرهيب، هو الذي فتح عيني على جمال الامكنة”.

قد يكون لاختيار شخصيات الرواية دلالة لافته عما تعانيه سوريا الآن من تراجع في مختلف أسباب الحياة ومنها الحريات، هو ما تحاكيه تلك الشخصيات الهاربة الى الامام، في بحثها عن حلول شخصية لمشكلة وجودية تأخذ ابعادا جغرافية وحسية وعاطفية.

لعبة لافتة ومهمة تستمر من بداية الرواية حتى خاتمتها وهي الشخصية الأبرز “رجل الحديقة” صاحب التجربة العميقة في الكشف عن الذات، امام البطل الذي احترف السؤال، وبيده مفتاح الحل، دون ان ينتبه، من دمشق المدينة التي كشفت عن جوهر صراع الشخصيات الى باريس المدينة التي اختزلت الأسئلة وحتى الإجابات في كثير من الاحيان، يمشي بطل الرواية في الحديقة العامة، ناثرا هواجسه، حكاياته الاولى في مسقط الرأس. صحراءه التي منحت ذاكرته الافقية معنى سوف يتغير حين يبدأ رحلته الى دمشق ومنها هاربا باحثا عن حياة أكثر رحمة ومعرفة الى باريس، المدينة المغايرة في حضورها ومضمونها عن مدينته دمشق المغلفة بالحيرة والالم والقسوة.

من دمشق يرى بطل الرواية العالم من عين نملة، ما ان تتحول الى عين طائر يحلق في مدينة اخرى ليكتمل المشهد، ما بين صوت العقل وصمت القلب، “مصير الكائن يتأرجح بين مكانين، المكان الذي ولد فيه، والمكان الذي من لا يعود”، انها الجملة البليغة التي اراد بطل الرواية الحفاظ على معناها بالنسبة لماهيته الانسانية والوجودية في خلاصه من محنه الفكرية وحتى في بعض الاحيان الجسدية في حديثه عن اهوائه واكتشافه لرغباته وللمرأة التي كانت بالنسبة له الحلم في دمشقه الاولى.

السرد الذي حاكى الحالة الانسانية السورية في حقبة القمع والانتظار الخلاص منها، انها حكاية الواقع السياسي والانساني وحتى الفكري لسوريا وتحولاتها الحالية، وكأن هذا العمل الابداعي كان يتنبأ بالانفجار الغاضب والهادر، ضد منظومة الخوف والقمع، مسلحا بمفهوم التغيير بلغة سردية تقارب الواقع بمستواه الزمني والحسي، بلغة شعرية ساهمت في اعطاء الفكرة زخما كبيرا، وساعدت ابطال الرواية حتى البسطاء منهم لأن تشكل مقاولاتهم ذات الابعاد الفكرية والوجودية في استنتاجات تلخص تجاربهم وحياتهم الشخصية.

أكثر من معنى

قد تكون رواية النعيمي (لو وضعتم الشمس بين يدي)، حملت اكثر من معنى، لكنها لخصته في سؤال الحرية من خلال المفارقة ما بين العيش في دمشق والاقامة في باريس، وما بينهما من معارف بدأت من الحليب الاول في صحراء سوريا “الجزيرة”، وصولا الى حالة الرفض والتمرد على السائد، من خلال محاكاته بطل الرواية وشخصياته لظروفهم ولماذا هم في غير مكانهم، والسؤال الاكثر قلقا، هو مفهوم الغربة والنتائج التي استغرقت جهد بطل الرواية وحنينه لوطنه وتفاصيل عائلته وجيرانه في الصحراء، مرورا بدمشق كمدينة لأبجدياته، ومنها المرأة واللذة والمدينة والحالة القهر والاصوات المبحوحة، وصولا الى باريس كعنوان وحالة من تنفس العقل باعتباره الرؤية للتفكير والبحث عن حلول واجابات الانزياح الحسي والجغرافي والقيمي.

وقد لا يكون النعيمي في روايته وهو المتكئ على مفهوم واسلوب شعري فلسفي في عمله الجديد، يريد قول شيء محدد بالقدر الذي يريد من خلاصة (لو وضعتم الشمس بين يدي)، هو الانتباه الى اسباب ازمة الانسان العربي والسوري معا، انها الحرية، التمرين اليومي على العيش بكرامة، والسؤال الاكثر الحاحا في الرواية هو : هل المسافة ما بين دمشق وباريس تحمل كل هذه التساؤلات الغامضة والمبهمة هناك. الواضحة هنا، والجواب هو حق المعرفة والاكتشاف الذي كلف الروائي روايته، اقتراحه الابداعي الوجودي، والذي يلامس ابسط معاني ومفردات الحياة المتعلقة بجوهر الانسان.

هواجس وحكايات قسمها الروائي النعيمي في روايته (لو وضعتم الشمس بين يدي)، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات/ بيروت، ما بين ابطاله وكلهم في الرواية ابطال ابتداء من البطل الاول وصولا الى شخصياته المهمشة ما بين دمشق وباريس، ذوات نفسية وانسانية متعددة قالت كلمتها، في جملة عبارة مؤلمة قاله البطل “انا لم اترك (قبري القديم)، الذي بني لي، من اجل قبر جديد اقيمه هنا.. بيدي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى