صفحات العالم

ليبيا ليست نموذجاً


نهلة الشهال

تمرّد الشعب الليبي في شباط/فبراير الفائت كان مفاجأة. فالأبصار كانت تتجه الى الجزائر أو المغرب، كمرشح للاجابة على «مَن التالي؟»، وليس الى هذا المكان الغامض وغير المؤهل للثورات. ولكن الحدث جاء في خضم العصف التونسي والمصري، فعزز في البداية ذلك الشعور بالخفة، بأن المنطقة برمتها تستيقظ، وأن دينامية بعضها تجر الآخرين. عندما انساق الموقف في اتجاه تدخل عسكري لحلف شمال الاطلسي، بدعوى حماية المدنيين إزاء تهديدات القذافي باجتياح بنغازي، وأن الخطر داهم ويجب القيام فوراً بخطوة ردعية، ظهر بجلاء أن لكل شيء ثمناً: لا يمكن أن ينفصم التحليل عن النتائج. فإن كانت المعرفة تقول إن القذافي بنى اعتباطية وعنف نظامه على ادعاء الغرابة الذاتية المصنفة جنوناً أحياناً، فهو لم يكن ليتعامل مع تمرد في بلده بكياسة سياسية. وهو على أية حال، واحد من الابناء الشرعيين لظاهرة الانظمة «الثورية» في المنطقة، التي بنت سلطات استبدادية تحمي ما انتهى ليصبح فحسب مزيجا من حماقة وفساد غير محدودين. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فلم يكن من الممكن ابتلاع فكرة أن الناتو قد تحول فجأة الى جمعية للرفق بالإنسان، وأن غايته من تحريك طائراته ومدمراته كلها كان حماية بنغازي من السحق. ولو كان في ذلك ذرة من الحقيقة لرأينا تلك العواصم الغربية تمد يد العون الى القرن الافريقي حيث مأساة المجاعة تهدد الملايين بالموت، ولن يكون معترض، بل ليس أفضل من ذلك عمل لإعادة تلميع صورة من يفعل. حسناً، هناك النفط، والموقع الاستراتيجي، وحسابات التحكم بالمنطقة برمتها التي كانت تبدو على وشك الانقلاب. وهناك أيضاً أحقاد دفينة. وهناك تنافسات الزعماء الغربيين، وقد سعى ساركوزي الى قيادة أو ريادة فكرة التدخل. وغطت قطر كما تركيا والجامعة العربية، كل واحدة منها، جانباً من الجوانب المتعددة، المالية والسياسية والدعاوية للعملية الاطلسية، وجعلت مباشرتها بسرعة قصوى ممكنة.

ولأن المقدمات لا تنفصل عن النتائج، فمن المهم اليوم، وفي هذه اللحظة التي تنتهي فيها مرحلة لتبدأ أخرى، التذكير ببعض ما كان. ففي البدايات صُمَّت الآذان عن كل صوت مخالف، لم يكن ليدافع عن القذافي (هؤلاء قلة)، بل يشير الى المخاطر الجمة المترتبة على المنحى المعتمد: ماذا تريدون؟ هل نترك الناس يُبادون تحت أقدام كتائب الرجل المجنون، وابنه المودرن الذي خرج يتوعد الناس؟ لا وقت للمبادرات السياسية. ورُكِّب على عجل «مجلس انتقالي» أكثر من نصف أعضائه بقي سرياً لدواع أمنية، بينما ظهر في عداده، وبين أكثر نشطائه، أشخاص مرتبطون على رؤوس الاشهاد بالاستخبارات المركزية الاميركية، ارتباطاً تقنياً وليس فكرياً، بل بعضهم كان وسيطاً بين القذافي وإسرائيل في فترة تطبيع العلاقات بينهما. وراح مدَّعي الفلسفة الفرنسي، الصهيوني على رؤوس الاشهاد هو الآخر، برنار هنري ليفي، يتصرف كمستشار فوق العادة للمجلس. ولأن سياق التطورات هنا كلم يكف عن المفاجأة، افتتحت فرنسا، بعيد أيام عن الاعلان عنه، اعتراف العالم بهذا المجلس الانتقالي كـ«ممثل شرعي ووحيد» لليبيا، ولحقت بها وإن بأشكال أكثر تحفظاً سائر العواصم الغربية. وكل ذلك ترافق مع كم هائل من اشتغال الآلة الدعاوية الغربية التبريرية للعملية الانقاذية الجارية، حتى وصل الامر الى الكلام عن مئات ـ بل آلاف ـ حالات اغتصاب للنساء. كما ترافق مع «في ما بعد» نزقة، كجواب على التحفظات والمخاوف: في ما بعد نرى كيفية معالجة الانقسام الجهوي والقبلي الليبي، المهدد بحرب أهلية مديدة، في ما بعد نرى كيفية معالجة بدائية التشكيل السياسي المتوفر. بل شملت «في ما بعد» تلك الاستعصاء العسكري نفسه. فحين لاح أن بضع عمليات قصف أطلسية لن تكون كافية لإقناع القذافي بالتنحي، تم تجاوز التكليف الأممي، وتكثف القصف، ومعه تسريب الاسلحة «للثوار»، ثم إرسال من يدربهم، ثم من ينصحهم ويخطط لهم، فعُرف أن وحدات خاصة للأطلسي تعمل على الارض. وهو ما يفسر التناقض بين المنظر العفوي والفوضوي لرجال مسلحين يطلقون النار بكثافة في الهواء متقافزين أمام عدسات التلفزيونات، والنتائج الميدانية لتقدم «الثوار». تجاوز الامر القصف المركز أو الجراحي للناتو، الذي ستكشف الايام المقبلة حجم الكوارث التدميرية على البشر والحجر التي تسبب بها. وستكون هذه ايضاً من مفاجآت المسار الليبي، مثلها مثل توضيح كيفية اغتيال الجنرال يونس منذ شهر، وايضاً كيفية اشتغال هذا المجلس الانتقالي العتيد، الذي بات يعقد علناً اجتماعات عمل حميمة مع السيد فيلتمان في مكتب في بنغازي.

يقول رئيس الوزراء البريطاني ان «مهمة الاطلسي ستستمر طالما هناك حاجة لها». قد يفسر المتفائلون ذلك بواقعة أن القذافي ما زال طليقاً، كذلك سيف الاسلام، بعدما حار المجلس الانتقالي كما المحكمة الجنائية الدولية في مكان محاكمته، وكادا يدخلان في مشادة. وبدت التصريحات عن الرأفة برموز النظام السابق ومؤيديه نوعاً من الحرب النفسية والاستباق الدعاوي لأيام عصيبة ما زالت متوقعة بقوة. ولكن نظام القذافي انتهى. وإذا لزم الامر، فيمكن لقوات الاطلسي تدمير باب العزيزية قبل حلول ذكرى ثورة الفاتح من أيلول بعد أيام. ماذا عن «سرت» وعن مواقع أخرى؟ في ما بعد!

وأما الاشهر الثمانية التي تفصل التحرير (المعرَّف بانتهاء القذافي شخصياً) عن انتخابات المجلس التأسـيسي وفق الاعلان الدستوري، الذي جدد منذ أيام خريطة الطريق الاصلية، فثمة أسباب قوية للاعتقاد أنها ستمدد مرات عديدة وسط صراعات عنيفة وبشعة على كل شيء. لعل الفترة الاسهل توشك اليوم على الانتهاء لتبدأ أخرى، بل أخريات، يتوقع لها أن تظهر أحشاء الموقف في ليبيا، انقساماته وصراعاته وثاراته…التي يجيب قادة عسكريون ومدنيون من المجلس الانتقالي على الاسئلة القلقة التي تخصها والتي باتت تطرح عليهم وهم على وشك الإمساك بالموقف، بأنهم إنما يعتمدون في مواجهتها على الحس الحضاري لمواطنيهم!يبدو غدُ ليبيا المترامية الاطراف، والقليلة السكان، والغنية حد إثارة الشهيات، وكأنه ستسرح وتمرح فيه الشركات المتعددة الجنسيات، برعاية مخابرات بلدان أكثر تعدداً، وقوات خاصة، وتقنيين عسكريين ومدنيين، يساعدون على إعادة البناء، كما يعد أوباما وميركل وسركوزي وسواهم.

فبعد ان استعبد القذافي ليبيا، ها هو الغرب المنقذ يحولها الى جمهورية موز نفطية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى