ليبيا وسورية.. تطورات وإنعكاسات راهنة
فادي عميرة
في تونس، إنفجرت إحتجاجات عنيفة في سيدي بوزيد بعدما قام محمد البوعزيزي بحرق نفسه بسبب إهانة وقمع الدولة له، وهو الفقير المهمّش، إبن المدينة المهمّشة. إتسعت الإحتجاجات التي واجهتها الدولة بالعنف والقمع والتضليل والتخويف، حتى عمت أرجاء تونس وإجتاحت العاصمة بقوة. وكان يزداد عمقها بإزدياد عنف السلطة، حتى طالبت بإسقاط النظام.. وسقط النظام. في سابقة تاريخية فاجأت الجميع، سقطت السلطة الأبويّة، التي كانت الشعوب تعتقد أنها خالدة وأبديّة، وقدر محتوم. فالزعيم والقائد عندنا مخلّد، وهو جزء أساسي من الوطن والهويّة، وثابتٌ من ثوابتها.
كسر الشعب التونسي البطل قدسيّة وعبوديّة الفرد، والحاجز الوهمي للمستحيل، ورسم طريق الخلاص للشعوب المقهورة قاطبة. فإمتد الحراك طبيعياً إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين والمغرب وسورية وغيرها من دول العرب والعالم، التي إنتفضت قطاعاتها الشعبية المضطّهدة في سياق ما بدأ في تونس. أملاً وسعياً لبديلٍ أفضل.
عندما وصلت رياح الثورة إلى ليبيا، بدأ الحديث عن مؤامرة إمبرياليّة على النفط الليبي، وعلى نظام ‘ممانع للإمبرياليّة’. وعند وصولها إلى سورية، بدأ تراجُع بعض ‘النخب’ وإزدادت حدّة الحديث عن مؤامرة دفعت بالشعوب للخروج إلى الشوارع ومواجهة الرصاص والقذائف، لإسقاط أنظمة ‘الممانعة’ جهلاً ربما- بالمطالب الأساسية للشعوب المنتفضة والمتمثّلة بإسقاط حالة الإغتصاب والإستبداد السلطوي، وإنهاء التهميش والإفقار، والقضاء على الفساد الحكومي، ورفض للتبعيّة.
ليبيا، الثورة لم تنته بعد
في ليبيا، بدأت إحتجاجات سلمية لم يعتد عليها النظام هناك فواجهها بعنف مفرط، إستخدم فيها الرصاص والمرتزقة والقصف بالطائرات التي هرب بعضها إلى دول مجاورة وقفز طيار أحدها من على متنها هرباً من إقتراف مجزرةٍ بحق المتظاهرين، وبدأ الإنهيار السريع لحالة ‘اللانظام’ والشبيهه بالإقطاع. فحوّل النظام هذه الحالة إلى حرب شنّها على شعبه الذي حمل ثواره السلاح ليدفع عن نفسه بطش نظام القذافي ‘الممانع’.
سقط آلاف القتلى في أيام، ودكّت مدافع ‘الممــــانعة’ مدن ليبيا الثائرة، وكادت الآلة العسكريّة الضّخمة للنظام أن تهزم الثوار، وإزدادت صرخات الليبين الذين يئنون تحت القصف والذّبح المتواصل، مترافقاً مع حملة تهديد وتخوين وتضليل إعلامي واسع قام بها النظام (كلّنا يذكر خطابات القذافي المذعورة)..
أثارت الحرب في ليبيا العالم أجمع، وفتح سلوك النظام الدّموي الطريق أمام تدخل حلف شمال الأطلسي الذي كانت تنتظر دولُه تشكيل ‘قيادة’ سياسية واضحة للمعارضة، لتضمن التعامل السياسي مع ‘رأس’ للثورة الليبية. كان بعضها متشجعاً كفرنسا والبعض الآخر متردداً كالولايات المتحدة.. وتدخّل الحلف أخيراً في الحرب التي إمتدت لستة أشهر، وبدأ يقصف أهدافاً عسكريّةً للنظام، ساهمت إلى حد كبير في إسقاطه وتقصير عمره، وحسمت المعركة لصالح الثوار.
مخطئ من يعتقد بأنه لن تكون هناك فاتورة سياسية إقتصادية للتدخل الخارجي، لم تدخل فرنسا ساركوزي (مثلاً) -صديق الأمس للنظام، وعدوه اليوم- المعركة بلا ثمن. هي تريد فتح أسواق جديدة خدمةً لأطماعها الرأسماليّة، وتحت غطاء تحرير الشعب الليبي. هذا ما نخشاه جميعاً، وهذا ما على الشعب الليبي، الذي لا يجب أن يرضى بأي شكل من أشكال الإستغلال وقد تخلص من إستغلال القذافي له، أن يواجهه.
توحّد الثوار الليبيين رغم إختلافهم في مواجهة خصم واحد هو النظام، لم يلتفتوا سوى إلى التناقض الذي وحدّهم عليه، والذي حان وقت حسمه.. عملية سقوط نظام (اللانظام) في ليبيا قد تمت تقريباً، بسبب طبيعة النظام نفسه بعكس تونس ومصر. والآن بعد حسمه، ستبدأ التناقضات التي جمدّت بينهم في الظهور وسيبدأ صراع جديد على شكل النظام الجديد، وحتماً على العلاقة مع دول الحلف. وسيفرز هذا التناقض بلا شك، مواقف وطنية واعية للمطامع الإمبرياليّة. وهنا دورنا نحن، دعم الثورة الليبية وحثها على مقاومة مخاطر الهيمنة الخارجية والحذر منها، وعلى بناء نظام وطني ديمقراطي عادل، وبلا شك سيكون النظام الليبي القادم نظام أكثر عدلاً وأكثر تقدّماً عن سابقه.
أما المواقف التي تتحدث عن رفض الثورة الليبية دون تقديم بديل وموقف حقيقي، فهي مواقف غير مسؤولة.
سورية، إنكارٌ مستمر وإصرارٌ على مؤامرة
أما في سورية، فلا زال النظام مستمراً في إستخدام آلة القتل والشبّيحة ضد المتظاهرين العزل رغم الإعتراف في أكثر من مناسبة بوقوع عمليات قتل للمتظاهرين وتشكيل ‘لجان تحقيق’ وإعلان وقف العمليات العسكرية ورغم إستمرار الحملات العسكرية القمعية للنظام -الممانع كذلك- لأكثر من خمسة أشهر، إلّا أن الحراك في سورية عمّ معظم المناطق، ودخلت بعض أحياء دمشق التي واجهها النظام بالعنف والإعتقالات.
في ظل وضوح الجريمة وإستمرارها وتوسعها ورغم وضوح كذب النظام، لازالت بعض ‘النخب’ تتبنى نفس مستوى الخطاب المنخفض في البدايات، وتتحدث عن صور وفيديوهات مفبركة وأخبار كاذبة وعصابات مسلّحة وتضليل إعلامي ‘عالمي’.. إن عملية نقل الخبر ونشره، تزيد من تصاعد الإحتجاجات وتضرّ بالسلطة، لهذا يرفض النظام دخول وكالات الأنباء لنقل ما يجري على الأرض. فسواء في تونس أو مصر أو ليبيا أوغيرها إتهَمت السلطة قناة الجزيرة وغيرها بالعمالة والمشاركة في المؤامرة.. وبدعوى الخوف على سورية (التي تختزل عندهم في ‘النظام’ السوري) يقوم هؤلاء بالدفاع عن النظام وإنكار جرائمه، وأغلبهم عندما يشعرون بالضعف يعترف بها ويبررها بأهمية بقاء النظام السوري الداعم للمقاومة!
إن إستمرار النظام السوري في قتل شعبه والإصرار على رفض التغيير السلمي لحالة الإستبداد والتهميش والفساد سيفتح الطريق -حتماً- أمام التدخّل الخارجي في مسار الثورة وبالتالي في عمليّة بناء النظام الجديد، وهو ما نرفضه جميعاً رفضاً قاطعاً. وما يجب الحوار حوله هو دورنا في حماية سورية الشعب والموقف النضالي كوحدة واحدة! وليس الوقوف في وجه الشعب وثورته بحجة حماية ‘الدور الوطني’ لسورية.
أما الحديث عن ‘مين أحسن: البعث أم الإسلاميين؟’ فهذا تسطيح للمسألة وإحتقار للشعب.
ليس من المنطق، ولا من الأخلاق، أن نطالب الشعوب بالتوقف عن المطالبة بحقوقها بحجة الخوف من التدخل الخارجي، الشعوب إنتفضت ولن تهدأ بهذه الطريقة، بل علينا أن نطالب الأنظمة بحماية بلداننا من التدخل الخارجي عن طريق تحقيق مطالب الشعب المحقة والعادلة، بدلاً من شن الحرب عليه وتعريض المنطقة كلها للخطر.
إن التدخلات الخارجية طبيعية ومتوقّعة، إذ لا يمكن أن يتخيل عاقل أن نمر بحالة تغيّر نوعي دون تدخل القوى العظمى من أجل حماية ما تبقى لها من مصالح ونفوذ مع أنطمة إهترأت وحان موعدها التاريخي للزوال.
إن شعوبنا العربية تناضل اليوم ضد الإستغلال، من أجل الحريّة والعدالة، في سيرورة نضال تاريــــخي من أجل مستقبل أفضل للبشريّة. وما هذه الحالة سوى نقطة تحول نوعي لن يتوقف بعدها التاريخ، وخطوة على طريق نضال طويل ومرير، مليء بالتحولات المماثلة، حتى تتحرر البشريّة من الإستغلال.
‘ كاتب اردني
القدس العربي