صفحات العالمغازي دحمان

ليست حرباً أهلية بل تجهيز لها


غازي دحمان

يبدو أن ثمة فارقاً واضحاً بين التعريف الأممي للحرب الأهلية، وبين التعريف السوري لها (النظامي والمعارض)، إذ بينما يشمل التعريف الأممي، كما تم التعبير عنه من قبل الأمم المتحدة ومنظماتها ومسؤوليها، طيفاً واسعاً من أشكال النزاعات، يمتد من الثورات المسلحة (حالة إسبانيا أيام فرانكو) إلى التمرد المحدود كما حصل في بعض دول أميركا اللاتينية، وصولاً إلى حالات التقاتل العرقي والطائفي كما شهدته يوغسلافيا وراواندا، وقبلهما لبنان. يحصر التعريف السوري حصول هذا الامر، ليس بتمظهراته على الأرض وإنما بالإعلان الصريح من قبل أطرافه، وما لم يعلنون ذلك فلا حرب أهلية حقيقية، أي بما يشبه الحال العراقية، حيث قامت الحرب الأهلية وتشكلت بيئتها الحاضنة، وإستغرقت داخل مكونات المجتمع، وعملت بأريحية كبيرة في إخراج كل العفن الطائفي إلى سطح المجتمع، ومع ذلك لم يتم الإعتراف بها إلاّ مؤخراً وبشكل خجول.

لا شك بأن الأمم المتحدة في إقرارها بوجود حالة حرب أهلية في سورية تستند إلى جملة معطيات عملانية، لا تستطيع، بالنظر لخبرتها في أنواع النزاعات ومعرفتها بطبيعتها، أن تتجاهلها، وبخاصة بعد إكتسابها صفتي الديمومة والمنهجية، من نوع الإنشقاقات العسكرية والمسلحين الذين ينتمون إلى مكون معين، وإستهدافهم لأجهزة الأمن التي يغلب على تركيبتها مكون معين أيضاً، كذلك حالة المجازر والتهجير لمناطق بعينها، وما يحمله ذلك من إشارات معينة لأهداف مستقبلية تستبطنها هذه العمليات، إضافة إلى إسلوب الذبح بالسكين الذي برز أخيراً، بوصفه ختماً ورمزاً طائفياً يؤشرعلى الخلفية المذهبية للقاتل، ويحيل القضية السورية إلى تاريخ معقد.

في الجانب السوري فإن الإنكار يؤدي أغراضاً وظيفية مهمة، فعدا الجانب الرمزي االذي قد يفقد طرفي الصراع أحقية إدعائهما تمثيل الشعب، كل الشعب وليس شعباً بعينه، فإنه بالنسبة للنظام، المحسوب في التوصيف طرفاً أهلياً، سيحرمه من إمكانيات إستخدام مقدرات الدولة السورية من قوة بشرية من مختلف المكونات في الجيش، الذي يشكل النطاق الإستراتيجي الأهم لحماية النظام، وكذا المعدات العسكرية بكل صنوفها، فضلاً عن الموارد المالية للدولة التي يسخرها لخدمة معركته، وكذلك المؤسسة الإعلامية التي تبرر عملياته وتسندها، فوق هذا وذاك، شرعيته في إحتكار القوة التي تتيح له قتل معارضيه في ساحات الصراع وإحتجاز الآخرين في غياهب السجون ورهن أوضاعهم يإنتظار جلاء الأمور.

بناء على ذلك، وحسب كل المعطيات، فإن النظام يستثمر كل ما تتيحه الظروف، من وقت وإمكانيات للعمل على إستراتجيتين، إحداهما مولدة للأخرى، يمكن تسميتهما مجازاً بـ”الخطة (أ) والخطة (ب)” بحيث يعمل في إطار الأولى على خطين متوازيين يتم بمقتضاهما تثبيت الحكم والقضاء على الخصوم قضاءً مبرماً، ومن ثم إنهاك البيئات التي أنتجت هذا النمط الصراعي لسنوات عديدة بحيث يتطلب خروجها من حالتها المدمرة جهوداً ووقتاً طويلاً يضمن نزع قدرتها الهجومية، ويتم بناء هذا التصور على أساس ضمان عدم حصول متغيرات ما في البيئة الدولية وإستمرار المظلة الروسية، التي يبدو أنها تتاسسق مع هذا التصور، أما في حالة حدوث متغيرات دولية لا تستطيع روسيا التأثير بها أو حتى دخول الطرف الروسي في إطار ترتيباتها، فإنه يصار إلى الإنتقال إلى الخطة “ب” والتي يكون قد تم التجهيز لها مقدماً، أي الإنتقال إلى كيان حاضن يملك صفات الدولة البديلة من إمكانيات وإشتراطات.

بالنسبة للمعارضة، فإن توصيف الحرب الأهلية لسلوكها يفقدها صفة الثورة، ويبرر قمعها بدرجة أكبر من قبل النظام، وربما يؤثر ذلك بشكل مباشر على قوى الحراك المدنية التي تشكل حاضنتها الشعبية، إضافة إلى حقيقة أن قوى المعارضة، بكل تشكيلاتها، لم تتعاطَ، حتى اللحظة مع الحدث بوصفه حرباً أهلية، بقدر ما تعتبر نضالها نوعاً من حق الشعب في إختيار شكل نظامه، وحقه في المشاركة والعيش بحرية وكرامة.

لا شك أنه إستقر في وعي النظام، بعد أكثر من خمسة عشر شهراً من الإرتكابات الفظيعة، بات من المستحيل ضمان إستمراره أو إفلاته من العقاب، وأي عقاب، وبالتالي فإن سلوكه الحالي يؤشر بما لا يدع مجالاً للشك إلى إستعداده لكل الخيارات السيئة، وهو يعمل على تجهيز مسارحها على الأرض السورية.

دمشق

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى