ليست “مؤامرة خارجية”!
د. طيب تيزيني
حين خرج شباب سوريا إلى الشوارع قبل عشرة أشهر، كانوا يدركون أن أعظم شعار يمكن أن يطلقوه بعد أربعين عاماً، يتلخص بالثلاثية الكبرى: حرية وكرامة وديمقراطية. بيد أن سادة النظام الأمني لم يدركوا، في بواكير الانتفاضة، أن تلك الثلاثية ستتحول بعد بعض الوقت من “هبَّة” طارئة يمكن محاصرتها بثُلة صغيرة من رجال الأمن وجعْلها “درساً لمن يعتبر”، إلى حدث هائل الدلالة. فلقد أطلق السادات على “الغلابا”، الذين خرجوا في مصر مطالبين بالكرامة والخبز، “انتفاضة الحرامية” منذ عدة عقود، وانتهى إلى سحقهم. وقد جاء الآن، ذوو الأربعين عاماً من حكم في سوريا “يراد له أن يكون إلى الأبد”، فوجدوا أنفسهم، شيئاً فشيئاً، أمام ما أحسوا أنه قد يجسِّد حالة يمكن أن تكون فريدة في تاريخ الثورات والانتفاضات. وبالطبع، اتضح أن ما هو حتى الآن في طور الحدث في سوريا، مختلف عمقاً وسطحاً عن “انتفاضة الغلابا” إياها في حينه.
فإذا رأى السادات في أولئك الذين لم يكونوا يملكون حتى أجسادهم، فإن الأحفاد السوريين راحوا يظهرون كباراً من حيث هم طلاَّب “عدالة – خبز” مع الحرية والكرامة والديمقراطية. وبالطبع، نحن هنا نأخذ بالاعتبار خصوصية كل من المرحلتين الاثنتين في مصر وفي سوريا، مع العلم أن الانتفاضة المصرية قدمت الآن حالة كبرى في انتصارها. وإذ ذاك “بُهتَ الذي رأى”، فراح الإعلام السوري يُنتج ما أراد له أن يكون تغطية للحدث الجديد، الذي ظهر كأنه مفاجئ. فكان، من ثم أن أُنتجت من ذلك الإعلام ثلاث مقولات، في واقع الحال “المستجد به، وتلك هي: “المؤامرة الخارجية”، و”جموع المندسِّين من الإخوان والسلفيين”، وأخيراً “دعاة الطائفية التي لا تُبقِي ولا تذر”. هكذا بدأت عجلة الإعلام في النظام السوري في مواجهة “المؤامرة الخارجية المزعومة” بأطرافها المتعددة، الإسرائيلي والأميركي والفرنسي…إلخ، الذين يسعون تحت راية الاستعمار الجديد والصهيونية والامبريالية، إلى تدمير بلد عمل على مدى أربعين عاماً في سبيل خلق “وطن حر” و”شعب سعيد”، وبذلك، جرى التنكر للشعب السوري بمطالبه في التأمين لمجتمع وطني ديمقراطي، واستُبدل بـ”مؤامرة خارجية” تقود حرباً ضد النظام السوري.
وملفتٌ ومؤلمٌ أن من أعلن أن أمن إسرائيل هو من أمن سوريا، لم يُساءل أبداً، أما الشعب السوري بشبابه الذين يفتقدون الحرية والكرامة والعمل، فقد أتُّهم بأنه وراء مؤامرة مدبَّرة ضد بلده. وفي هذا، جرى التنكر النظري السياسي لضرورة القيام بإصلاح للبلد يضع السُّراق والمجرمين والفاسدين المفسدين، أمام قضبان العدالة، بينما تعرض الشباب -وهم فئة ذات أهمية عظمى في المجتمع السوري لرفعهم شعارات الإصلاح الشامل- لاستباحة ربما لم تمرّ مثيلة لها في التاريخ السوري والعربي.
لقد طغى طوفان الخراب والتدمير، بدلاً من الاستجابة لشرف الإصلاح. إذ إن هذا الأخير لا يمثل رذيلة أو ثأراً، بقدر ما هو الآن فضيلة الفضائل، ناهيك عن أنه إذا بقي بلد ما هو سوريا، داشراً معرضاً للاستباحة بكل صيغها، فإن ذلك يجعله “قصراً” يعيش تحت قبضة الحطام، ومن ثم، سيكون الخطر في هذه الحال متجهاً إلى البلد ذاته ومن حيث هو. على هذا، يمكن القول إن إيصال البلد إلى هذا الحد من الحطام، إنما هو طريق لتدخّل أجنبي يجد في أسوار البلد العالية ولكن الهشّة والمُنتهكة، طريقاً لفتح أسواره هذه. وطالما عالج سياسيون ومصلحون وقادة وطنيون هذا الحال من وجهة النظر القائلة بأن ترك الوطن هشاً منهوباً مستضعفاً إنما هو إعطاء الإشارة إلى دخوله. لا يمكن أن تدخل جيوش ولا خبراء ولا غزاة وطناً من الأوطان إذا كان من يحميه غير جدير به، وهذا هو درس التاريخ البشري لمن يسعى إلى أن يمتلك القدرة على تأسيس وطن جدير هو وأهله به.
الاتحاد