صفحات العالم

ليسـت كـل ثـورة مثـل الأخـرى: سوريـا ليسـت اليمـن!


جميل مطر

ما اجتمع مثقفون عرب في الآونة الأخيرة إلا وناقشوا حسابات الربح والخسارة في الثورات العربية، واصدروا عليها أحكام النجاح والفشل وقارنوا بين ظروف نشأتها وتطورات مسيرتها وخواتمها المتوقعة. يسفر النقاش غالبا عن أن الثورة الليبية كانت الثورة التي حققت أفدح خسائر في الأرواح، وكان تعامل السلطة السورية مع الثوار الأشد وحشية، وكانت مسيرة الثورة المصرية الأصعب تعقيدا بين كل المسيرات، وكانت الثورة اليمنية الأكثر غرابة بين كل الثورات. الأنعم بين كل الثورات العربية كانت الثورة التونسية.

توحدت الثورات في شعاراتها وأهدافها، كلها تبحث عن حرية وكرامة وعدالة اجتماعية، وكلها تسعى للخلاص من حكم الاستبداد والانفراد بالرأي وفساد عوائل الحكم وهدر ثروات الشعوب. وتفرقت في طبيعتها وبنيتها. بل كاد الكثيرون يتوصلون إلى قناعة بأن المجتمعات العربية وإن توحدت في اللغة والثقافة فإنها لا تتشابه في معظم الأشياء، وبخاصة في الهويات الثانوية والتقسيمات الاجتماعية والعلاقة بين الإنسان والوطن.

[[[

يدور منذ أيام نقاش حول مدى النجاح الذي حققته الخطة الأميركية التي نفذها مجلس التعاون الخليجي في اليمن. قضت الخطة بتنازل على عبد الله صالح عن منصب رئاسة الجمهورية لنائبه، وبعد فترة، يعتقد واضعوا الخطة أنها ستتسم بهدوء نسبي، فتجرى انتخابات جديدة، وينتخب برلمان جديد ورئيس جديد للبلاد. بعض النقاش الدائر حاليا حول خطة اليمن يهدف إلى بحث امكانية تنفيذ خطة مماثلة في سوريا، يجرى بمقتضاها تقديم ضمانات لبشار الأسد، ومعه ربما نفر قليل من جماعته، بخروج آمن وحصانة قانونية. وبناء على هذه الضمانات يتنازل لنائبه فاروق الشرع الذي يتولى بدوره تشكيل حكومة انتقالية تمثل فيها كافة أطياف السياسة، تمهد لإجراء انتخابات ديموقراطية حرة، برلمانية ثم رئاسية.

تعتمد الخطة، في ما أتصور، على عاملين رئيسيين، أولهما أن كافة الأطراف الخارجية، وكذلك أطراف في سوريا نفسها، توصلت إلى الاقتناع بأن الصراع الناشب بين السلطة والثورة في سوريا وصل إلى «مستوى التوازن» وثبت عنده، بمعنى أن كل تصعيد في العنف من جانب سيقابله تصعيد في العنف من الجانب الآخر. مثال على ذلك، أن كل تدخل من الخارج لصالح الثوار سيقابله تدخل من الخارج لصالح السلطة.. وكل عناد أو تصلب في المواقف من جانب فريق دولي يدعم الثوار سيقابله عناد أو تصلب في مواقف فريق دولي آخر يدعم نظام الأسد، وفى كل الأحوال يستمر الصراع ثابتا عند «مستوى التوازن» الذي وصل إليه..

أما العامل الثاني الذي يمكن أن يكون قد اعتمد عليه واضعو خطة لسوريا، فهو في ما أتصور أيضا، عبارة عن جملة اعتبارات تكاملت في ذهن هؤلاء المخططين من الخارج وهي الاعتبارات التي تشكل الآن ضغطا متزايدا على الدول الغربية ودول عربية للاسراع في التنفيذ. هذه الاعتبارات، بإيجاز شديد هي الآتية:

(1) هناك حدود لصبر الجيران العرب حكاما وثوارا ورعايا، هؤلاء لن يتحملوا تكلفة وتبعات وعواقب عملية «سقوط مطول» لبشار الأسد وجماعته، خاصة بعد أن صار السقوط أمرا منتهيا في نظر أغلب الأطراف.

(2) أكدت تطورات الثورة في ليبيا، كما أكدت قبلها تطورات الحرب الأميركية الأطلسية ضد العراق، تراجع قوة احتمال المجتمعات الغربية للأعباء المعنوية والاستراتيجية الناتجة عن المشاركة بالكثير أو القليل في حروب خارجية. وقد أصبحت من المسلمات استحالة تفويض طرف أو أطراف عربية للقيام بمهمة عسكرية قتالية في دولة عربية أخرى ما بقيت الجامعة العربية بدون جهاز وآليات للتدخل الجماعي.

(3) تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة التوترات الطائفية ليس فقط في سوريا ومحيطها القريب، وهو محيط قابل للتفجر، لكن أيضا في المحيط الأبعد قليلا مثل بعض دول الجزيرة العربية وخاصة في مواقع متاخمة لبحيرات النفط ولقواعد عسكرية غربية.

(4) لم تحسم أي ثورة عربية أمرها بعد. بمعنى آخر ما زالت كافة الثورات، ابتداء من حيث هي كامنة كالجزائر وموريتانيا إلى حيث هي ناشبة، ثم إلى حيث بؤر الغليان في مناطق أخرى. الإقليم بأسره في حال بركانية: غليان تحت الأرض في مواقع، وحمم يقذف بها الغليان بين الحين والآخر في مواقع أخرى، وتربة جديدة وإن مشتعلة في مواقع ثالثة. ولا يوجد أدنى شك في أن استمرار الثورة في سوريا على هذا النحو كفيل بأن يزيد من تعقيد المسيرات الثورية الراهنة وتفاقم الغليان وانفجار براكين جديدة.

[[[

إن ما تسرب من أفكار، منقولة بوسائل اتصال شخصية أو منشور بعض منها في مقالات في صحف غربية، يشير إلى رغبة في تطوير الخطة التي نفذت في اليمن لتتناسب وظروف سوريا، كأن يضاف إليها ما أطلق عليه أحد المحللين في مقال نشر في صحيفة «نيويورك تايمز» تعبير «تنازلات استباقية» من جانب دول الغرب وإسرائيل والثوار في مقابل تنازل الأسد، ولو بعد حين. بمعنى آخر تنفيذ عملية «سقوط منضبط» لنظام الحكم في سوريا.

[[[

سوريا ليست اليمن، ولن يكون الحل في سوريا مقاربا، ولو بعد التطوير، للحل في اليمن، فسوريا يحيط بها غليان بينما لم يكن يحيط باليمن عند وضع خطته إلا قلق وتوقعات بأخطار وتهديدات لا أكثر. ولسوريا أهمية استراتيجية ودولية فرضتها ظروف فريدة في الجغرافيا وظروف استثنائية في التاريخ، وقد دفع اليمن في زمن سابق ثمنا باهظا عندما كانت له أهمية مماثلة بسبب الموقع والتاريخ، وقد تعود له الأهمية مستقبلا. من ناحية أخرى، لا توجد في جوار اليمن لبنان أو العراق أو إسرائيل أو تركيا منفردة أو مجتمعة كما هو الحال في الجوار السوري.

وأخيرا، لا يمكننا إنكار أو تجاهل أن سوريا ربما كانت الآن الساحة الوحيدة التي يمكن لروسيا أن تدير عليها أو منها آخر معاركها مع الغرب. هذه الساحة لن تفرط روسيا فيها إلا في مقابل ثمن باهظ لا يبدو أن الغرب جاهز لدفعه الآن.

ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى