ليس بالثقافة وحدها يحيا الإنسان/ فواز طرابلسي
عندما نسمع كلمة ثقافة يتبادر إلى الذهن: قيم، رموز، تقاليد وعادات، انتماء وأدب وفن وإبداع. ويمكن إجمال الثقافة بتعريف يقول إنها “منظومة قيم وعادات ومعتقدات وممارسات يتشكل منها نمط حياة جماعة معينة من البشر”. للمزيد من التدقيق يضع المفكر الماركسي البريطاني ريموند وليامز الثقافة في إطارها من المجتمع والسلطات فيه، فيقول إن الثقافة “نظام دلالات يتم من خلاله تعميم نظام اجتماعي معيّن وإعادة إنتاجه واختباره واستكشافه”. ويترافق وضع الثقافة في النصاب المجتمعي مع وضعها في التاريخ. فيرى تيري إيغلتون إلى الثقافة على أنها “مجموعة طاقات تتولد عن التاريخ، ولكنها تعمل داخله على نحو مشاغِب وتخريبي أحياناً”.
وهذا ما يعيّن اثنتين من مفارقات الثقافة. المفارقة الأولى هي المفارقة بين الخاص والعام. والمفارقة الثانية هي تلك بين وجه للثقافة يكاد أن يكون قَدَرياً ووجه إرادي، بل إرادويّ. هكذا تبدو الثقافة التزاما طقوسياً بسلوكيات معينة -هي سلوكيات لا تحتاج إلى التفكير فيها، نؤديها كأنما بالسليقة، وهي في الوقت ذاته إنتاج لأروع إبداعات الوعي الإنساني.
لا بد من لفت الانتباه أولا، إلى التوسع الاستثنائي الذي تشهده الثقافة في كافة نواحي الحياة المجتمعية. من القيمة الاقتصادية إلى النفس البشرية مروراً بالسلطة السياسية، باتت ثقافية السردية الشمولية الوحيدة لبعد الحداثة – التي تدّعي رفضها السرديات الشمولية – فيما يزداد تسليع الثقافة واستخدامها المتزايد لترويج السلع (بواسطة الإعلان مثلا).
ولعل من أبرز آثار العولمة الاختلال الكبير الذي أحدثته في أدوار الدولة القومية، بما في ذلك أدوارها الثقافية. سابقا، كانت الدولة الوطنية/القومية هي صلة الوصل بين الثقافة الوطنية/القومية والثقافة الكونية-الإنسانية. أما الآن، فنحن شهود على تصدّع هذا الدور بفعل نزعة كوزموبوليتية تتجاوز الحدود الوطنية/القومية على غرار تجاوز تلك الحدود من قبل الفقاعة المالية والشركات متعديّة الجنسيات. وفي حين كانت النزعة الكونية تنحو منحى التوحيد، تنحو النزعة الكوزموبوليتية منحى التهجين والتفتيت.
ومهما يكن من أمر، تتعايش النزعة الكوزموبوليتية على نحو كبير مع نمو وانتشار الثقافات دون القومية من إثنية وجهوية ودينية ومذهبية وقبلية ولغوية وما شابه. بل إننا نستطيع القول إنه بقدر ما يزداد عالمنا توحدا إلكترونيا وإعلاميا، يزداد في الوقت ذاته تشتتا وتذررا إلى جماعات ما دون قومية.
ولعل الأهم من ذلك كله أن النزاعات الكونية التي حملتها الدولة القومية، لم تكن متساوية بين الدول كافة. فقد هيمن الغرب على الكونية بثقافته وهويته، جامعا المجد من طرفيه: فإذا ثقافته المميزة التي تعبّر عن نمط حياته المخصوص هي نفسها نواة الهوية والثقافة الكونيتين.
وليس الاختلاط بين الثقافة والهوية بالاعتباطي هنا. إنه التعبير عن تحوّل الثقافة إلى هوية مخصوصة عند طرفي عملية التمايز، بدلا من أن تكون تجاوزا للهويات.
ومن أبرز مظاهر هذا الاختلاط انزلاق الثقافة لتصير هوية، فتدخل في الصراع على السلطة وتختلط بالاقتصاد والتنمية.
ليس بالثقافة وحدها يحيا الإنسان. ولكن لا بد من أن نضيف: أحيانا تصير الثقافات هويات للقتل. تحرّض عليه وتستفزّ وتعبئ.
العربي الجديد