ليس مأزق «الإخوان المسلمين» وحدهم/ ماجد كيالي
يبدو أن «الربيع العربي» بات وبالاً على جماعة «الإخوان المسلمين»، الأقدم والأهم في التيار الإسلامي، إذ تمت تنحيتهم وحظرهم في مصر، وعدد من الدول الخليجية، كما حُجِّم نفوذهم في تونس، وشُدِّد الحصار عليهم في غزة. أما في سورية فهم من الأصل على الهامش، بسبب صعود التيارات الإسلامية الجهادية المتشددة المنافسة.
ثمة عوامل سهّلت كل ذلك، ضمنها الاضطرابات في البلدان المعنية، وضعف التجربة السياسية فيها، وضحالة القوى الحزبية، وغياب قيمة الحريات الفردية، وافتقاد الديموقراطية في الفكر السياسي العربي للحمولات الليبرالية، بسبب اختزالها بالانتخابات، وابتذالها بفكرة غلبة الأكثريات على الأقليات، وهو ما ينطبق على التيارات الدينية والمدنية أو الإسلامية والعلمانية بتنويعاتها كافة.
مع ذلك يجدر الانتباه إلى أن جماعات «الإخوان» تتحمّل مسؤولية أساسية عما حصل باعتبارها التيار الحزبي الأقدم والأعرض والأكثر تجربة والأكبر في الإمكانات، في العالم العربي. والمشكلة ان هذه الجماعات لم تخرج من إطار المصالح الحزبية الضيقة إلى الإطار الوطني العام، وأظهرت تصلُّباً إيديولوجياً، ما لا يفيد في إدارة الدولة أو المجتمع.
لكن المشكلة الأهم التي واجهت جماعة «الإخوان»، كتيار سياسي، أنها لم تميّز نفسها عن التيار الجهادي المتطرف والعدمي الذي يعتمد القوّة لفرض رأيه على المجتمع، ما يحمّلها مسؤولية عن ذلك: أولاً، لأنها كجماعة اسلامية معنية بدحض الأطروحات النظرية للجماعات الجهادية، وكشفها وعزلها في المجتمع. وثانياً، لأن «الإخوان» هم المعنيون بالتمايز عن هذه الجماعات إزاء البيئات الشعبية، وهو ما لم يحصل ربما بسبب نوع من «تقية»، أو «براغماتية»، اعتمدوها، ما أضرّ بهم في مصر وتونس وسورية، وأثار المخاوف منهم في مجتمعاتهم، وضمنها البيئات «السنّية».
هذا السلوك روّج انطباعاً مضللاً مفاده أن التيارات الإسلامية، معتدلة او متطرفة، سلفية او صوفية، دعوية او جهادية، سلمية أو مسلحة، كلها من نسيج واحد، وأنها تنهل من الإطار الفكري ذاته، وأن الفارق نسبي، يرجع إلى ما يسمى «التمكين». وتعزّز هذا الانطباع مع غياب المراجعات النقدية المطلوبة في التيارات الإسلامية في شأن فكرة «الحاكمية»، و «الخلافة» و «تطبيق الحدود»، (راجع مادتي اختبارات التيارات الاسلامية 26/1/2014) على غرار المراجعات التي كانت قبل عقود مع كتب مثل: «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق، و «دعاة لا قضاة» للمرشد السابق للإخوان في مصر حسن الهضيبي، و «الاشتراكية في الإسلام» للشيخ مصطفى السباعي مؤسس جماعة «الإخوان» السوريين، وغيرها من المراجعات التي كيّفت أفكار الاسلاميين مع الواقع والعصر والعالم. والمشكلة ان ذلك يحصل مع غياب مفكرين اسلاميين معتدلين مثل عصام العطار وجودت سعيد وأحمد الصياصنة ومحمد شحرور، عن المشهد، لمصلحة شخصيات غامضة ومتشددة غير مشهود لها بالثقافة الإسلامية مثل ابو بكر البغدادي وابو محمد الجولاني أو زهران علوش وحسان عبود.
في المحصِّلة، «الإخوان» في مصر، وفي نشوة صعودهم، وبدلاً من استثمار الثورة لتعزيز ثقافة الديموقراطية والحريات والمواطنة، فضلوا تعزيز مكانتهم كحزب، اي انهم تبنّوا خيارات غير ناضجة ومتسرعة أدت إلى إثارة المخاوف منهم، وتحريك قطاعات واسعة من المجتمع ضدهم، ما سهّل على قوى النظام القديم، والقوى المعادية للديموقراطية اصطيادهم وإزاحتهم.
في سورية، الحظ لم يحالف «الإخوان» للظهور بما يتناسب مع تجربتهم وتاريخهم، بسبب صعود التيار الجهادي، واعتماد «الإخوان» على الدول التي تدعم هذا التيار، وربما بسبب اعتقاد خاطئ مفاده أن وجود هذا التيار قد يدعم مكانتهم في شكل أو آخر. وكان مدهشاً «تخلّي» «الإخوان» السوريين عن وثيقة «العهد والميثاق» التي صدرت عنهم (آذار- مارس 2012)، والمتضمنة تعهداً بإقامة دولة مدنية ديموقراطية في سورية تتأسس على القانون وضمان حرية المواطنين وتداول السلطة. كان من شأن تعميم ثقافة كهذه تعزيز مكانة «الإخوان» بين الأحزاب والمجتمع، وكسب المعركة مع النظام على الصورة او على الرأي العام، وصيانة مسار الثورة، باعتبارها ثورة من أجل الحرية والكرامة لجميع السوريين.
ولعل ما يلفت الانتباه أيضاً أن الثورات أثرت في شكل متناقض على بعضها، ففي حين كانت التأثيرات إيجابية في البدايات، باتت في المرحلة الأخيرة سلبية. هكذا أثَّر صعود التيار الإسلامي الجهادي في سورية سلباً على صورة «الإخوان» المسلمين وحركة «النهضة» في الحكم، في كل من مصر وتونس. وبديهي أن نموذج «حماس» في غزة لم يكن مريحاً، إذ تزايدت في هذه الفترة الصور عن انتهاكات للحريات الشخصية في القطاع، والميل إلى فرض سلوكيات معينة على الناس، فوق ما يعانونه من ضيق بسبب الحصار الإسرائيلي.
على أية حال، من المبكر الجزم بمآلات التحولات الحاصلة، إذ ان الثورات التي كسرت الانسداد في التاريخ السياسي العربي، ما زالت تتفاعل، سلباً وإيجاباً. وهذا ما تؤكده وقائع التجربة التونسية، التي قدمت نموذجاً لحزب اسلامي يؤمن بالانفتاح والتعددية والديموقراطية والحريات. فمع السياسات التي تنتهجها حركة «النهضة» في تونس، بات بالإمكان الحديث عن نموذج آخر متميز للتيار الإسلامي، أي أن الأمر لم يعد يقتصر على الحديث عن التيار الإسلامي التركي او الماليزي او الاندونيسي.
المفارقة أن النجاح الذي حقّقه «حزب العدالة والتنمية» في تركيا قبل أيام، في الانتخابات البلدية، بدا للمنضوين في جماعات «الإخوان» كأنه بمثابة تعويض لهم عن انحسار نفوذهم في بلدانهم، وكأنه بمثابة انتصار لهم، في زمن جرى فيه التشكيك بصدقية انتماء الحزب المذكور إلى التيار الاسلامي، لتبنّيه فهماً مغايراً للإسلام وللسلطة. وكان «إخوان» مصر عبّروا عن استيائهم من التصريحات التي أدلى بها اردوغان في القاهرة (أواخر 2011) في شأن المصالحة بين الإسلام والعلمانية، ورفضهم للنصائح التي قدمها لهم في شأن الاهتمام بقضايا الناس والاقتصاد والخدمات من أجل تعزيز شعبيتهم.
ويبدو من ذلك ان مشكلتنا تكمن في اننا نعرف كيف نحتفل ونطلق الشعارات، في حين لا نجيد الدراسة ولا التقويم ولا النقد، وهذا من أسباب تعثُّر تياراتنا السياسية الدينية أو المدنية، الإسلامية أو العلمانية. وهذا ليس مأزق «الإخوان المسلمين» وحدهم.
الحياة