صفحات الثقافة

ليكن قصفاً… فقط!


مريم الساعدي

فجأةً، سقطت مجموعة من أطفال أسوج معاً في مكان عام. كُتبت على شريط الفيديو الذي تناقلته المواقع الالكترونية عبارة “أطفال أسوج يُسقطون أنفسهم ليلفتوا أنظار العالم إلى أطفال سوريا”. كنت قد ابتعدت عن متابعة سوريا منذ زمن. منذ سقوط الطفل الأول. أردتُ أن أشرب الماء من دون أن أصاب بعسر هضم. أردتُ أن أنام من دون كوابيس أرى فيها ناساً يأكلون ناساً ويمثلون بجثثهم. أردتُ أن أكون إنسانة طبيعية، إنسانة عادية، تستيقظ صباحاً، تتأمل نور الشمس، تتلذذ بقهوتها الصباحية، تذهب إلى عملها، تجتمع مع الأصحاب الى طاولة الغداء، تتبادل معهم آخر النكات، على أن يكون أقصى ما يُتذمَّر منه: شمس حارقة، زحمة سير، وأغراض لا تجيد ترتيبها. أطفال أسوج لم يسمحوا لي بذلك. مشوا جماعات وسقطوا في مكان عام فجأةً، على شكل جثث. قالوا إنهم يفعلون ذلك لأجل أطفال الحولة في سوريا. ماذا حصل لأطفال الحولة؟ وأين هي هذه الحوله؟ أكاد أجزم أن كثراً من السوريين أنفسهم لم يسمعوا بها من قبل، فكيف وصلت أخبارها إلى أقصى الأرض، الى أرض البرد والليل الطويل؟ فتحتُ نشرات الأخبار. رأيتُ لقطة سريعة، فأغمضتُ عينيَّ. كانت اللقطة كافية، لأن يقع قلبي تحت الأرض، حيث لا أزال أبحث عنه الى الآن. قالوا: كانوا مكبلين، وأجهزوا عليهم أفراداً. سقطتْ أذني، ولم أعد أسمع شيئاً. وحين طال ذهولي خشيت أن أتحول تمثال شمع. قلت أشرب فنجان قهوة. حين أعددتُ القهوة ووضعتها أمامي، لم أجد يدي لتحملها، يدي لم تعد لي. ذهبت يدي لتمسك بالريموت كونترول وتتجول بين القنوات الإخبارية مجدداً. أريد خبراً أكيداً. أن القتل لم يكن فردياً، ولم يكن تكبيلاً، وأنه كان فقط قصفاً! جلس ديبلوماسيّ بهدوء. كان يرتدي بدلة مرتبة. وجد ما يكفي من الثبات ليضع ربطة عنق. قال برصانة “كان قصفاً”. فاسترخيتُ.

كان فقط قصفاً. لم يروا وجوه قاتليهم، لم يروا السكين. كانوا نياماً. أقنعتُ نفسي بأنهم كانوا نياماً. قلت مراراً بصوت مسموع: “كانوا نياماً. وفقط لم يستيقظوا. هذا ما حصل بالضبط. مجرد نوم طويل لم يستيقظوا منه”. أقنعتُ نفسي بأن هذا ما حصل بالضبط، لكي أنام، ولكي لا تشتغل الخيالات في مخّي. مخّي الذي أمقته، يتفنن في التخيل. أُسمّيه هيتشكوك. لو كان مخّي شخصاً لصار مخرجاً سينمائياًً لأفلام رعب. لكن مخّي يقبع في رأسي مثل خادمة عجوز تمضي الوقت في قص حكايات مقززة لتلفت الانتباه.

كنت لأقبَل باطن قدم العالم لكي يتدخل فينقذ أطفال سوريا. ثم تذكرتُ أطفال فلسطين، والعراق، ولبنان، و…الخ. ثم تمالكتُ قبلاتي وقررت الاحتفاظ بها لكائن فضائي يهبط يوماً في طبق طائر، ويستحقها.

كل ما أتمناه الآن فقط، أن يكون العالم رحيماً بما يكفي، ويقظ الضمير بما يكفي، ليناشد القاتل أن يقصف فقط. وإذا اضطر فليسنّ خنجره، فالأنبياء يوصون باستخدام أداة حادة ليريح القصاب ذبيحته. الأنبياء كانوا يتحدثون عن الحيوان، لكن إن استحقت عنزة الرحمة أفلا يستحقها طفل؟!

الامارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى