صفحات المستقبل

ليلة إنضمامي إلى الجيش الحر


لا أنسى برودة تلك الليلة عندما كنت أقف على الحاجز أغالب النعاس وأحاول أن أتخذ القرار الذي فكرت فيه لأشهر. عشرة أشهر مرت على ما أنا فيه ومناظر الدماء وأصوات صراخ الأبرياء أصبحت أمراً يومياً اعتدناه وألفناه. ربما هي مئات الأمتار تفصل بين مكان وقوفي وبين مكان تواجد رفاقي في الجيش..من أصبحوا الآن في الجيش السوري الحر.

كنت أفكر أن أتبعهم منذ أسابيع ولكني إنتظرت حتى أذهب في إجازة كي أرى أبي وأمي فمن يعرف هل سأراهم بعد أن أخطو تلك الخطوات بإتجاه صحبي. أبي منذ أول زيارة لي بعد الثورة بثلاثة أشهر أخبرني صراحة أنه سيتبرأ مني إن استخدمت سلاحي ضد أبناء شعبي العزل وأمي كانت في كل مرة أزورهم تستحلفني أن لا أفكر بالإنشقاق لأنها لا تريد أن تحرم مني، كانت تقولها في كل مرة ولكن الغريب أنها في المرة الأخيرة لم تذكر ذلك واكتفت بضمي بشدة أكثر من كل مرة، منذ تلك اللحظة وأنا أفكر لماذا لم تستحلفني كالعادة؟ هل هي موافقة ضمنية منها؟ …يخرجني من تفكيري صوت عسكري في الخلف يتوعد ويشتم من سماهم الحشرات ممن يتبعون العرعور وأمريكا وإسرائيل. أصبحت أقرفهم ولا أستطيع النظر إليهم، لا أدري لماذا يحاول أن ينظر إلي كلما شتم المتظاهرين، هل يحس بما يجري في داخلي؟

لم ننم منذ 5 أيام وبالأخص أنا لأني كلما أويت إلى النوم أفكر في المكان الذي أقف فيه، إلى متى سأظل واقفاً هنا؟ أخشى ما أخشاه أن تأتيني طلقة في أحد الإقتحامات من المدافعين وترديني قتيلاً، لا أريد الموت في هذه الجهة، مكاني في الجهة المقابلة مع أبطال الجيش الحر، استطعت حتى اليوم أن أنأى بسلاحي عن أن يصيب أي شخص، كنت أطلق النار في الهواء وأتظاهر بالتصويب ولكني أخاف أن يراني أحدهم، لم أعد أريد دفع الموت، أريده بشدة ولكن ليس هنا، ليس على هذه الجبهة، أريده هناك مع صديقي الذي أفلح بالهروب والإنشقاق، ليتني ذهبت معهم يومها ولكني أردت أن أرى أهلي قبل أن أقوم بتلك الخطوة، ذهبوا ثلاثتهم وبعد دقائق عاد اثنان منهم بعد أن وقعوا في كمين على بعد أمتار من القطعة، أحدهم عاد جثة هامدة تكسرت تحت ركلاتهم وقفزاتهم والآخر عاد حياً مكبلاً، أخبرونا أنه سيتمنى لو قتل مع زميله. سأهرب الليلة وليكن ما يكون، ولكن أين سأذهب؟ وأين سأختبئ؟ وإلى متى؟ هل ستتنهي الثورة قريباً أم أنني سأبقى مطارداً لأشهر طويلة؟ هل سأرى أهلي مجدداً؟ هل سأصل إلى وجهتي أم أنهم سيمسكون بي في الطريق؟ وإذا وقفت في الوصول إلى الجيش الحر فأين سنختبئ؟ هل آخذ سلاحي معي أم أتركه خلفي؟ على من سأستخدمه ومتى؟ مئات الأسئلة اندفعت إلى رأسي، هي ذات الأسئلة التي كنت أحاول إيجاد الإجابة لها على مدار الأسابيع الماضية ولكن عبثاً أحاول. ما أعرفه هو أن علي الإنشقاق الآن، هو قدري أن وقفت هذه الوقفة ويجب أن أفعل شيئاً حيال ذلك، الكل يدعو إلى الإنشقاق والكل يحيي الجيش الحر وليس بإمكاني الوقوف في صف المجرمين بعد اليوم حتى لو كنت أتظاهر بإطلاق النار فقط. أرتعش من شدة البرد لأعود وأتذكر صعوبة الطريق الذي سأمضي به.

هي حالة يعيشها كل جندي شريف شاءت له الأقدار أن يكون في الجيش أثناء قيام الثورة، هو صراع يدور في رأس كل منهم قبل أن يأخذ قراره في الإنشقاق ولا ننسى أن منشق اليوم هو عسكري الأمس ومن يقف مع الجيش الحر كان قبل ساعات أو أيام يعيش هذا الصراع. الإنشقاق ليس نهاية الرحلة ولكنه بدايتها فما يتبعه أصعب وما يترتب عليه أخطر. البعض يوفق أن يتخذ ذلك القرار وكثيرون ينتظرون اللحظة المناسبة لاتخاذه، البعض يستطيع الوصول إلى صفوف الجيش الحر وكثيرون يبقون مطاردين مختبئين عن بعض الأهالي وفي بعض المزارع، البعض يستطيع أن يأخذ معه بعض الطلقات والكثير يفرون دون أن يأخذوا حتى ثيابهم. هي حالة إنسانية تدفعهم إلى نبذ ما هم فيه قبل التفكير بأي خطوة مستقبلية وأول منشق كان جندي يقف قبالة المتظاهرين في دوما قبل أن يجد نفسه لا شعورياً يلقي سلاحه ويركض باتجاههم ليقوموا هم لا شعورياً أيضاً بالركض تجاهه وتهريبه وإيوائه.

مبالغتنا في مقدرات الجيش الحر لا تفيدنا ولا تفيدهم فالنعيمي في لقائه مع الحياة وقائد كتية الرستن في لقائه مع رزان زيتونة وخالد أبو صلاح أحد أكثر الناشطين حراكاً في حمص وأحد داعمي الجيش الحر أثناء مداخلته الأخيرة على الجزيرة بخصوص مجزرة الخالدية كانوا واضحين بأن مقدرات الجيش الحر ضئيلة في الوقت الحالي ولا تعدو عن كونها أسلحة خفيفة لا تستطيع إيقاف آلة النظام القمعية حسب تصريحاتهم.

تهليلنا صباح مساء للجيش الحر لا يزيده قوة بل على العكس قد يشكل ضغط نفسي عليه ويدفعه إلى ارتكاب أفعال غير مدروسة ومخطط لها. قيادات الجيش الحر بحد ذاتها ترفض فكرة تسليح المدنيين وتعترف أن إسقاط النظام لا يتم إلا باستمرار المظاهرات السلمية ويقولون أن هدفهم هو حماية هذه المظاهرات فقط.

هذا الجندي المنشق يحتاج حمايتنا كما نحتاج حمايته، يحتاج من يفتح له بيته ويؤيه ومن يجلب له حاجياته ويستطلع له الأخبار ويوصله مع الناشطين.

لم أر في سوريا شخصاً ممن يدعمون الثورة يكره الجنود المنشقين بل على العكس الجميع يعترف ببطولاتهم وشجاعتهم والجميع يدعو جنود الجيش وضباطه للإنشقاق ولكن بعضنا يرى أنهم هم من سيسقطون النظام والبعض الآخر يرى أن استمرار المظاهرات فقط هو من سيسقط النظام. معارضة البعض لعمليات الجيش الحر لا تعني تخوينهم ولا تستدعي مهاجمتهم لأنهم إنما يعارضونها من مبدأ خوفهم على عناصر هذا الجيش الذي سيكون نواة لجيشنا الوطني بعد سقوط النظام.

هؤلاء هم الصفوة من جيشنا وهم الأكثر وطنية وشجاعة وسنحتاجهم بعد سقوط النظام فدعونا لا نضحي بهم ونجعلهم يدفعون فاتورة صمتنا.

البعض يريد أن يدعم الجيش الحر من وراء شاشات الكمبيوتر وكأنه يجد لنفسه عذراً عن عدم المشاركة بالحراك ويوهم نفسه أن دعمه للجيش الحر معنوياً يعفيه أن يشارك في دفع ثمن الحرية ويريد أن يدفعها عنه أبناء الجيش الحر بدمائهم وهم ما أحبوا الجيش الحر إلا ليستخدموه شماعة يعلقوا عليها تخاذلهم.

البعض أيضاً تحول موقفهم من الجيش الحر إلى موقف عدائي لأنه يؤرق عليه صفو حياته ولأنه ينزعج من أصوات رصاصهم في الهواء متناسياً أن رصاصاتهم القليلة يختفي صداها مع صوت مدافع الجيش النظامي وهو يدعو أن تبقى الثورة سلمية ويعتقد أن السلمية تعني جلوسه متفرجاً دون المشاركة بأي نوع من أنواع الحراك وما السلمية بالنسبة إليه إلا شماعة يعلق عليها تخاذله.

لا أستطيع أن أستوعب من يجلس في بيته دون أن يشارك في أي مظاهرة وربما باسم وهمي على شبكات التواصل أن يدعو الجيش الحر أن يسقط النظام..هل يظن أن الجيش الحر يقوم بنزهة في سوريا وأنه يتجول كيفما شاء؟ وهل يظن أن لديه عائلة وعمل بينما أفراد الجيش الحر مقطوعين من شجرة مثلاً؟

لا أفهم التعارض بين سلمية الثورة وبين الجيش الحر، الجيش الحر قام ليحمي سلمية الثورة فدعونا نركز على ما نستطيع فعله كمدنيين. الجيش الحر لن يقبل في صفوفه أي مدني ومن يحمل السلاح هم ممن خبروه سابقاً ولا تتصور كمدني تسكن في دمشق أو حلب أن هناك من سيعطيك السلاح والذخيرة ويدربك على استخدامها فهذا لن يحدث أبداً لذلك التفت إلى ما تستطيع فعله ولا تدع موضوع دعم الجيش الحر يشوش على مسارك. عندما أرى جندياً هارباً فسأكون أول من يؤويه ويهتف له “الله محيي الجيش الحر” ولكن حتى ذلك الوقت سأركز على ما أستطيع فعله كمدني حسب طاقاتي ومكان إقامتي.

بعضنا سيتظاهر وبعضنا سيرمي المسامير أمام باص الشبيحة وبعضنا سيشعل إطاراً والبعض قد يمتلك الشجاعة أن يصنع زجاجة مولوتوف ويلقيها على باص الشبيحة أثناء قدومه لقمع المظاهرة وكل ذلك يتماشى مع سلمية الثورة الثي أحببناها جميعاً. البعض الآخر سيصور ويوثق ويصمم ويكتب ويمثل. واحد فقط بين كل 200 مواطن في سوريا هو عسكري ولذلك واحد فقط بين كل 200 عامل للثورة سينشق ولا يعقل أن يتوقف ال199 شخص الآخرين عن فعل أي شيء في انتظار إنشقاقه. لا يمكن أن يكون دورنا في الثورة مجرد هاتفين “الله محيي الجيش الحر” لأنه حينها لن يكون هناك جيش حر، وتذكروا أن أصواتنا هي أمضى سلاح وهي السلاح الوحيد الذي لا يستطيع النظام إخماده مهما قام بمداهمات وحملات ومع الجيش الحر أو بدونه ثورتنا كمدنيين ستبقى سلمية.

ملاحظة: الفقرة الأولى هي تخيلية فأنا لم أذهب إلى الجيش يوماً ولكنها تحمل تفاصيل سمعتها من بعض من ذهب إلى الجيش وعاش التجربة.

ليلة إنضمامي إلى الجيش الحر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى