ليمون اليهود
أندلس الشيخ
الطريق إلى المدرسة لا يمكنه أن يمّحي بسهولة من ذاكراتنا، مهما تقدمنا في العمر، ومهما تراكمت تجاربنا، وتعددت. فعلى هذا الطريق كانت خطواتنا الأولى تقودنا خارج بيت الأهل لاكتشاف المكان الذي نعيش فيه، وللتعرف إلى الطبيعة المحيطة بنا، وإلى وجوه الناس، أبناء جلدتنا.
شيئان لا يزالان محفورين في مخيلتي من أيام تلك الرحلة اليومية ما بين البيت والمدرسة: شجر الكَبّاد الذي يزيّن البيوت الدمشقية التي كنت أمرّ في جوارها، و”كُولبة” العميد ش. ف.، أحد أهم أركان النظام السوري في عهد حافظ الأسد. لمن لا يعرف “الكَبّاد” فهو من الحمضيات الدائمة الخضرة، ثماره تشبه إلى حدّ بعيد حبّات الليمون، إلا أنها أكبر حجماً وذات قشرة سميكة ومجعدة. أما كلمة “كُولَبة” فهي مسمّى يدل إلى بيت صغير مسبق الصنع، له شكل كوخ، كان يضعه عادةً ضباط الجيش السوري أمام منازلهم كمأوى للمجندين الذين يتولون حراستهم على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم.
تعوّدتُ على رؤية شجر الكَبّاد، أو “ليمون اليهود” كما يسميه البعض، وأنا تلميذ يرتدي “الصدرية” و”الفولار” الخاصين بـ”طلائع البعث”. كما تعوّدتُ أيضاً على رؤية عناصر الجيش وهي تروح وتجيء في “كُولَبة” العميد ساهرةً على أمنه الشخصي وأمن باقي أفراد أسرته. كنت، في بعض الأحيان، أمدّ يدي عبر السياج لسرقة بعض ثمار الكَبّاد مستغلاً انشغال الجيران في إعداد طعام الغداء. وكنت من على الرصيف المقابل، استرق النظر لرؤية ما في داخل “كُولَبة الجنرال”، الذي لم يتسنَ لي أن ألمحه في يوم من الأيام. إبريق شاي، غاز صغير، سرير حديد، “بطانيات جيش” و”روسيّات” لا أدري إلى اليوم ما إن كانت مخازنها معبّأة أم فارغة. هذا ما كنت أبصره في هذه الثكنة العسكرية الصغيرة التي كانت تقع على بضع مئات الأمتار من باب بيتنـا. ولكي لا أغفل هنا عن ذكر شيء، كنت ألمح فيها أيضاً أوراقاً مبعثرة لجريدتي “الثورة” و”البعث”، التي كان يستعملها الجنود كخِرق لمسح لوازم “المتة”، مشروبهم الأنيس في مناوباتهم الليلية.
مع يفاعتي، أصبحت أمرّ بطرق وشوارع جديدة غير تلك التي كنت أسلكهـا للوصول إلى مدرستي الإبتدائية. في كل شارع، كنت أجد على الدوام أثراً لشجرتي المقدسة. وفي كل شارع، كنت أعثر كذلك على شقيقات لـ”كُولَبة الجنرال” التي كانت تضفي على أحياء دمشق رهبة تجبرني وتجبر غيري من المارة على المشي على رؤوس الأصابع. في “العدوي”، “التجارة”، “القصور”، “الخطيب”، “شارع بغداد”، وفي غيرها من الأماكن، كنت أرى توائم “حقيقية” لـ”كولبة” العميد الملاصقة لساحة العباسيين، حيث أحلم ويحلم معي اليوم ملايين الأحرار بالوصول إليها من أجل الصراخ، انتقاماً لصمت السنين الماضية.
بالطبع، لم أكن لأفهم وأنا صغير، رمزية شجرة “ليمون اليهود”، ولا رمزية “كُولبـة الجنرال” اللتين كانت تغص بهما شوارع المدينة التي كبرت فيها. إلا أني كنت أشعر، آنذاك، بالله يخشخش في قفصي الصدري كلما رأيت حبة كبّاد أو زهرة من أزهاره البيضاء، وبالهلع والرعب كلما لمحت عساكر العميد أو مرافقيه أو إحدى سياراته الغامقة.
في العشرين بدأت أتحسس رأسي، فأصبحت ألحظ أن الخوف هو الخبز اليومي الذي تأكله مدينتي، وأن أمي، مثلها مثل جيران الحي، تمدح حافظ الأسد في العلن وتلعنه في السر. ثم تبيّن لي بعد وقوعي على “مدن الملح”، أن “كُولبـة الجنرال” ليست إلا صرحاً من صروح “مملكـة الحركة التصحيحية” التي أرسى عمادها “القائد المُفدى”، ومَعلَماً من معالم نظامه الأمني القابض على “خوانيق” سوريا منذ ما يزيد على الأربعين عاماً. لم يمض الكثير من الوقت في ما بعد، لأفهم أنه في مجزرتي حماة وجسر الشغور، وفي سجني تدمر والمزة، وفي فرعي المخابرات الجوية وفلسطين، وفي الوحدات الخاصة والحرس الجمهوري، استطاع “بطل التشرينين”، “تأديب” الشعب السوري الذي كان له “فم يأكل وليس له فم يحكي”، كما نقول في الدارج.
إلى عهدٍ قريب، كنت أظن أني سأحمل معي إلى القبر تلك الصورة المتناقضة التي تشكلت في مخيلتي الطفولية عن دمشق: ورق النارنج في الـ”رز بحليب” وبدلة الفتوة واجتماعات الحزب، “عرائس” الصعتر وأحذية العسكر، شجر الكَبّاد و”كُولبة الجنرال”. إلى البارحة أيضاً، كنت أحسب أن وطن زكريا تامر ونزار قباني وممدوح عدوان وسميح شقير أصبح “مكَرسح” التعبير، لا حسّ له ولا صوت. ثم فاجأ البوعزيزي العشب والنجوم في صعوده إلى السماء، ليخبرني بعدها أخي عبر الهاتف بأن غياث مطر وأحمد عطايا وحسام المطيري وباسل شحادة وباقي رفاقي في الحي، قد شقّوا عصا الطاعة للحاكم الظالم، وبأن “ملك الغابة” لم يعد “ملك الغـابة”.
اليوم، نحن في تموز، في “عِز دين” الثورة. اليوم، لا أحد يشبه السوريين في تشييع شهدائهم. ولا أي شعب على وجه الأرض. اليوم، أصبح لهم فرادتهم في تدبر أمر المستحيل. اليوم، لم يعد لعناصر “كُولَبة الجنرال” المتسع من الوقت لحراسة “سيدهم”، فهم منهمكون في قمع الثوار والمتظاهرين هنا وهناك، وربما منهم من انشقّ وعاد إلى الناس ليحتفي به الناس. اليوم، وحده، كبّاد الشام يدلّني إلى الشام.
النهار