مأزق معسكر سياسي/ عزمي بشارة
-1-
مأزق معسكر سياسي: تجاوز المصطلح
يرى كاتب هذا المقال أن مسارات تطور تيارات الإسلام السياسي المختلفة مرت، أخيراً، بمحطتين رئيسيتين، تشكل كل منهما مأزقاً، وقد يتحوّل إلى مفترق طرق. وهما فشل تجربة الإخوان المسلمين بعد الثورة في مصر، وصعود تنظيم الدولة في العراق وسورية. أما قرار حزب النهضة التونسي، أخيراً، فليس من علامات المأزق، بقدر ما هو بداية تلمّس الطريق للخروج منه.
يعترض عديد من الباحثين بحق على مصطلح “الإسلام السياسي”، ويشاركهم الاعتراض بعض الفاعلين في الحركات الإسلامية المعاصرة. ويمكننا أن نجمل حجج الاعتراض بما يلي:
- الدين اجتماعي بطبيعته، وكل دين مهتم بالشأن العام، لكن الإسلام غير منفصل عن السياسة منذ انطلاق الدعوة. فلا يوجد إسلام غير سياسي.
- إذا كان المقصود بالمصطلح تداخل الدين والسياسة، واستخدام الدين في السياسة، ففي هذه الحالة، لا يجوز قصر مصطلح الإسلام السياسي على الحركات الإسلامية، بل يجب أن يشمل أنظمةً حاكمةً تستخدم الدين أيديولوجيةً تبريريةً للنظام، فهي تنص على الإسلام دين الدولة في الدساتير، وتستمد منه في تشريعاتها ما يروق لها، وبموجب تسييرها، وفي الوقت نفسه، تشن الحرب على الحركات الإسلامية.
“الدين مجال المقدس، أما السياسة فوظيفتها إدارة شؤون البشر في مجتمعٍ منظم، وإدارة مؤسسات في الدولة”
يؤكد الاعتراض الأول، في الواقع، على تواشج الدين والسياسة في مرحلة ما قبل العلمنة، مثلما تداخل في القبيلة تدبير شؤون الجماعة والوظائف الأخرى بالبنية الاجتماعية. وفي حينه، كانت الدولة تسميةً لسلطة سلالات حاكمة (تسمى الدولة باسمها غالباً، وتدُول معها حين تزول)، وكيانات اجتماعية تتشابك في نسيجها الوظائف. ولكن، مع نشوء المجال السياسي في الحداثة، كدولة وجهاز بيروقراطي وأجهزة أمن، وحتى كمهنة، وانحسار وظائف الدين المعرفية والاجتماعية والسياسية، نشأت التيارات الدينية الإصلاحية، والحركات السياسية التي تعتمد على الخطاب الديني والنص الديني كأيديولوجية لاقتحام المجال السياسي. ما يسمى الإسلام السياسي ناتجٌ، إذاً، عن واقعٍ يتمايز فيه الدين والسياسة. ومن هنا، لا يصح الاعتراض الأول، فتبرير استخدام مصطلح الإسلام السياسي، بسبب التوق إلى الربط والوصل رداً على القطع والفصل. أو في حالات أخرى، نتيجة اعتقاد راسخ استُنتج من حال البلدان الإسلامية بعد الاستعمار والتغريب، ومفاده بأن الأمة لن تنهض بدون الانطلاق من هويتها الحضارية كقاعدة للتفاعل مع منجزات الحداثة.
أما الاعتراض الثاني، فيميل كاتب هذا المقال إلى التعاطف معه، فثمّة أنظمةٌ تستخدم الدين أيديولوجية تبريرية، وتفرض تفسيراتها له نمط حياة عبر استخدام الدولة، ولا سبب يمنع من أن تطلق تسمية الإسلام السياسي عليها أيضاً. فهي تسيّس الإسلام في خدمة النظام. ومن الطبيعي أن تتورّط هذه الأنظمة في صراع وجودٍ مع الحركات الإسلامية التي تقدم بديلاً لها من مصادر الشرعية نفسها. وبهذا المعنى، فإن حربها على الحركات الإسلامية شرسة، لأنها حرب أهلية. الإسلام السياسي في نظرها هو الإسلام الحركي. لكننا نتجاوز المصطلح، هنا، فدراسته تكون في سياق آخر.
تتلخص إشكالية الحركات الدينية السياسية في معضلتين كبريين:
الدين مجال المقدس، أما السياسة فوظيفتها إدارة شؤون البشر في مجتمعٍ منظم، وإدارة مؤسسات في الدولة. وفضاؤها السلطة، والصراع عليها، وصراع المصالح والنفوذ والهويّات وتوزيع المنافع وغيرها. والجَسْرُ بين المجالين يكون إما أ. بدنيوة الدين وتسييسه، وهذا يعني إخضاع تفسيره وتأويله لاعتبارات سياسيةٍ آنيةٍ راهنة، ومهما حسنت النيات، وبرأت النوايا، ينتهي هذا الجهد إلى الإساءة إلى الدين؛ أو، ب. بتقديس السياسة، ورفع بعض القيم السياسية إلى مرتبة القيم الدينية. وهذا ما يحصل حين يتم تقديس الحركة الإسلامية والانتماء إليها، ورفع قيمة هذا الانتماء فوق القيم الدينية نفسها. (في المقابل، تقوم حركات غير دينية بتقديس قيم دنيوية، مثل الزعيم القائد والشعب والحزب والعرق وغيرها… وهذا ليس مجال بحثنا هنا. فسبق أن أفردتُ لذلك فصولا كاملةً في كتاب “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”).
تعتمد الحركات السياسية الدينية، في خطابها، على مصادر نشأت في سياقاتٍ تاريخيةٍ، تفصلها عنا أكثر من ألف عام، وتفصلها هي عن الحداثة ومصادرها الفكرية في العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصاد والعلوم السياسية برمتها. وهي تجد نفسها أمام خيارين: إما أن تسقط المفاهيم المعاصرة عليها، فتغيّر معاني النصوص ومقاصدها الأصلية التي لا يمكن قبولها في عصرنا، فتقوم بتشويه الأصل، أو تُسقط النصوص على الواقع الراهن بمعانيها الأصلية المتخيّلة؛ والنتيجة هي الصدام مع الوعي المعاصر وقيمه، والصدام مع الواقع نفسه. وقد يكون الصدام دموياً ومدمراً، وبات يهزم حتى الخيال أخيراً.
أما من ناحية القوى الاجتماعية والسياسية غير الإسلامية (ونقصد غير الإسلامية أيديولوجياً، حتى لو كانت مسلمة دينياً)، فإنها تشعر أن خلط الحركات الإسلامية بين الدين والسياسة، وتقديم نفسها قوى دينية، يهدّدها. فمفاده تقديس طروحات هذه الحركات في مقابل تدنيس طروحاتها، ومرماه التسبّب بإحراج من ينتقد طروحات الحركات الإسلامية، ويخالفها الرأي، وكأنه يتمادى على الدين، مع أن الحركات الإسلامية هيئات وروابط سياسية دنيوية، تؤطر بشراً مثل بقية الحركات السياسية، ولها غايات سياسية متعلقة بالسياسات العمومية وبالسلطة والسيطرة، وهي تطور مصالح حركية على الأقل، إن لم تكن مصالح فئوية. وهذه كلها ليست مقدّسات، ولا بد من مناقشتها بحرية، بدون الحرج الذي تتسبّب به مناقشة المسائل الدينية والأوامر الإلهية في مجتمع متديّن أو محافظ.
“الحركات الإسلامية هيئات وروابط سياسية دنيوية، تؤطر بشراً مثل بقية الحركات السياسية”
المجال السياسي هو مجال تنظيم الشأن العمومي، وهو أيضاً مجال السلطة واحتكار العنف، وهو، بالتالي، ساحة تنافس وصراع بين المصالح والرؤى وغيرها. وأسوأ ما يمكن أن يحصل للسياسة اجتياحُها من أحد تطرفين: الانحدار إلى درك التعبئة على الغرائز، أو السموّ بها إلى مستوى القداسة. فكلاهما مآله سد سبل التواصل العقلاني ومنع الحوار بحثاً عن السياسة الأفضل، والأكثر ملاءمةً وقبولاً، ورفض التسويات في حالة عدم القدرة على الحسم، والانزلاق إلى تحكيم العنف. والأسوأ مطلقا هو التقاء التطرّفين في بعض الحالات.
ليست هذه قضايا نظرية، بل مسائل عملية حياتية. وقد أوصل عدم الحسم فيها الحركات الإسلامية السياسية إلى مأزقٍ، لا مخرج منه، في رأينا، بدون حصول تغيير جذري.
سوف تتناول الحلقة المقبلة بعض جوانب هذه المسألة.
-2-
مأزق معسكر سياسي: الإسلام السياسي في السياسة
كشفت الثورات العربية عام 2011، وكذلك تعثر التحول الديمقراطي الذي تلاها، ضمور الثقافة الديمقراطية وضحالتها عند النخب السياسية العربية، الإسلامية وغير الإسلامية، فالنخب الحاكمة لم تتوانَ عن ارتكاب المجازر (وتدمير البلاد والعباد في حالتي سورية وليبيا) من أجل البقاء في الحكم. ونخب المعارضة، على اختلاف تياراتها، اعتبرت الثورة فرصةً سانحةً للوصول إلى السلطة، ولم تدرك، أو لم ترغب أن تدرك، أن هدف الثورة على الاستبداد هو الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي يوفرها النظام الديمقراطي، وأن مهمة بناء هذا النظام هي المترتبة على إطاحته. ومن أجل الوصول إلى السلطة، كانت مستعدة لتقديم الانتخابات على تثبيت المبادئ الديمقراطية (الإسلاميون)، أو كانت مستعدّة للتحالف مع فلول النظام القديم ضد الإسلاميين (النخب التي تسمي نفسها علمانية). أخذوا من الثورة ما يريدون، وتجافوا جميعاً عن الديمقراطية، والذين نادوا بها، وضحوا من أجل تحقيقها.
يتحمل المسؤولية عن تدهور الأحوال الذي تلا ذلك تمسّك القوى الحاكمة بالسلطة بأي ثمن، وضيق أفق نخب المعارضة التي آل إليها الأمر، بعد أن فرغت الميادين.
كان هدف الشعب الثائر إسقاط الاستبداد، وتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية؛ وهذه لا يمكن ضمانها بالحد الأدنى، إلا في دستور ديمقراطي. وفيما عدا استثناءاتٍ، حاولت الحركات الإسلامية التهرب من الحسم الواضح لمسألة مبادئ الديمقراطية والالتزام بها، وذلك بقصْرها على مسألة الحسم بالأغلبية وإرادة الشعب في صناديق الانتخابات. والحقيقة أن الديمقراطية هي التي تصنع الانتخابات، كآلية في الحكم؛ وليست الانتخابات هي التي تصنع الديمقراطية. ففي ظل الحكم الديمقراطي، تكون الانتخابات آلية حكم. أما خارج إطار النظام الديمقراطي المتوافق عليه، فالانتخابات وحدها قد تقود إلى الديمقراطية، كما قد تقود إلى الفوضى وأنواع من الدكتاتورية.
فشل الإسلاميون، بعد الثورات العربية، في فهم ضرورة التحالف مع القوى السياسية الأخرى، على أساس مبادئ ديمقراطية، لهدف تحقيق وحدة وطنية في مواجهة النظام القديم وفرض تغيير النظام. وخضعوا لمزايدات القوى الإسلامية الأكثر تطرفاً، خشية أن تسلبهم قاعدتهم الانتخابية (حول مسؤولية القوى الأخرى غير الإسلامية كتبنا سابقا، وللتوسع في الموضوع يمكن مراجعة الجزء الثاني من كتاب المؤلّف الذي صدر أخيراً “ثورة مصر”).
وبعد أن اكتفوا من الديمقراطية بمبدأ الانتخابات، لم يتمكّنوا من إقناع المجتمع بصدق نياتهم
“الديمقراطية هي التي تصنع الانتخابات، كآلية في الحكم؛ وليست الانتخابات هي التي تصنع الديمقراطية” بشأن الحريات المدنية التي لا يمكن تصور أي ديمقراطية في عصرنا من دونها. ويعود ذلك إلى أنهم 1. لم يقتنعوا بها فكرياً وقيمياً، كما لم يقدّروا، بما فيه الكفاية، أهمية الحريات للإنسان في عصرنا، بما فيها الحريات الشخصية، وضرورة عدم إملاء نمط حياة على الإنسان. فقد اعتقدوا أن هذا الأمر يهم فئة صغيرة من الطبقة الوسطى فقط. 2. أساؤوا تقدير حجم من يهمهم هذا الأمر، وكذلك أهمية الطبقة الوسطى في المدينة ووزنها في إدارة الدولة. فهذا الوزن ليس كمياً فقط.
اعتقد الإسلاميون أن ما يهم الناس هو المعاش اليومي وقضايا الهوية فقط، لكنهم لم يحسنوا إدارة معاش الناس اليومي، فلم تتوفر لديهم رؤية بهذا الخصوص. وفي غياب رؤيةٍ خاصةٍ في هذا الشأن، لا بد على الأقل من تحقيق وحدة وطنية لمواجهة الأزمات الاجتماعية الاقتصادية ومحاربة الفساد وتليين موقف القوى المتحكّمة في الاقتصاد التي تعرقل التغيير. وهذا لم يتحقق. وفوق هذا كله، لم يدرك الإسلاميون آليات عمل الدولة الحديثة، وجهازها البيروقراطي ومراكز القوة والمصالح فيه.
كما أنهم تصرّفوا مثل طائفةٍ دينية، وليس كحزب سياسي. (وبعض الأحزاب الأيديولوجية المتطرفة غير الدينية تتصرف على هذا النحو أيضا). ففي ظل الاستبداد، عاشوا في إطار جماعةٍ تضامنيةٍ متماسكةٍ، تقوم على التضامن والتلاحم بين أعضائها، يعضدها نمط تديّن بعينه شكّل عوناً لهم في الصمود في المحن. وقد أفضى هذا التلاحم الحزبي معطوفاً على نمط تدين خاص، ولغة ورموز خاصة، ولائحة شهداء وذاكرة جماعية من المعاناة والملاحقة والمظلومية إلى التصرف كطائفة مغلقة، ذات نمط حياة خاص بها، وليس كحزب سياسي، ينضم له الناس ويغادرونه على أساس القناعة. فثمّة أجيال ولدت في “الإخوان المسلمين” كما في طائفة (سبق أن أشار إلى نمط الطائفة هذا الباحثان حسام تمام وخليل العناني، كما تناولت الموضوع في كتابي “ثورة مصر”). وهذا يعني في العمل السياسي العلني وجود احتمال أن ينقسم العالم بينهم وبين بقية الناس، فثمة أساس لذلك. وهذا بالضبط ما أدركته قوى النظام القديم وطبّقته عند العمل على عزلهم، وفصلهم عن بقية المجتمع في محاولةٍ لشيطنتهم.
وإذا أضفنا إلى هذه البنية المغلقة امتلاك الحقيقة الدينية المطلقة، ندرك صعوبة إنتاج تحالفاتٍ بناء على أهداف محدّدة مشتركة. فكل تحالف هو وسيلةٌ في سبيل هدف الجماعة. وسرعان ما يشعر الحلفاء أنهم أدوات، عند أول منعطف. الحركات الأيديولوجية المغلقة عموماً تمتلك “الحقيقة المطلقة”، وهي، بالتالي، لا تتضامن مع حلفائها في محنتهم، في حين تطلب من الجميع التضامن معها، وتتهم حلفاءها السابقين بالكفر والخيانة والردة الانتهازية عند أول خلاف. وتتشابه الأيديولوجيات الشمولية في اعتبار التحالفات أداةً لتحقيق الهدف، وفي سهولة القفز من التحالف إلى التخوين عند أول خلاف. فإما معي (وهذا يعني تابعاً لي) أو ضدي.
عدم الثقة بكل من ليس إسلامياً قد ينقلب، عند بعض الإسلاميين، إلى سذاجةٍ تتجلى في سهولة التعرّض للنصب والاحتيال من كل دجال ومحتال، إذا تظاهر بالتدين. ومن هنا، يسهل اختراق هذه الحركات وإقناعها سياسياً بوسائل غير سياسية. فنقطة ضعفها تقبّلها للمتديّن ظاهرياً، ولو كان إنسانا سيئا، ورفض الإنسان الفاضل والكُفْء إذا كان غير متدين. من دون هذه المقاربة للناس، والنابعة من سجية الحركة (إيثوس)، وليس بالضرورة من نياتٍ سيئة، لا يمكن فهم كيف خُدِع الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي برئيس جهاز مخابرات عسكرية، شرس في وصوليته إلى درجة التظاهر بالوداعة والتقوى، مثل اللواء عبد الفتاح السيسي. هذه الاعتبارات، غير السياسية وغير المهنية التي تنتهي إلى تدمير السياسة، تتحكّم أيضاً في التعيينات والمناصب.
يمكن تعداد عوامل كثيرة أدت إلى تسهيل تحالف قوى النظام القديم مع قوى معارضة غير
“اعتقد الإسلاميون أن ما يهم الناس هو المعاش اليومي وقضايا الهوية فقط، لكنهم لم يحسنوا إدارة معاش الناس اليومي” إسلامية لمحاصرة الإسلاميين. ولكن هذا ما جرى ويجري حاليا. وقد تُرِك البرنامج الديمقراطي الذي تؤيده أغلبية الناس بدون وكلاء سياسيين وازنين يحملونه، وجرى إقصاء شباب الثورات. وهم الجيل الذي يُفترض أن يحكم الدول العربية مستقبلا.
كان كاتب هذا المقال راسخ القناعة بأن مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية الديمقراطية شرط لإنجاح التحول الديمقراطي، كما يساعدهم في الانتقال من ثقافة المعارضة إلى المسؤولية عن دولةٍ ومجتمع، وأنه لا طريقة لتبني الثقافة الديمقراطية من دون مشاركةٍ في العمل السياسي العام. وقد فوّتت الثورة المضادة هذه الفرصة الثمينة، بإقصائهم وملاحقتهم واضطهادهم، فعقدت الأمر، وفاقمت الاستقطاب الاجتماعي السياسي الأقرب إلى الاحتراب الأهلي منه إلى التعدّدية. ولم يعد ممكناً أن تعود القوى الدينية إلى العملية السياسية، من دون أن تحسم موقفها من مبادئ النظام الديمقراطي، بشكل قاطع وبلغةٍ واحدة لا تقبل التأويل، بما في ذلك عدم تجزئة المواطنة وتدريجها على أساس ديني. بيد أنه، من ناحيةٍ أخرى، يصعب وعظ الناس بتبني مبادئ الديمقراطية في السجن، أو خلال التعرّض للاضطهاد والملاحقة والشيطنة والانتقام.
لقد أكد فشل حركات الإسلام السياسي في المرحلة الانتقالية في مصر (بما في ذلك إفشاله) استنتاجات حركة النهضة التونسية التي توصلت إليها عبر طريق تطورٍ مختلف. فانفتحت على أوسع تحالفاتٍ ممكنة للحفاظ على الاستقرار المجتمعي، ولتجنب استقطابٍ شبيه بالحرب الأهلية، وللحفاظ على التحول الديمقراطي من انقلاب عسكري-أمني محتمل. وكان الانفتاح ومواصلة طريق الإصلاح، وصولاً إلى الفصل بين الحزب السياسي المدني والدعوة الدينية، استنتاج إسلاميين آخرين من الجيل الجديد. ولكن أتون الثورة المضادة وعنفها ومعاناة الملاحقة والتنكيل والتعذيب في السجون، والأهم من ذلك الشعور بالخيانة من “خدعة” الديمقراطية، وعدم احترام الأغلبية الانتخابية ليس بيئة مناسبة لتوطيد هذه القناعة. وقد انزلق بعضٌ من أبناء هذا الجيل الجديد إلى طريق العنف.
-3-
مأزق معسكر سياسي: الإصلاح والعنف
بانت معالم المأزق التاريخي لتيار الإسلام السياسي بين حدّين، هما: 1. ظهور تنظيم الدولة الإسلامية الذي جمع بين شخصية حركة طالبان (التمدّد الأفقي على الأرض، ومحاولة بسط السيادة في تقليد لبنية الدولة) وحركة القاعدة (التعبئة من كل أصقاع الأرض إلى ساحة الجهاد المشتعلة)، مراهناً على تحويل غضب المظلومين إلى حقدٍ طائفي، ومستخدماً وسائل عنيفة غير مسبوقة في حدّتها. 2. فشل تجربة الإسلاميين في الحكم (السودان، ومصر أخيراً) والاغتراب الكامل عن تجربة حكم الإسلاميين في إيران، وتحوّل الأخيرة إلى هدفٍ لتعبئة إسلامية مضادة في البلدان العربية، ولا سيما في العراق وسورية واليمن.
بينت السنوات الأخيرة أن شعار “الإسلام هو الحل” لا يعني إلا التغطية على غياب برنامج، وتحويل القصور إلى فضيلة. وقد بان ذلك بوضوح مع وصول الحركات الإسلامية إلى الحكم، أو حتى كمليشيات في إدارة مناطق. لقد قتل، أخيراً، 700 سوري في اشتباكات بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” في مرحلةٍ كانت فيها حلب تُقصَف بوحشية من قوات النظام والطائرات الروسية. فحين كان الشعب السوري يستصرخ ضمير العالم ضد قصف حلب، كانت قوى إسلامية تتعرّض للقصف، وأخرى تسيطر على غوطة دمشق، وجميعها تؤمن بحكم الشريعة، وأن “الإسلام هو الحل”، تشتبك في صراع دموي للسيطرة على ركام حيٍ، وشارعٍ مهدّم، وبنايةٍ متداعية.
لقد انتبهت قوى إسلامية منذ تأسيس حزب الوسط في مصر، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وعبر مراحل تطور حركة النهضة التونسية، إلى أن طريق العمل السياسي في النضال ضد الاستبداد، أو بهدف تولي إدارة المجتمع كتيار منتخب من الشعب، يقتضي حسم بعض القضايا المتعلقة بالبرنامج السياسي، بدءاً بمسألة المواطنة المتساوية، وانتهاءً بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفيما يتجاوز صرخة “الإسلام هو الحل”، فهذا الشعار الذي هدف إلى التعبئة السياسية في مجتمع متديّن، ولإحراج غير الإسلاميين، أصبح مجرد تأكيدٍ على هوية التيار الإسلامي السياسي. ولكنه ليس حلاً، وصدق عبدالفتاح مورو، إذ وصف علاقة هذا الهتاف بالشعب كحال الطبيب الذي يهتف في وجه المريض، قائلا “الطب هو الحل”، عوض تشخيص المرض، ووصف علاجٍ محدّد له.
ولا يكفي، في هذا السياق، الادعاء أن التيار الإسلامي هو إسلامي لأنه يختلف عن غيره بتبني الأخلاقيات الإسلامية، فالدافع الأخلاقي للفاعلين السياسيين قائم. وهذا تحديد جيد لوظيفة الدين في السياسة كدافع أخلاقي، وليس كبرنامج. ولكن، ثمة حالاتٌ تدفع فيها المصالح الحزبية نحو خطواتٍ غير أخلاقية بأي تعريف. وينشأ في حالة الإسلام السياسي خطر أن يُستخدم الدين مقدّساً يعلو على القيم الأخلاقية، وبالتالي، يتحول إلى مبرر لتجاوز القيم الأخلاقية المتعارف عليها، وليس مصدراً للأخلاق.
وتحديد قيم الإسلام كموجه أخلاقي للحزب الإسلامي قد يتنافى، في النهاية، مع التديّن السياسي.
“قيم الإنسان الأخلاقية وظروفه الاجتماعية ونشأته تحدّد قراءته للإسلام، وتحدّد نوع الأخلاقيات التي يستفيدها منه”
فالسؤال هو: ما هي هذه القيم؟ وفي رأيي أن قيم الإنسان الأخلاقية وظروفه الاجتماعية ونشأته تحدّد قراءته للإسلام، وتحدّد نوع الأخلاقيات التي يستفيدها منه. فالناس المختلفون في ثقافتهم المتكونة نتيجة لعوامل عديدة يقرأون في الإسلام قيماً مختلفة. والسياسة يمكنها أن تحوّل الدين إلى مجرد تبريرٍ لارتكاب أفعالٍ غير أخلاقية، كحال المقدّسات الدنيوية التي تُرفع فوق الأخلاق في الحركات العلمانية المتطرفة، والتي تفيد بأن الأخلاق نسبية، والأفعال تصلح وتقبح تبعاً لمصالح طبقةٍ، أو حزبٍ أو قضيةٍ ما؟ وهو ما يُفضي إلى تبرير حتى جرائم الإبادة في خدمة الهدف الأسمى، فالمقدس يقع فوق الخير والشر.
وهذا وجه أزمة الإصلاحيين الأول، والذي يقود إلى الاستنتاج التالي: إذا كان الدافع هو الأخلاق، فلماذا نحتاج إلى التديّن السياسي، وما المشكلة في التفسير القيمي الإنساني للدين، أو في قيم مثل العدالة والمساواة والحرية وحق الإنسان في الحياة، والتي يمكن لأي متدين أن يتبناها من دون التنازل عن العقيدة الدينية، ومن دون المساومة على التقوى، وهي الأهم.
أما المصدر الثاني للأزمة على طريق من يستنتجون ضرورة المضي، حتى النهاية، في مسألة الإصلاح، فهو الحاجة لحسم بعض القضايا. وسبق أن تطرقنا في المقال الأول للخلط بين مجالي السياسة والمقدّس. وهذا هو المبدأ العام. ولكن، ثمة تفاصيلُ يواجهها التيار العامل في السياسة، وتضطره الى وضع سياساتٍ بناء على اعتباراتٍ مهنيةٍ تخصصيةٍ لا تستفيد من استشارة مرجعياتٍ دينية، وقراراتٍ أخرى لا تتنافى مع مقارباتٍ متدينةٍ وتقَويّةٍ للإسلام. ولكن، قد تتنافى مع مسلّمات الإسلام السياسي، وتتعلق بالدولة وحكم الشريعة والحريات العامة وغيرها. وهذا يتطلب تعديل تعريف الإسلام السياسي يومياً إلى درجةٍ يصبح بعدها من الأفضل التنازل عن هذه التسمية، وتبني فكرٍ ما: يساري أو يميني، ليبرالي أو محافظ، توافقي أم أكثري، وثمّة خياراتٌ أخرى لا تحتاج إلى هذه التسميات، مثل تبني سبل الإدارة العقلانية للمجتمع والدولة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة المتساوية، والتميز في الانتماء للثقافة العربية الإسلامية هويةً، وتنميتها وتطويرها. وهذا بالطبع لا يكفي، فهذه قيم وقواعد عامة، يكمن التحدي في كيفية ترجمتها إلى خطواتٍ وبرامج وقراراتٍ في العمل السياسي.
السير على طريق الإصلاح في المعارضة (ضد الاستبداد مثلاً) أو في الحكم، بالمشاركة في السلطة أو في تحمّل أعبائها منفرداً، تعني الوصول، في النهاية، إلى صدامٍ مع تعريفات الإسلام السياسي وثقافته السياسية المتوارثة، ما يحتم أحد الخيارات التالية: حسم الصراع لصالح خيار مدني ديمقراطي بشكل كامل، مع التأكيد على الهوية الحضارية الإسلامية، كما في حالة الأحزاب المسيحية الديمقراطية (وربما بمقاربةٍ أكثر قرباً من مفهوم العدالة الاجتماعية فهذه أحزاب يمينية)، أو التقوقع والجمود والانعزال عن صيرورة التطور في المجتمع والسياسة، واتخاذ موقفٍ حذر ومحافظ، يواصل تقليد الإسلام السياسي الحركي، كما نعرفه متجسّداً في جماعة الإخوان المسلمين، وبعض ما تفرّع عنها من حركات، أو العنف والصدام مع المجتمع وصيرورات التطور فيه بشكل عام.
-4-
مأزق معسكر سياسي: طريق العنف
لا نكتب هذا المقال على المستوى “شبه النظري” الذي ينتج (أو يدحض) مقولاتٍ من نوع أن العنف مطبوعٌ في الإسلام، أو في الدين والمقدس عموماً، (أو حتى في جوهر الإنسان، ولمَ لا ما دامت مقاربة العنف تنطلق من جواهر ثابتة؟)، فليس هذا شاغلنا. نحن نقصد العنف السياسي المترتب على العوامل التالية:
أولاً، فرض معايير وسلوكيات محددة على الناس، باعتبارها مشتقةً من واجباتٍ دينيةٍ مطلقة، واعتبار هذا الإملاء في صلب مهمة حركةٍ دينيةٍ سياسيةٍ ما، وتعريفها لذاتها. ما يخالف فهم كثير من المتدينين للجوهر الإيماني الديني، باعتباره قائماً على خيار حر. وغالباً ما لا ينتظر مثل هذه الحركات حتى الإمساك بدفة الحكم، لفرض إملاءاته على الناس، فقد يبدأ بممارسة الإملاء، وهو في المعارضة.
ثانياً، اعتبار العنف وسيلةً وحيدةً للوصول إلى الحكم، بتشويهٍ بالغ للجهاد (حتى يصعب التعرف إليه). ويقوم هذا التعريف على تكفير الحاكم المسلم وغير المسلم، والمجتمع نفسه، ورفض سبل العمل المتصالحة نسبياً مع الواقع، ولو في سبيل تغييره.
ثالثاً، فقدان الأمل من التغيير بدون عنف، وتراكم الإحباط والنقمة على المجتمع والدولة والآخر بشكل عام، وذلك بعد تذويت ما يمكن اعتباره تكفيراً للمجتمع، وهجرة معنوية منه بتكوين مجتمع إسلامي بديل، يتم الانطلاق منه، لفتح معاقل الكفر (دار الحرب) كلها، وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية.
رابعاً، مراكمة نفوس ذات مزايا متفاوتة انطوائية، حسّاسة جداً، أو حادة وانفعالية الطابع للغضب الشديد، نتيجة للتعرّض لظلمٍ بلا مخرج من نوع الإذلال المستمر والتمييز العنصري والتعذيب في السجون وغيره. (وقد يشمل المصدران الأخيران فئاتٍ آمنت بالتدرّج والإصلاح والخيار الديمقراطي، لكنها صدمت من ردة فعل النظام، أو عنف الثورة المضادة، في قمع تطلعاتها وتحركاتها السلمية).
خامساً، العنف الناتج عن عناصر جنائية إجرامية، أو على حافة الجنائية، تجد في الحركات الدينية المتطرفة ملاذاً للندم والتكفير، ومواصلة العنف في الوقت نفسه.
لا يدخل ضمن روافد العنف الديني أعلاه ذلك العنف السياسي غير المدفوع دينياً، والذي قد يقوم به متدينون وغير متدينين، كدفاع عن النفس، وكرد فعل على عنف الأنظمة في مراحل الانتقال العاصفة.
لقد تقاطعت هذه المصادر الخمسة وغيرها (العنف الطائفي مثلاً) في عنف تنظيم الدولة
“ليس النقاش مع تنظيم الدولة لاهوتياً دينياً، أو فلسفياً، أو فقهياً حول تفسير النصوص”
الإسلامية الذي نشأ عن درجةٍ من درجات تطور السلفية الجهادية، في ظل الاحتلال والحكم الطائفي، وذلك بعد استبدادٍ مديد. التقت في العراق عوامل مثل تجربة تنظيم القاعدة في أفغانستان وتفرّعاتها في العراق، ونظام استبدادٍ في أجواء حصار وعزلةٍ دوليةٍ، يشن حملة إيمانية تشجع مظاهر التدين ويعادي الحركات الإسلامية في الوقت نفسه، والمعاناة في سجون الاحتلال الأميركي، ثم سجون النظام الطائفي ذي النزعات الاجتثاثية الانتقامية. ويحمل بعض قادة التنظيم “فضائل” هذه المراحل، وندوب تجربتها في سيَرِهم الذاتية. وقد أضاف تهميش العشائر العربية التي أصبحت تسمى عربية سنية، وإقصائها إلى درجة الإذلال، بعد مرحلةٍ من استخدامها ضد تنظيم القاعدة، بعداً شعبياً للتنظيم.
مشكلة هذا التنظيم أنه بلغ في “فقه التوحش”، وإدارته وتظهير العنف والتفنن فيه، درجة تنفير الجمهور منه؛ كما أنه احتكر الحقيقة المطلقة، وتكفير كل من لا يبايع خليفته باتهامه بالرّدة والخروج. ومع أن تنظيم الدولة يشكل امتداداً لنموذج طالبان (بسط السيطرة على الناس) وتنظيم القاعدة (الدعوة العالمية للجهاد) معاً، إلا أنه، خلافا لطالبان، لم يُمسك بالحكم في دولةٍ، بل يقيم دولته على أراضي دولٍ قائمة أصلاً من دون أن يمسك بالحكم فيها
لقد ساق تنظيم الدولة خطاب الإسلام السياسي السلفي الجهادي إلى أقصاه، أو استغله أداةً تعبويةً حتى استنزفه. ونقصد بذلك خطاب الحركات الإسلامية التي لا تؤمن بالتدرّج عبر “أسلمة المجتمع”، وإصلاحه بالدعوة والإرشاد، أو عبر تقديم النصح والمشورة للحكام، بل ترى إعلان الجهاد على المجتمع الكافر، وضرورة إمساك الدولة لفرض الإسلام الصحيح، إسلام السلف (كما يتخيّلونه طبعاً). كما ساق رفض المواطنة، فكرةً وممارسةً، والإصرار على تقسيم المجتمع، بموجب الطائفة التي ولد إليها المرء، أو بموجب صحة عقيدته، إلى درجة إعلان الحرب على جزءٍ كبير من المواطنين الذين يسميهم “الرافضة” و”الكفار” و”المنافقين” وغيرها من التسميات.
ولأنه دفع بهذا الخطاب إلى أقصاه، مصطدماً وجهاً لوجه بالدنيا (المجتمع والدولة والعالم)، فقد أدخله في أزمةٍ تتلخص بنفور العرب والمسلمين والناس أجمعين. لقد زجّ به ببساطة في صراعٍ مع متطلبات حياة الناس اليومية الحديثة (التعليم، والعمل، والطبابة، والتنقل، والفن والحس الجمالي، وتحقيق الأمن والاستقرار). والمشكلة أنه فعل ذلك كله معتمداً على نصوص دينية، وتفسيرات فقهية سلفية لهذه النصوص. وبعضُها يُدرَّس في مدارس بعض الدول العربية، ما جعل بعضهم يستنتج أن الذنب ذنب النصوص نفسها، فماذا فعل هؤلاء الشباب سوى تطبيقها؟ مثل هؤلاء ما كان يسرعون إلى مثل هذا الاستنتاج لو كان مطلعين على نصوصٍ من ديانات أخرى، مثل التوراة والتلمود، فهي تتضمن ما هو أعنف بكثير، وأكثر دمويةً، إلى درجة الحرج من اقتباسها.
ليس النقاش مع تنظيم الدولة لاهوتياً دينياً، أو فلسفياً، أو فقهياً حول تفسير النصوص. وفي
“طريق تنظيم الدولة لا يفضي إلى دولة خلافةٍ، بل إلى مأزق العنف السياسي المدفوع دينياً”
رأيي، لم يعد التحدّي متعلقاً بالنصوص التي تعرّضت لأنواع النقد والتحليل والتأويل والتفسير والتمحيص كافة، ولا أظن المتطوعين لتنظيم الدولة يقرأون هذه التحليلات، أو يعبأون بها أصلاً. ويفترض أن يدور النقاش حول الظروف التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنشوء قوىً تصر على ممارسة هذه النصوص حرفياً، وكأنها برنامج عمل، يتضمن سياسيات وإجراءات وإرشادات.
هذا التجلي العنيف على نحو استثنائي لمّا سماه الإسلام السياسي عموماً “تطبيق الشريعة”، سوف يزجّ بكل من رفع هذا الشعار في المأزق. تماماً مثلما تسببت ممارسات بول بوت وستالين، وفشل تجربة الاتحاد السوفييتي بأزمةٍ للتيارات الشيوعية عموماً، حتى تلك التي انتقدت السوفييت. إذ تبين أن الجمهور المصدوم لا يميز كثيراً بين هذه الألوان داخل ما يعتبره التيار عينه، فكل من يستخدم عبارات اليسار مثل “الاستغلال الطبقي” و”ملكية الدولة وسائل الإنتاج” أصبح يربط ب”تجلي حقيقة هذه الشعارات” في معسكرات الاعتقال في سيبريا، وفي الفشل الذريع في التنافس مع الرأسمالية. وليست عدالة مثل هذه الأحكام موضوعنا هنا، بل ما ينتج عنها.
ومن شأن العنف الذي تجلى في ممارسات تنظيم الدولة، وتعامل هذا التظيم مع منجزات التمدّن العربي والإسلامي، وصدمة الناس منه، وعزلته العربية والإسلامية والعالمية، أن يؤثر على مجمل تيار الإسلام السياسي الذي يستخدم المصطلحات نفسها في خطابه، حتى لو اختلف مع تنظيم الدولة على الأساليب، وحتى لو كفّره تنظيم الدولة وحاربه. سوف تزج أزمة ما بعد تنظيم الدولة بتيارات الإسلام السياسي في عملية مراجعات. سوف ينتقد بعض المثقفين الإسلاميين الصمت على التطرّف والاستهانة به في بداياته، وآخرون سوف ينتقدون طريقة الاعتماد على النصوص كتطبيق للشريعة في عصرنا، وسوف يذهب بعض الآخرين إلى حد نقد النصوص نفسها. المهم أن طريق تنظيم الدولة لا يفضي إلى دولة خلافةٍ، بل إلى مأزق العنف السياسي المدفوع دينياً.
-5-
مأزق معسكر سياسي: ماذا تبقى؟
تتعرّض الحركات السياسية الإسلامية إلى هجومٍ وحملة ملاحقة عنيفة من تحالفٍ واسع، مستفيداً من فشل تجربة “الإخوان” في مصر من جهة، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. ويخلط هذا الهجوم بين تجارب الحركات الإسلامية عن سبق الإصرار والترصّد، على الرغم من الاختلاف، وحتى التضاد، بينها. كما يستغل التحالف الإقليمي الذي يشن الهجوم على هذه الحركات انقسام ما كان يُعرف كمعارضةٍ قبل الثورات، وانشقاقها العميق خلال المرحلة الانتقالية التي تلت الثورات، وكذلك توْق الناس إلى الاستقرار على ضوء الاحتراب المستمر في العراق وسورية واليمن.
من الصعب الجزم في كيفية تطور التيار الإسلامي السياسي على ضوء ما يتعرّض له، فالقوى المحافظة في تيار “الإخوان” تلوذ بتاريخٍ مديد من العزلة، وتقاليد الانكفاء على الذات، والتمسك بالقديم. وهي الأقل تأثراً بالتطورات. أما القوى الإصلاحية ضمن حركة الإخوان المسلمين، ولأنها الأكثر دينامكيةً وتفاعلاً مع الأحداث، فهي المعرّضة إلى الانقسام بين تياراتٍ عديدة، بعضها يذهب في النقد الذاتي، وتطوير الطرح الإسلامي، إلى درجاتٍ مثل قبول مبادئ الديمقراطية والالتزام بها، والتحوّل إلى حزبٍ مدني، وحتى إلى درجةِ القطيعة مع التراث الإخواني. ويتأثر بعضها الآخر بالتطورات عبر تخطيء “تهاون الإخوان مع خصومهم”، وغفلتهم، واستنامتهم إلى صناديق الاقتراع، فيدفع إلى تبني العنف في الرد على عنف التحالف المعادي للتغيير. من هنا، نلاحظ استغراب بعض الباحثين من تبني قوىً شبابيةٍ كانت محسوبةً على التيار الإصلاحي خيار العنف، بعد الثورة المضادة في عدة بلدان عربية. وكما يصل بعضهم إلى التمسك بالديمقراطية، يذهب بعضهم الآخر إلى درجة رفض الديمقراطية خياراً من أساسه، باعتباره خديعةً، وقع التيار الإسلامي السياسي ضحية لها. ولا ندري ماذا سوف يستنتج هؤلاء مستقبلاً من انسداد طريق العنف.
ينطلق التغيير من تقاطع الاستنتاجات من التجربة السابقة مع الحاجة إلى إجاباتٍ على التحديات الراهنة. والمهمة الرئيسية التي تقع حالياً على عاتق القوى المناضلة ضد الاستبداد، إسلامية كانت أم غير إسلامية، هي الاتفاق على مبادئ النظام الديمقراطي، والالتزام بها، بحيث يكون التغيير مقترناً بطرح البديل الديمقراطي الموثوق والمتفق عليه، وليس مقترناً بالفوضى أو باستبداد آخر. وهذا يتطلب تغييراتٍ عند القوى الإسلامية وغير الإسلامية، تصل بها إلى التوافق على ما يلي:
- سيادة الدولة الوطنية ووحدة أراضيها
- مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية أمام القانون منظماً للعلاقة بين الفرد والدولة. ليس الدين
“القضايا المعقدة المطروحة سوف تضطر أي معسكر سياسيٍّ إلى اكتشاف تميّزه في ظل النظام الديمقراطي”
والمذهب، ولا الطائفة، ولا القبيلة والإثنية، ولا الجنس، بل المواطنة.
- مبدأ الانتخاب والتمثيل والرقابة وتحديد الصلاحيات.
- تحييد الدولة في شأن قرار الأفراد الديني، ونمط الحياة الذي يختارونه. فإملاء عقيدةٍ أو نمط حياة معيّن على الناس ليس وظيفة الدولة.
- نظام الحكم يضمن التعدّدية الحزبية للقوى التي تقبل بالمبادئ الديمقراطية، تحالفاتها و/أو تداول السلطة سلمياً في ما بينها. نظام الحكم الديمقراطي نظام تمثيلي يشمل حكومة ومعارضة.
- استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وعن أجهزة الأمن، وعن الأحزاب.
- جيش مهني محترف، تنقاد له وحدات التجنيد الإلزامي (في حالة وجوده)، وكذلك قوات الاحتياط. ولكن الجيش المهني المحترف هو الأساس. ويحيَّد الجيش وقوى الأمن الداخلي عن السياسة والحياة الحزبية.
- الاتفاق على عدم السماح بقيام قوىً مسلحة من أي نوع خارج نطاق الجيش والقوى الأمنية.
- احترام الحقوق الجماعية والإدارة الذاتية للجماعات الإثنية، والعمل على صياغة هذه الحقوق الجماعية.
- الاتفاق على المزج بين التمثيل النسبي الحزبي للبلاد كلها كمنطقة واحدة في مجلس النواب، والتمثيل المناطقي الشخصي (غير الحزبي) في مجلس شيوخٍ منتخبٍ، يضمن فيه تمثيل تنويعات المجتمعات العربية المركبة كلها.
- وجود سلطات محلية بلدية منتخبة على درجاتٍ من الإدارة الذاتية للشأن البلدي.
هذا هو الأساس، في رأيي، لأي معسكر ديمقراطي مقبل، يشمل قوى إسلامية وغير إسلامية في البلدان العربية. وقد عدّدت عناصره، بعد تفكير معمّق في أهم القضايا التي تواجه التحول الديمقراطي في البلدان العربية الرئيسية، بحيث يحافظ على وحدة الدول وشعوبها، في إطار الوطنية والمواطنة، وتنوعها في الوقت نفسه، لكنها قضايا يصحّ فيها النقاش والتفصيل والحذف والتعديل. وليست هذه المسألة محصورة بالقوى الإسلامية السياسية، ولا تخصّهم وحدهم، بل هي مجموعة تحدّيات تواجه القوى التي تهدف إلى بناء أنظمة حكمٍ تتجاوز مرحلة الاستبداد والفوضى في البلدان العربية.
هنا، يُسأَل المحسوب على معسكر الإسلام السياسي: وما الذي سوف يميّز التيار الإسلامي إذاً؟ وهو ما قد يطرحه، بقلق، القوميون العرب الديمقراطيون، وكذلك اليسار الديمقراطي، والليبراليون أيضاً، حول تياراتهم، وما يميّزها. والإجابة عليه عندهم، إنها متروكة لهم. كل ما لا تشمله المبادئ المتفق عليها، ولا يتعارض معها هو شأنهم. ويبقى الكثير جداً للاختلاف عليه، في كيفية إدارة الدولة، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك السياسة الخارجية. فلا يعقل أن كل ما يتميّز به معسكر سياسي كان منافياً للمبادئ الديمقراطية، فنفدت صلاحيته بالاتفاق عليها. سوف يجد التيار الذي يعتبر نفسه إسلامياً ما يتميّز به، فقد يشدّد على قضايا الهوية العربية الإسلامية، ويؤكد على التراث الإسلامي، ويدافع عن أهمية الدين في التربية، وقد يكون رفض أنماطٍ معينةٍ من التغريب والعولمة منطلقه للتطور والتنمية والحداثة، كما أنه قد يكون أكثر محافظةً في شؤون الأسرة، وأكثر اهتماماً برعاية الفئات الضعيفة في المجتمع من غيره، وأكثر اهتماماً بالعلاقات مع الدول ذات الأكثرية المسلمة خارجياً. من أين لي اليقين هنا؟ كل ما أعرف هو أن القضايا المعقدة المطروحة سوف تضطر أي معسكر سياسيٍّ إلى اكتشاف تميُّزه في ظل النظام الديمقراطي، وإلا فلن يكون ثمة مبرر لوجوده.
هذا خيار واحد من بين خياراتٍ تترتب على مأزق هذا المعسكر، لكنه مأزق تاريخي، ولا بد من قراراتٍ تاريخيةٍ للخروج منه. والله أعلم.
العربي الجديد