صفحات الثقافة

“مأساة إبليس”… وأدونيس


جهاد الزين

سوريا المعاصرة قدّمت بعض أكثر المثقفين العرب تأثيراً نقدياً ضد الأصولية الدينية من داخل الفكر الديني ومن خارجه. هل يجوز الصمت على الحملات التكفيرية تحت شعار تبريري أصبح فضائحياً؟

أحارُ…

كلّ لحظةٍ أراكِ يا بلادي في صورةٍ…

قتلْتِني قتلتِ أغنياتي

أأنتِ مجزرهْ

أمْ ثورةٌ ؟

أدونيس

عام 1969 سيُصدِر مثقفٌ سوريٌ – هو سليل إحدى أعرق العائلات وأكثرِها مُلْكيةَ أراضٍ في بلاد الشام و التي احتلّت مناصب رفيعة في الإدارة العثمانية – كتاباً في بيروت تحت عنوان: “نقد الفكر الديني” تضمّن بين فصوله فصلاً تحت عنوان: “مأساة إبليس”.

في هذا الفصل يَعرض الكاتبُ الذي كان يَفترِض نفسَه – وربما لا يزال – ماركسياً مع أنه بحكم تنشئة والدِه ثم تنشِئته، أحدُ الأكثر تشبُعاً بالثقافة الليبرالية الغربية الحديثة بين المثقفين السوريين… يَعرض لما يعتبره “محنة” الملاك إبليس بعد أن رفض تلبية الأمر الإلهي بالسجود لآدم. إنه الدكتور صادق جلال العظم. وهو إذْ يعيد سرد ثم تحليل القصة القرآنية عن إبليس يذكّرنا بأن إبليس رفض السجود لأن آدم بشرٌ “من صلصال” بينما هو إبليس خلقه الله “من نار”. هكذا – باختصار – يتعاطف الكاتب مع مظلومية إبليس في نظره معتبراً تمرّدَ هذا الملاك، مع أنه مخالفةٌ للأمر الإلهي، منسجماً كل الإنسجام مع المشيئة الإلهية… لأنه لو سجد لآدم البشري كان سيُشرِك بالله! ولهذا يستنتج الكاتب أن “موقف إبليس يمثّل الإصرار المطلق على التوحيد” أي الإيمان بالله الواحد. ويستعيد العظم قراءاتٍ من التراث الإسلامي لاسيما قراءة المتصوف الشهير الحلاج “بإيجازها الرائع” لقصة إبليس وتعاطفها معه.

لستُ هنا لأُسهِب في الكلام عن هذا الكتاب الذي أثار ضجةً كبرى وأُحيل كاتبُه أمام القضاء اللبناني يومها، وإنما للتذكير في هذه الحقبة الهائلة الإختلاط من الآفاق والمخاطر التي افْتَتَحَتْها الثورة السورية قبل عامٍ ونيِّف، أن سوريا المعاصرة منذ استقلالها في الأربعينات من القرن المنصرم بل قبل إنجاز هذا الاستقلال وعلى مدى عقود الى اليوم قدّمت بعض أكثر المثقفين العرب تأثيراً نقدياً ضد الرجعية الدينية من داخل الفكر الديني ومن خارجه… وإذا كان طه حسين لا يزال المَعْلَمَ التأسيسي في سياق فكري بلغ حوالى قرن كامل، فإن اسمين مثل أدونيس وصادق جلال العظم، كلٌ منهما في حقله ونتاجاته، ذهبا في شجاعتهما الفكرية الى حدودٍ قصوى. وهناك أسماء سورية أخرى في هذا السياق يمكن إدراجها.

هـــــذه “الســوريـــــا” حتـــــى وهــــــــي – كدولٍ عربيةٍ أُخرى – تعيش حالةَ سيطرةٍ للتيارات الأصولية على الحَركيّة الداخلية للمعارضة فيها، يجب أن لا يعني ذلك استسلامَ الليبراليين والعلمانيين لهذا الوضع تحت حجة “أولوية المعركة مع النظام”. إنها الحجة التي لا يستطيع معارضٌ سوريٌّ واحدٌ الوقوعَ فيها دون أن يعني ذلك تناقضاً فضائحياً مع أحد أكبر اعتراضاته على حقبة الاستبداد التي رفعت هذا الشعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” منذ أوائل الستينات، بل منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي.

أكثر من ذلك: بما أن الثورة السورية قد أصبحت عملياً نوعاً من حربٍ أهلية، (كذلك حرب آخرين) بين النظام المدجّج وبين قوى فالتةٍ من عقالها أمنياً تحت شعارات دينية، فإن تساهلَ بل صمت المعارضين الديموقراطيين أكانوا محافظين أم ليبراليين أم يساريين على الموجة التكفيرية الهائلة التي نشهدها على مواقع التواصل الإجتماعي، يعني تشجيعاً على مستقبلٍ أسود لسوريا أي على النحرِ العميق للمستقبل الديموقراطي لسوريا.

كل ما سبق أرَدْتُهُ تقديماً للحديث عن حملةٍ ذاتِ أذىً خاصٍ هي الحملةُ التكفيرية على أدونيس والتي تبثها مواقعُ مشبوهة الصلة ببعض تجمعات المعارضة.

تتفقْ أنتَ أو تختلفْ مع أدونيس… فالشاعر وصاحب “الثابت والمتحول” كان منسجماً مع نفسه وقضيةِ حياته الفكرية والأدبية منذ الأيامِ الأولى لإندلاعِ الأحداث السورية حين أبدى تحفّظَه العميق على الطابع الديني الأصولي لحركةٍ يُراد منها تأسيس أو إعادة التأسيس الديموقراطي لسوريا. ففي رأيه بوضوح أن حركةً كهذه لا يُمكن أن تكون ديموقراطيةً وتغييرية.

 أدونيس إذا لم يبدِ هذا الاعتراض لا يكون أدونيس.

إنه الإسم الذي أصبح، شعراً وفكراً، حاضراً في مألوفِ ثنايا وعناوين الكثير من الأعمال الأدبيّة أو الفنيّة أو الفكريّة العربيّة الـتي تريد الاعتراض على تخلّف الفكر الديني المتعصِّب وسيطرته على الحياة العربية العامة. فعلى سبيل المثال مساء السبت المنصرم كنتُ أحضر مسرحية المخرج الفاضل الجعايبي الآتية من تونس “يحي يعيش” في مسرح “دوار الشمس”، وهي المسرحية التي أخبرَتْنا حنان الحاج علي مُنظِّمةُ “مهرجان الربيع” ومديرتُه أنها مسرحية عُرِضتْ في تونس قبل ستة أشهر من سقوط نظام بن علي واعتُبِرت أحدَ إرهاصات هذا السقوط. في هذه المسرحية وَجَدْنا أن كاتبي النص جليلة بكار والفاضل الجعايبي لجآ بشكلٍ طبيعي إلى الاستشهاد بفقرة حول الدين واللغة لأدونيس من كتابه “الثابت والمتحول”. كاتبٌ بات موجوداً الى هذا الحد داخل عقل الاحتجاج العربي على الظلامية الفكرية كيف يمكن القبول باستسهال إرهابه وتكفيره؟… إنها مسألةُ حريةٍ ومسألةُ احترامٍ في آنٍ معاً.

بسبب عمق الطابع الإجتماعي للإحتقان في سوريا، ولا أعني هنا بالضرورة الإحتقان الطائفي وحدَه، بل التناقضات الإقتصادية  والمعيشية، فإن التياراتِ الأصوليةَ الحاملةَ للسلاح في ضواحي المدن المكتظّة بالريفيين، في مواجهة عنف النظام العسكري الذي عبّر وجودُهُ في السلطة تاريخياً عن ديناميكية الأرياف… هذه التيارات تُصبح أكثر تطرفا وخروجاً على مسارات التقاليد التعايشية السورية حتى داخل البيئةِ المعارضةِ نفسِها. وهذا ما يجعل الحالةَ السوريةَ في وجهها الداخلي مختلفةً جوهرياً عن المساريْن السلميّين الراسخين للتغيير في تونس ومصر.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى