مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري.. مقدمات الإخفاق
د. عبد الباسط سيدا
لن نتوقف هنا عند تفصيلات ما حدث في مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري الذي عُقد في استانبول بتاريخ 16-7-2011، خاصة ما يتصل منها بموضوع الانسحاب الكردي من المؤتمر؛ وهو الانسحاب الذي تناقلته وكالات الأنباء بصور مختلفة، وذلك بناء على تعددية وجهات النظر حوله. لن نتناول التفصيلات المعنية، لاعتقادنا بأنها في نهاية المطاف كانت مجرد انعكاسات سلبية، أو نتائج فاسدة لجملة مقدمات غير سليمة، تحكّمت بالمؤتمر، وأدت إلى ما لم نتوخّاه جميعاً، ولم نكن نريده بأي شكل من الأشكال، بل كنا قد ذهبنا إلى المؤتمر برغبة حقيقية في دعم ومساندة ثورة شعبنا السوري بكل مكوّناته، وتأكيد التضامن معه، استناداّ إلى إيماننا بأن سورية المستقبل، سورية الجديدة ستكون بكل ولكل أبنائها من جميع المكونات القومية والدينية، ومن مختلف التوجهات والجهات.
ولكن باعتبار أن الذي حصل قد حصل؛ والحكيم العاقل هو من يتعلم من أخطائه، يعيد النظر فيها، يتناولها من مختلف جوانبها، ليقف على الأسباب التي كانت وراء الخطأ، حتى يتمكّن مستقبلاً من تجاوزها؛ فتغدو الأخطاء ذاتها التي أثارت الانزعاج والإحباط قوة وخبرة، يستفيد منهما المرء في مواجهة التحديات القادمة. وانسجاماً مع ذلك، فإن حديثنا هنا سيتمحور حول المقدمات غير السليمة التي تحكّمت بمسار الأحداث في المؤتمر المعني، وأدت ليس فقط إلى انسحاب الكرد، بل إلى انسحاب آخرين، كما أدت إلى امتعاض لافت من قبل القسم الأكبر من المشاركين ، خاصة من قبل المفكرين والنشطاء الذين كانوا يعقدون آمالاً عريضة على المؤتمر، توخياً منهم بأنه سيكون مؤتمراً جامعاً لكل التوجهات الفكرية، ولكل المكونات السورية. لكن الذي حدث كان مخيباً للآمال، ومحبطاً للعزائم إلى حدٍ كبير، وذلك نتيجة للمقدمات التالية:
1. المنطق المعكوس.
وهذا المنطق هو الذي ما زال يتحكم بذهنية أوساط واسعة من المعارضة العربية السورية بتلاوينها المختلفة؛ فهذه الأخيرة تدعو – بناء على المنطق المعني- إلى تأجيل مسألة الظلم الواقع على مختلف المكوّنات السورية، لا سيما المكوّن الكردي الذي عانى – ويعاني- اضطهاداً مركباً، قومه الظلم العام الذي فرضه النظام على جميع السوريين؛ والظلم الخاص الذي يعاني منه الكرد بفعل انتمائهم القومي المغاير. ويتجسّد هذا الظلم في اضطهاد مزدوج، يتمثل من جهة في حرمان الكرد من سائر من سائر الحقوق القومية الديمقراطية المشروعة التي باتت في عالم اليوم من البدهيات؛ وتعرضهم من جهة ثانية لجملة من الإجراءات العنصرية، من حزام وإحصاء وتعريب وتهميش وإقصاء، وإهمال ونهب منظّمين لمناطقهم.
أما الحجة التي تتذرع بها الأوساط المعنية في المعارضة السورية، لتأجيل مسألة البحث في الظلم الذي تعرض- ويتعرض له- الكرد منذ حوالي خمسة عقود، فهي تتلخص في ضرورة تركيز الجهود كلها من أجل إسقاط النظام؛ وهذا منطق معكوس مردود عليه، خاصة في حال بروز جملة من النزعات القوموية والدينية التي من شأنها وضع أكثر من علامة استفهام حول المستقبل الذي ينتظر السوريين في مرحلة ما بعد سقوط النظام. هذا في حين أن المنطق الوطني السليم يستوجب طمأنة السوريين بكل مكوّناتهم، من مختلف القوميات والطوائف والمذاهب.
صحيح أن المكوّن العربي السني تحديداً يمثل الأغلبية، لكنها أغلبية ليست ساحقة كما نعرف جميعاً. فالمكوّنات القومية والدينية الأخرى تشكل أثر من 40% من نسبة السكان؛ وحتى ضمن الأغلبية العربية السنية لا يسود الاتجاه القومي إلى جانب الديني اللوحة بكاملها؛ فهناك التيارات الليبرالية واليسارية والعلمانية والوطنية السورية؛ وهذا كله مؤداه أنه ينبغي علينا جميعاً أن ننتبه ومنذ الآن إلى هذه المسألة، بعيداً عن المجاملات الخاوية، وبمنأى عن لعبة التلاعب بالألفاظ والعواطف.
شعبنا يخرج إلى الشوارع مخاطراً بكل شيء من أجل مستقبل أفضل، من أجل مشروع وطني سوري متكامل، يكون بجميع ولجميع السوريين. ومن هنا لا بد أن يعلم الجميع بأن الثورة لن تنتصر من دون تلاحم جميع السوريين، من دون إيمان جميع السوريين بأن المستقبل سيكون مشرقاً زاهراً للجميع.
السوريون يتحدون منذ أكثر من أربعة أشهر نظاماً من أسوأ الدكتاتوريات في عالمنا المعاصر؛ ويضحون بدمائهم، لا من أجل أن يستبدلوا دكتاتورية أخرى بتلك القائمة. إنهم ينشدون نظاماً وطنياً ديمقراطياً، لا يستغني عن جهد أي سوري أو سورية، فما بالك بمكوّنات بكاملها. مكوّنات أساسية شريكة في الوطن والمصير. مكوّنات لا يمكن منحها الثقة عبر جملة تأتي هنا أو هناك في سياق المنة أو التفضل.
إننا أيها الأخوة لا نلعب. نحن في ثورة شعبية وطنية سورية ترمي إلى القطع مع سلطة الاستبداد والإفساد؛ وهذا لن يتحقق من دون القطع مع ذهنية السلطة ذاتها، ومنظومتها المفهومية التي نجدها – وبكل أسف- واقعاً ممارساً لدى أوساط لا يستهان بها من المعارضة التقليدية التي لم تقتنع بعد بأن العصر قد تغير، وبأن المفاهيم قد تغيرت، والقيم قد تغيرت. لذلك نجدها – الأوساط المعنية- ما زالت تحلم بمشاريعها القديمة- الجديدة، وهذا أمر لم ولن يخدم المشروع الوطني السوري أبداً.
نحن في سورية بأمس الحاجة إلى كل المكوّنات حتى تنجح الثورة. ليس هناك في سورية من لديه المصلحة والرغبة في عزل سورية عن محيطها العربي وفضائها الإسلامي. ولكن سورية تضم مكوّنات أخرى غير عربية وغير إسلامية (مسيحية تحديداً) علينا أن نأخذ هذا الأمر في حسابنا، لأن ذلك من مصلحة سورية، ومن مصلحة العرب ومن مصلحة المسلمين.
أن يسخر الجميع طاقاتهم وعلاقاتهم من أجل مصلحة سورية الوطن الجامع بين كل أبنائها، سيكون أفضل بما لا يقاس من أن يتطلع العربي نحو الوحدة العربية، والإسلامي نحو الوحدة الإسلامية، والكردي نحو الوحدة الكردية، فهذا المشاريع الوحدوية – على الرغم من بريقها العاطفي- غير واقعية في يومنا الراهن، وذلك بناء على المعادلات الإقليمية والدولية، والتفاعلات التي يشهدها عالمنا المعاصر.
المشروع الوطني السوري هو الأساس، وبناء عليه ستكون سورية جسراً للتواصل بين شعوب المنطقة بأسرها، بين أديان المنطقة بأسرها. بفضل المشروع الوطني ستكون سورية مركز إشعاع حضاري متميز يعيد إلى شرقنا المعذب رونقه وبهاءه.
المصلحة الآنية والمستقبلية تلزمنا جميعاً بتجاوز العقد التي رسختها في العقول والنفوس عقود من الظلامية الدكتاتورية. لقد آن الأوان للسوري العربي والكردي والسرياني والأرمني والتركماني والشركسي والجاجاني…آن الأوان للسني والعلوي والشيعي والدرزي والاسماعيلي واليزيدي… آن الأوان للمسيحي الكاتوليكي والبروتستانتي والأرثوذكسي… آن الأوان لهذه المكونات السورية الوطنية العزيزة جميعها أن تعتز بوطنيتها السورية التي تحترم خصوصياتها، تحترم حقوقها، من دون أية وصاية أو تباهي. ولهذا لا بد أن نغيّر اللغة، نغيّر النهج والأسلوب. علينا منذ الآن أن نتحرر من مختلف العقد الضيقة النطاق والأفق؛ وإلاّ فإننا سنسيء إلى دماء شهدائنا، إلى تضحيات وبطولات شعبنا الأبي.
وبالعودة إلى مؤتمر الإنقاذ موضوع البحث، نرى أنه كان واضحاً منذ البداية وجود نزعة تهميشية للمكونات الأخرى، الأمر الذي أثار أكثر من تساؤل. الوجود المسيحي – على أهميته- كان شبه معدوم؛ الطوائف الأخرى لم تكن موجودة. أما بالنسبة إلى المكوّن الكردي، وهو المكوّن القومي الأساسي في سورية بعد المكوّن العربي فقد خضع لعملية تهميش واضحة بكل المقاييس، وذلك لأسباب تتصل في المقام الأول بالمنطق المعكوس الذي تناولناه؛ ولكن ربما هناك أسباب أخرى – نجهل تفصيلاتها راهناً- قد تتصل برغبة تركية في تحجيم العامل الكردي في سوري بناء على حسابات خاصة، وهي حسابات نستشفها من خلال اللهجة التركية المتحولة إزاء النظام في سورية، والرغبة في إيجاد حل وسط على قاعدة إجراء الإصلاحات “الجادة” مع الإبقاء على الطابع العام للنظام؛ وهذا أمر يتناقض بالمطلق مع ما يعمل السوريون بكل مكوّناتهم من أجل تحقيقه. فالسوريون يريدون باختصار شديد، ووضوح لا لبس عليه: إسقاط النظام الأمني القمعي الإفسادي الذي لم يعد إصلاحه ممكناً، ولم يعد بينه وبينهم سوى الاتفاق على آلية وتوقيت الرحيل.
2. عدم وجود مؤسسة بحثية وطنية مختصة بالثورة.
وهي المؤسسة التي كان من شأنها أن تكون مقدمة لهكذا مؤتمرات؛ وما نعنيه بذلك هو أن الدعوة إلى المؤتمرات التي كانت حتى الآن أتت على عجالة، ومن دون أية توافقات أساسية حول المسائل الرئيسة التي ستطرح، وهي توافقات لا يمكن الوصول إليها من دون مناقشة جادة في العمق بين ممثلين حقيقيين لسائر المكوّنات السورية ممن يمتلكون الأدوات المعرفية والخبرات الكافية، إلى جانب المصداقية؛ يجمعهم الإيمان والالتزام بالمشروع الوطني السوري. يلتقي هؤلاء في إطار ورشة عمل محدودة العدد لمناقشة الشأن السوري الوطني العام بكل أبعاده، بعيداً عن أية نزعات وصاية أو تسلّط، ويكون الهدف هو الوصول إلى مسودة مشروع عقد وطني جديد، يجمع بين كل السوريين الأحرار بكل انتماءاتهم على قاعدة المحافظة على وحدة الوطن واحترام الخصوصيات. بعد ذلك تأتي الدعوة إلى مؤتمر عام يُشارك فيه السوريون من مختلف الانتماءات وفق قواعد عدالة التمثيل، ومراعاة الكفاءة والقدرة والتاريخ النضالي، مؤتمر يقر مشروع العقد الوطني، ويحدد آليات وطرق التحرك.
أما أن تُفتح الأبواب على مصا ريعها لإدخال أكبر عدد ممكن، خاصة من المتسلقين الذين يعرفون دائما من أين تُؤكل الكتف؛ أو حتى من قبل بعض المقربين من النظام، أو ربما عيونه؛ والاكتفاء في المقابل بتمثيل تزيني تجميلي لهذا المكوّن أو ذلك، والتحكم بآلية توزيع الأدوار، وإبراز شخص هنا وتهميش آخر هناك، وذلك بناء على حسابات رغبوية انتهازية سئمها السوريون، أو نزوع توريثي أنهكنا جميعاً؛ إن كل ذلك لم ولن يؤدي إلى إنجاح أي مؤتمر وطني سوري في الخارج، بل سيؤدي من دون شك إلى ترسيخ انعكاسات سلبية على الثورة في الداخل، كما سيؤدي إلى بروز خلافات تستطيع السلطة استغلالها بكل سهولة ويسر، خاصة وهي التي كانت دائما تعتمد سياسة إثارة الخلافات بين السوريين على كل المستويات.
الأحداث تتلاحق بسرعة غير عادية، وشعبنا مستمر في استبساله المنقطع النظير على الرغم من القمع الهائل الذي يتعرض له، لذلك يقع علينا جميعاً واجب تدارك الأمور قبل أن تصل إلى المرحلة المستعصية؛ لابد من لقاء وطني سوري مؤسساتي بين أصحاب الخبرة والكفاءة من سائر المكونات، وذلك بغية التحضير للمرحلة القادمة بمشروع وطني سوري ناضج متكامل، مشروع يثبت للعالم أجمع بأن السوريين يمتلكون الإمكانية الكاملة لتقديم البديل الوطني الديمقراطي التعددي الذي يكون بكل ولكل السوريين.
3. غياب المرجعية الكردية.
وهذه حقيقة مُرّة مؤلمة، ينبغي أن يعترف بها الكرد ، ويعملوا من أجل معالجته، وإلا ستكون نتائج المؤتمرات القادمة أسوأ بالنسبة إليهم. فالصف الكردي في الخارج يعاني من تفكك لا يمكن تسويغه بين مختلف الأحزاب بخلافاتها ومشكلاتها؛ وبين الناشطين المستقلين من ذوي الكفاءات. وفي ظل غياب المرجعية الكردية تبقى المبادرات الفردية هي السائدة كردياً في الميدان؛ وهي مبادرات يفتقر القسم الأكبر من القائمين بها إلى القدرات الكافية، التي تمكّنهم من معالجة الأمور، وذلك بفعل حذر أو تردد أو إقصاء أصحاب الكفاءات الفعلية الذين لا يشاركون في المؤتمرات السورية العامة، أو لا يُفسح لهم مجال المشاركة؛ فيذهب الكرد إلى هكذا مؤتمرات فرادى، من دون برنامج واضح. لا يعملون بروحية فريق عمل متكامل، تغلب الارتجالية على تصرفاتهم؛ بل أن بعضهم يسعى بكل السبل من أجل تسجيل موقف ذاتي لغايات تخصه من دون أن يفكر بعواقب ممارساته ومواقفه على المستويين الكردي الخاص والسوري العام؛ وما حصل في مؤتمر الإنقاذ المشار إليه يمثل صورة نموذجية لوضعية المأساة التي يعاني منها الموقف الكردي في الخارج.
إن تلافي هذا الموضوع يتم بتحرك مدروس سريع جاد – يمتلك الكرد مستلزماته كلها في حال توفر الإرادة- من أجل الوصول إلى تمثيل كردي حقيقي في الخارج، تمثيل يشمل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والناشطين المستقلين من أصحاب الكفاءات والقدرات، وهؤلاء عددهم كبير، وإمكانياتهم هائلة؛ لكن الذي يحصل هو أننا لا نستفيد من هذه الطاقات نتيجة غياب الإطار الذي من شأنه الجمع بينها بأسلوب مؤسساتي منظم، فينعزل كل واحد في صومعته، يتفاعل مع الأحداث عن بعد عبر مقال هنا أو مقابلة هناك، من دون أن تتحول الجهود إلى حالة فاعلة على الأرض. ومن الطبيعي أن يدخل في وضع كهذا بعض الجهلة والباحثين عن الشهرة والانتهازيين على الخط، فيختلط الحابل بالنابل، وتتعمق المأساة.
هذه هي المقدمات الخاطئة التي أدت – بكل أسف- إلى حصول الانسحاب الكردي الذي أُعلن عنه في مؤتمر الإنقاذ الوطني في استانبول؛ وكل ما عدا ذلك عبارة عن تفصيلات وتأويلات وتفسيرات، قد تتقاطع بهذه الصورة أو تلك مع الحقيقة.
وحتى لا يتكرر الموضوع ثانية، علينا أن نتعلم من أخطائنا، ونعيد النظر في حساباتنا، ونعمل من أجل تصحيح المقدمات لتكون النتائج سليمة والقياس صحيحاً منتجاً. إنها مسؤولية تقع على عاتقنا جميعاً، وهي مسؤولية تتناسب مع حجم التحديات التي يواجهها شعبنا، وتتناسب مع حجم التضحيات التي قدمها ويقدمها شعبنا بسخاء غير مسبوق؛ وهي مسؤولية لن تنجز بمعزلٍ عن العمل الجاد الذي يقطع مع النزعة التسويغية اللوّامة، هذه النزعة التي تكتفي بتوجيه الاتهامات، وتسويق التوصيفات من دون أي فعل مادي على الأرض.
الرحمة لشهدائنا. العزيمة لشعبنا. وعاشت سورية عزيزة بربيعها الديموغرافي الجميل.
د. عبد الباسط سيدا