صفحات سوريةهوشنك بروكا

مؤتمر الدوحة: ما الطريق إلى “سوريا إنتقالية”؟


هوشنك بروكا

على خلفية “لقاء عمّان التشاوري” الذي دعا إليه مهندس “المبادرة الوطنية السورية”، النائب السوري السابق، والعضو في الهيئة التنفيذية ل”المجلس الوطني السوري” رياض سيف، تجري هذه الأيام في الدوحة، لقاءات “تشاورية” مكثفة بين مختلف أطياف وتيارات وجماعات المعارضات السورية، في الداخل والخارج، بهدف إنشاء “فريق قيادة جديد” لمعارضة سورية جديدة، مكوّن من 50 شخصية وطنية “توافقية”، لنيل اعتراف أكثر من 100 دولة بهذه المعارضة بإعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد” للشعب السوري، للعبور من ثمّ إلى “حكومة انتقالية” تحظى بإعتراف دولي كبير، بحسب تصريحاتٍ أدلى بها سيف نفسه لأكثر من وسيلة إعلام عربية ودولية.

يأتي مؤتمر الدوحة (العاصمة الأكثر جذباً للمعارضين السوريين، والأكثر شهرةً في صناعة معارضات دول “الربيع العربي”)، الأكبر للمعارضة السورية، منذ اشتعال الأزمة السورية قبل حوالي 20 شهراً، والذي ستبدأ أعماله غداً الخميس، أي بعد ظهور نتائج إنتخابات الإستحقاق الرئاسي الأميريكية وفوز بارك أوباما بولاية ٍ ثانية، بيومٍ واحد فقط، يأتي المؤتمر عقب تصريحات أدلت بها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، أعربت خلالها لأول مرّة عن تحفظات واشنطن إزاء “المجلس الوطني السوري”، الذي قالت إنه لم يعد يمثل كل المعارضة، وحان الوقت ل”تجاوزه”. إعلان “شهادة الوفاة” الأمريكية هذه، بحق “المجلس الوطني السوري”، دفع البعض من القائمين على فوق هذا الأخير، وعلى رأسهم رئيسه د. عبدالباسط سيدا، إلى اعتبار ذلك “أمراً مؤسفاً” و”تدخلاً” في شئون المعارضة السورية.

لكن، لماذا حان الآن وقت تجاوز “المجلس الوطني السوري”، وكتابة “شهادة وفاته” في الدوحة، التي قدّمت لهذا الأخير، حتى الآن، وبحسب تقريرٍ ماليّ للمجلس نفسه 15 مليون دولار من أصل 40.4 مليون دولار؟

لماذا الحاجة الآن، وفي الدوحة، وبعد الإنتخابات الأميركية بيومين فقط، إلى “تنظيم جديد” يضم كافة أطياف وتيارات المعارضات السورية، للإعتراف به ك”ممثل شرعي ووحيد للشعب السوري”؟

ما سرّ تحوّل قبلة المعارضين السوريين، الآن، بعد مرور 20 شهراً على نزيف الدم السوري، من إستانبول وأخواتها إلى الدوحة وأخواتها؟

هل سيكون “مؤتمر الدوحة” تمهيداً ل”طائف سوري”، على طريقة “الطائف اللبناني”، أم أنه الطريق إلى “جنيف”، أيّ الطريق إلى “التفاوض” بين كلّ الأطراف في كلّ سوريا، بموالاتها ومعارضاتها، وما حولهما من “أعداء” و”أصدقاء”، والجلوس على طاولةٍ واحدة؟

عشرون شهراً من الدم والدم المضاد مضى على الصراع في سوريا وعليها، والذي تحوّل إلى حربٍ أهلية حقيقية، ولا يزال النظام الذي أراد له الشعب السوري أن يسقط، متماسكاً وقوياً، على العكس من توقعات أهل المعارضة وبعضاً من أصدقائهم الذين بشّروا منذ الأشهر الأولى من الإنتفاضة، ب”سقوطه العاجل”.

قوة النظام بالطبع، تكمن بالدرجة الأساس في قوة مواقف حلفائه الروس والصينيين والإيرانيين، الذين لا يزالون مصرّين على دعم النظام السوري، كحليف استراتيجي، في معركته ضد “الإرهاب”، على حدّ وصفهم، حتى النهاية.

الوضع في سوريا على الأرض، وصل بعد تقدّم “الجيش السوري الحرّ” ودعمه وإن بشكلٍ محدود، من قبل أطراف ودول عربية وإقليمية، إلى حالة ما يمكن تسميتها ب”توازن الرعب” أو “توزان “الترهيب”، وهو الأمر الذي يعني إطالة أمد الصراع، ورفع فاتورة الدم السوري، ودفع البلاد نحو المزيد الحرب الأهلية، والعنف والعنف المضاد.

أما ما زاد من طين هذا الصراع الدموي بلّةً، فهو دخول جماعات إسلامية متطرفة، ك”جبهة النصرة” القاعدية السلوك والميل والإتجاه، على خط الثوار، في محاولةٍ منها لقطف ثمار الثورة السورية، وخطفها من أيدي أهلها الحقيقيين. هذا الدخول “الطائفي المتشدد” على خط الثورة السورية، بالإضافة إلى تمظهر “الجيش السوري الحرّ”، من خلال تشكيلات الكثير من كتائبه، وشعاراته، وتصرفاته، بمظهر طائفي، لكأنه “الجيش السنيّ المؤمن” المدافع عن “أهل الجماعة والسنة” ضد “جيش النظام العلوي الكافر”، أثار تخوفات وقلق الكثير من الدول الصديقة لسوريا، وعلى رأسها أميركا والدول الأوروبية. ولعل أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت بأميركا إلى ضرورة تجاوز “المجلس الوطني السوري”، وسحب الثقة منه، هو فشله في أن يتحوّل إلى مظلةٍ جامعة لكلّ المعارضة السورية، وتحوّله من مجلس فاعل لكلّ السوريين، إلى “مجلسٍ مفعول به” لجماعة الإخوان المسلمين السورية.

أميركا وحلفاؤها من الدول الأوروبية باتوا يخشون بالفعل من فرط العقد السوري، وتحوّل سوريا، جارة إسرائيل الشمالية شرقاً، والتي لم تجمعهما حتى الآن أية معاهدات سلام، بفعل “توزان الرعب” الحاصل وتداعياته الكارثية المحتملة، إلى “أفغانستان أخرى”، كما هدد الرئيس السوري بشار الأسد، ذات تصريحٍ، العالم من مغبة اللعب ب”الفالق” السوري.

ذات الخوف من سقوط سوريا في “الأفغنة” أو “الصوملة”، عبر عنه المبعوث الأممي العربي المشترك، الأخضر الإبراهيمي في مقابلته أمس مع صحيفة الحياة اللندنية.

الإبراهيمي، حّذر في حديثه للحياة، أكثر من مرّة، كلّ أطراف الأزمة في سوريا وخارجها من مغبة تحوّل سوريا إلى صومال أو أفغانستان أو مالي، لأن ما يجري على الأرض هو “كارثة عظمى” و”حرب أهلية”، حسب تعبيره.

الأرجح هو أنّ الأميركيين والأوروبيين أخذوا العبرة من إسلاميي دول “الربيع العربي” وعلى رأسها ليبيا، التي تحوّلت عاصمة ثورتها بنغازي، أواسط أيلول سبتمبر الماضي، إلى مقتلة للسفير الأميركي وعددٍ من موظفي السفارة، ولا يريدون الآن تكرار التجربة ذاتها مع الإسلاميين المتشددين ذواتهم في سوريا.

الخوف من تحوّل سوريا العدوّة لإسرائيل إلى “ليبيا أخرى” أو سقوطها في قبضة الجماعات الإسلامية المتشددة، بات هاجساً يقض مضاجع أهل القرار من الأميركيين والأوروبيين، الأمر الذي قد يفسّر بعضاً من أسباب تجنبهم، حتى الآن، لأي تدخل عسكري مباشر في سوريا.

سوريا بحسب الكثير من المراقبين ليست سوى “ورقة تفاوضية” بين اللاعبين الكبار، وعلى رأسهم أميركا وروسيا، يمكن اللعب عليها وبها في أقرب “بازار دولي” ممكن.

الأميركيون ومن خلفهم الأوروبيون، أجّلوا الثورة السورية، ليس لأن الروس والصينيون ومن خلفهم الإيرانيون أجلوها حتى “فيتو آخر”، وإنما لأنهم أنفسهم، كانوا ولا يزالون، مقتنعين، كما تقتضي مصالحهم، بأنّ سوريا ليست ك”ليبيا”، وأنّ أي تدخل عسكري في سوريا، سيكون بمثابة سقوطٍ آخر في “عراقٍ آخر”. هذا ناهيك عن حساسية الأزمة السورية وتداعياتها بالنسبة لإسرائيل، التي طالما وصفت نظام الأسد بأنه “عدوها الأكثر إعتدالاً”.

ربما سنشهد موقفاً أميركياً أكثر حزماً بعد الإستحقاق الرئاسي الذي انتهى إلى فوز أوباما بولاية ثانية، لكنّه لن يصل إلى حدّ المواجهة المباشرة مع الفيتو الروسي، باستخدام التدخل العسكري المباشر لحل الأزمة السورية. الحلّ الأرجح الذي ستدعمه أميركا تحت قيادة أوباما، مع حلفائها الأوروبيين، هو الحل السياسي، عبر الضغط على كلّ الأطراف للجلوس إلى طاولة الحوار.

الكلّ، “أصدقاء” و”أعداء”، حيث لا مؤشرات حتى الآن على أيّ تغيّر جوهري على مواقفهم من الأزمة السورية، باتوا يدركون إزاء “توزان مرعب”، كالذي هو حاصل بين النظام السوري والمعارضة المسلحة، بأنّ لا مناص من التفاوض على ما تبقى من سوريا، لا سيما وأنّ لا مؤشرات حقيقية من أرض المعركة، على سقوطٍ قريبٍ للنظام، أو صعودٍ قريبٍ للمعارضة.

كلّ طرف من هذين الطرفين المتنازعين يسعى إلى تعزيز حضوره في الميدان لتحقيق المزيد من “توزان الرعب” ضد الطرف الآخر، و”معركة حلب” بين جيشي الطرفين “النظامي” و”الحر”، التي بدأت في ال20 من تموز يوليو الماضي، وبقيت رغم تسميتها ب”الحاسمة”، من دون حسم حتى الآن، هي خير مثال على ذلك.

الكلّ بات يخاف من الحرب الأهلية الحامية الوطيس في سوريا، التي لن تكون على الجيران برداً وسلاماً، الأمر الذي سيدفع بالجميع إلى البحث عن “حلول سياسية” ترضي الجميع، بديلاً عن الحلول العسكرية، التي لن تؤدي إلا إلى خسارة الجميع مع الجميع.

الكلّ، بمن فيهم بعضٌ غير قليل من أهل السياسة في المعارضات السورية، رغم إصرارهم على مبدأ “اللاتفاوض” مع النظام إلا بعد رحيله، توصلّ إلى قناعةٍ شبه تامّة، بأنّ وقت جلوس سوريا مع سوريا، كلّ سوريا، بموالاتها ومعارضاتها، وفقاً ل”خطة جنيف”، على طاولة واحدة، قد حان.

الكلّ بات مقتنعاً، بأنّ الوضع في سوريا لم يعد يحتمل المزيد من التأجيل والتسويف، أو المزيد السقوط في “الصوملة” أو “الأفغنة”، طالما أنه يؤدي يومياً إلى المزيد من خسارة سوريا لسوريا، والسوريين للسوريين.

“مؤتمر الدوحة”، قد يكون محاولة عربية مدعومة أميركياً وأوروبياً، في الطريق إلى “جنيف”، لإحداث فتحة في جدار الأزمة السورية.

أميركا ومن خلفها الأوروبيون أدركوا أن وقت سحب البساط من تحت أقدام تركيا التي فشلت فشلاً ذريعاً في صناعة معارضة حقيقية في مواجهة النظام، قد حان.

هؤلاء أدركوا، أنّ أهل مكة أدرى بشعابها، وأنّ عرب الدوحة أدرى من استانبول بشعاب دمشق(ها).

 كلّ المؤشرات الإقليمية والدولية بخصوص الأزمة السورية تشير إلى أنّ الطريق إلى أية مفاوضاتٍ تجلس فيها سوريا إلى سوريا على طاولةٍ واحدة، لا بدّ أن يمرّ من “جنيف”. ربما انطلاقاً من هذه “القناعة الأممية”، يمكننا تفسير “قناعة” المبعوث الدولي والعربي المشترك الأخضر الإبراهيمي، حين صرّح عقب محادثاتٍ أجراها مع وزير الخارجية الروسي سرغيي لافروف والأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، قائلاً: “يزداد قناعتي يوما بعد يوم أن الحل يكمن في إعلان جنيف، وعلى أعضاء مجلس الأمن أن يتفقوا فيما بينهم على ترجمة اتفاق جنيف في قرار لمجلس الأمن الدولي بحيث يتحول إلى حل سياسي للأزمة.”

خلال حديثه ل”الحياة”، أكد الإبراهيمي مع محاوره على هذه القناعة مجدداً، حيث تكررت مفردة “جنيف” في نص الحوار 17 مرّة.

هذه “القناعة الإبراهيمية” ب”إعلان جنيف” تتقاطع إلى حدٍّ كبير مع قناعة الروس، التي عبرّ عنها لافروف، عقب مباحثاته مع العربي والإبراهيمي بقوله: “علينا الآن تحديد الأولويات فإذا كانت الأولوية حماية الأبرياء يتعين العمل مع كافة الأطراف المعنية بالأزمة السورية لإقناع وإجبار كافة الأطراف السورية لوقف إطلاق النار والجلوس إلى مائدة المفاوضات وفق إعلان جنيف الذي صدر في حزيران يونيو الماضي”.

الواضح من التأكيد الروسي الدائم على لسان وزير خارجيتها لافروف، على أنّ “روسيا لا تحمي النظام وإنما تحمي الشعب السوري والقانون الدولي”، هو أنّ الروس مستعدون للتفاوض في أية لحظة مع الأميركيين والأوروبيين على رحيل الأسد مقابل بقاء روسيا في سوريا.

ومن هنا تحديداً، تأتي أهمية حديث الروس هذه الأيام مجدداً عن إحياء “إعلان جنيف”، وذلك عبر “إجبار كافة الأطراف بالجلوس إلى مائدة المفاوضات والتفكير بالمرحلة الإنتقالية”. لافروف أكدّ في كل مباحثاته التي أجراها مع المسؤولين العرب، بمن فيهم بعض من أهل المعارضة السورية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء السوري المنشق رياض حجاب، خلال جولته الأخيرة إلى الشرق الأوسط، على أنّ التزام كلّ الأطراف ب”إعلان جنيف”، هو الحل الأمثل للخروج من الأزمة السورية.

 إقليمياً ودولياً، يكاد يكون هناك شبه إجماع على أنّ السياسة لا تزال تشكّل الحلّ الأمثل للخروج من حمّام الدم السوري.

الكلّ، “اصدقاء” و”أعداء”، باتوا مقتنعين أنّ أيّ “عبور سياسي” إلى دمشق، الآن، لتتفاوض فيها سوريا مع سوريا، أو يجلس فيها السوريون مع السوريين، لا بدّ أن يمرّ من “جنيف”، ليس ل”جود” أو “إمتياز” إعلانها بالنسبة للسوريين، وإنما لأن “إعلان جنيف”، بإعتباره إعلاناً اجتمع تحت سقفه الجميع، هو أفضل ما هو موجودٌ على طاولة العالم.

“إعلان جنيف” نصّ على ضرورة جلوس كلّ الأطراف للعبور إلى “مرحلة إنتقالية” (البعض فسرها بدون الأسد، أما آخرون ففسروها مع الأسد) تحت إشراف أممي. و”مؤتمر الدوحة” يهدف في المنتهى إلى ضرورة تشكيل “حكومة إنتقالية”.

إذن، مشروع العبور إلى “سوريا إنتقالية”، بات هدفاً ينشده الجميع، من الدوحة إلى جنيف، لكن السؤال هو كيف؟

كيف السبيل إلى “سوريا إنتقالية”؟

بين “الدوحة” و”جنيف”، يفصلنا يومٌ واحد، لتقول المعارضات السورية كلمتها في سوريتها، وما هو الطريق إليها: أية “سوريا إنتقالية”، مع من، ومن دون من، وتحت إشراف من، تريدها؟

هل ستريد سوريا تجلس إلى سوريا، حيث كل الطرق تؤدي من “الدوحة” إلى “جنيف”، أم سوريا تقاتل سوريا، حيث كلّ الطرق تؤدي إلى “الصومال” وأتون الحرب الأهلية؟

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى