مؤتمر جنيف 2 وسؤال الجدوى: أكرم البني
أكرم البني
“لا جدوى، ولا أمل يرجى من جنيف 2” هي عبارة تسمعها من غالبية السوريين وقد توصلوا من منطلقات متعددة إلى نتيجة واحدة، هي عجز أي مبادرة أو مؤتمر دولي عن إخراج البلاد مما هي فيه.
ببساطة إن نجاح أي مؤتمر يسعى لوقف العنف ونقل الصراع السوري إلى مسار سياسي، يتطلب واحدا من خيارين، إما اقتناع الأطراف الداخلية، وخاصة النظام الحاكم، باستحالة الحسم العسكري ووصوله إلى درجة من الضعف والإنهاك تجبره على اختيار طريق التسويات السياسية. وإما، في حال تعذر ذلك، أن تتكفل قوى خارجية، بإكراهه على اتباع هذا الطريق، عبر استخدام مختلف الضغوط، الدبلوماسية والاقتصادية ومن دون استبعاد القوة العسكرية أو التلويح بها.
وإلى اليوم، ليس ثمة فرصة لتقدم أحد هذين الخيارين، فالنظام السوري ليس بوارد التراجع خطوة واحدة عن خياره الأمني والعسكري، بل يتضح للعيان بأنه مصمم على تجريب مختلف وسائل الفتك التي يمتلكها كسبيل وحيد للحفاظ على سلطته وسحق ما يعتبره مجموعات إرهابية مرتبطة بأجندة خارجية.
فكيف الحال وهو خير من يدرك مخاطر السير في طريق السياسة، ليس فقط بسبب بنيته المعجونة بمنطق القهر والغلبة والعصية على تقديم أي تنازل سياسي جوهري، وليس بسبب ما يعرف عن عدم وفائه بوعوده الإصلاحية والتزاماته، أو لإدراك بعض رجالاته بأنهم وصلوا إلى نقطة اللاعودة، وأنهم بعدما ارتكبوه يخوضون معركة حياة أو موت هرباً من المحاسبة والعقاب، بل لأن القطيعة بينه وبين الشعب وصلت إلى حد يصعب وصلها، ولأن القمع العنيف وأعداد الضحايا والمشردين وشيوع الدمار في كل مكان أفقده القدرة على إعادة إنتاج حد أدنى من الشرعية والقبول السياسي.
والأهم من ذلك أنه يدرك أن وقف العنف ودخول ميدان التسويات سوف يفقده ما تبقى من مظاهر قوته وهيبته، ويضعه في موقع لا يحسد عليه أمام مناصريه وحلفائه، وهو الذي ما فتئ يتحدث عن الثورة والمعارضة كعصابات متآمرة على البلاد، ولا تقلل من قيمة هذه الحقيقة، الدعاية الرسمية بأن الأزمة انتهت، ولا محاولات السلطة تضخيم بعض نجاحاتها العسكرية للظهور بمظهر المنتصر على ركام الخراب الكبير الذي يحصل، كأنها تريد في الحقيقة إقناع نفسها قبل إقناع الآخرين بنجاعة الحل الأمني والعسكري، وبأنها لم ترضخ للضغوط بل وافقت على مؤتمر جنيف 2 من موقع القوي وليس من الموقع الضعيف.
ويبقى الغرض المباشر من موافقة السلطة على المشاركة بمؤتمر جنيف 2 هو تسجيل موقف إعلامي يقيها ضغط الأصدقاء ويخفف من ردود الأفعال العالمية والعربية على عنفها المفرط، بينما النوايا المبيتة هي تسخير ما تمتلكه من خبرات لإفشال المؤتمر وإجهاض دوره بإغراقه بالتفاصيل والاشتراطات.
وآخر اشتراط إخضاع نتائج المؤتمر للاستفتاء الشعبي! والغرض كسب المزيد من الوقت واستثمار مناخ التحضير للمؤتمر تتوغل أكثر فأكثر في القمع والعنف، عساها تفرض مكانة جديدة تؤهلها وحلفاءها لرفض اشتراطات المعارضة و”أصدقاء الشعب السوري” وتحديداً حول صلاحيات الحكومة الانتقالية واستمرار الرئيس حتى الانتخابات العام القادم وفي الطريق إظهار أنها من يمتلك زمام المبادرة العسكرية أمام معارضة عاجزة عن إحداث تبدل نوعي في موازين القوى، والرهان على ذلك في إرباك المواقف والاصطفافات العربية والدولية.
واستدراكاً، طالما تتوهم السلطة بأن خيارها الأمني والعسكري لا يزال مجدياً، فلا قيمة عندها لأية مؤتمرات دولية أو مبادرات سياسية، وما يعزز ذلك أنها تستند إلى اطمئنان مزدوج، من الحلفاء والأعداء على حد سواء.
فمن جهة، هي مطمئنة بأن مصالح أصدقائها في الحفاظ على بقائها في الحكم قوية إلى درجة لن تفضي بأي حال إلى تركها وحيدة لمصيرها، وتبدو مواقف إيران وأنصارها في لبنان والعراق واضحة بما يكفي لتجعل النظام السوري متيقناً بأنه ضرب من المحال التفريط به أو بموقعه، بصفته حلقة نوعية مما يسمى محور الممانعة والمقاومة، والتي يفتح كسرها الباب أمام انهيارات متسارعة في وزن هذا المحور ودوره الإقليمي.
وعليه، من البديهي أن تذهب طهران إلى آخر الشوط وتدفع موقفها إلى النهاية في دعم النظام وتمكينه من رفض التنازلات والالتفاف على الضغوط، حتى لو اضطرت لخوض حرب مساندة له، وهو ما عبرت عنه تصريحات عديدة لمسؤولين سياسيين إيرانيين وقادة في الحرس الثوري، وبدأ يتجلى عملياً في مشاركة قوات عسكرية لحزب الله اللبناني ومعها بعض المليشيا العراقية والإيرانية في المعارك الدائرة في غير مكان على الأرض السورية.
أما روسيا التي تمثلت جيداً درس ليبيا فتخوض في دفاعها عن السلطة السورية غمار صراع مع الغرب بأمل تحسين أوراقها التفاوضية ومشاركته النفوذ في المشرق العربي، ما يجعلها متحسبة من الغرق في الملف السوري وأقرب إلى البحث عن توافق دولي أو مخرج سياسي، وما يزيد الأمر تعقيداً، أنها باتت تدرك بأن تأثيرها على النظام السوري ينحسر طرداً مع رجحان كفة اتكائه على إيران، الأمر الذي يفسر اضطراب دعمها السياسي والعسكري وحرصها في الوقت ذاته على ألا تتجاوز ضغوطها السقف الذي يفقدها التحكم بخيوط اللعبة.
من جهة ثانية تبدو السلطة مطمئنة إلى عطالة المجتمع الدولي الذي لا يزال منقسماً ومحجماً عن التعاطي الجدي مع الصراع السوري كما كان الحال في ليبيا واليمن، وربما تدرك أن السياسات الغربية لا تريد إغلاق الجرح السوري لغاية في نفس يعقوب، وأن أقصى ما تقدمه معونات لتلطيف حياة اللاجئين والمتضررين وإدانات بمختلف اللغات لا تتجاوز برودة الكلمات، أحياناً من باب رفع العتب، وأحياناً لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن مشاهد مروعة لا تحتمل، وأحياناً كي لا يذكر التاريخ أن الانسانية لاذت بالصمت بينما آلة الموت والدمار تعمل بأقصى طاقتها.
والحقيقة لم يشهد التاريخ بؤرة صراع دموي أهملت من قبل المجتمع الدولي وعرفت هذا الاستهتار المخزي بالأرواح التي تزهق كما الحالة السورية، والأنكى حين ترعى ما يحصل ثورة الاتصالات ولغة الصورة التي تصل إلى كل بيت وتكشف للبشرية ما يعجز اللسان عن كشفه وقوله، فإلى متى تبقى سوريا أسيرة هذا المصير المرعب، وإلى متى يبدو العالم، عرباً وعجماً، كأنه بحكوماته وشعوبه يتعيش على أنات الضحايا والمعذبين؟!
وإذ نعترف بأن المجتمع الدولي يستطيع إن أراد وبما يملكه من قوة ونفوذ فرض حل ينهي العنف، نعترف أيضاً بصعوبة أن يجد مؤتمر جنيف 2طريقه نحو التنفيذ وربما نحو الانعقاد، لصعوبة حصول توافق دولي جدي ينعكس بإرادة أممية حازمة تتطلع فعلاً لإخماد هذه البؤرة من التوتر، ونعترف تالياً بأن ما يذلل هذه الصعوبة هو حضور موقف أميركي حاسم، تمثلاً بما حصل في تجارب مقاربة، وربطاً بما تملكه الولايات المتحدة، من قوة نافذة تضعها في موقع اللاعب الأول وأحياناً المقرر لمصير الكثير من الصراعات الوطنية والأزمات الإقليمية.
لكن إلى اليوم لا يبدو أن الوقت قد حان لتقول واشنطن كلمتها في الشأن السوري، ولا تزال تحبذ ترك مفتاح الحل بيد موسكو، وهو ما كشفت عنه سياستها لأكثر من عامين وأكدته أخيراً تنازلات وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال لقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف بتحييد الوزارات السيادية في مباحثات جنيف.
وقبل ذلك زيف التهديدات الأميركية بعقاب رادع لكل مرتكب في حال تكرار المجازر، أو تحذيراتها بتغيير قواعد اللعبة عندما يثبت “بالدليل القاطع” استخدام السلاح الكيميائي، فضلاً عن مراوغتها وتهربها، تحت ذرائع شتى، من تقديم دعم جدي للمعارضة السورية، كالتحجج بتفكك العمل المعارض وتشتت مكوناته العسكرية والسياسية وكأولوية العمل من خلال مؤسسات المجتمع الدولي، واحترام خططها ومبادراتها.
وعليه، لم يعد يقنع أحدا القول بأن واشنطن لا تملك رؤية واضحة في التعاطي مع الحدث السوري، مثلما لم يعد مقبولاً تبرير تردد السياسة الأميركية وتناقض مواقفها من تفاقم الصراع السوري بذريعة موقع هذا البلد وطابع تحالفاته والتحسب من ردود فعل أطراف المحور الإيراني الداعمة للنظام، ومن حجم التكلفة في بلد لا يمتلك موارد للتعويض، أو لأنها خير من يتفهم هموم الكيان الصهيوني وخشيته من وصول سلطة جديدة إلى الحكم في سوريا تهدد أمنه واستقرار المنطقة.
كذلك لأن الدور الأميركي فقد الكثير من حيويته بسبب ما عاناه في العراق وأفغانستان وبسبب تفاقم أزمته الاقتصادية والتفاته لمشكلاته الداخلية، إذ ثمة في الحقيقة مصالح متضافرة وراء ما يصح تسميته بنهج خاص للسياسة الأميركية في التعاطي مع الحالة السورية يتقصد إطلاق مواقف مبهمة وغير جدية ودعماً لفظياً للثورة والتغيير، لا يسمن ولا يغني من جوع، لتمرير هدف مضمر وهو ترك الصراع مفتوحاً وتغذية استمراره من دون أن يصل إلى لحظة الحسم.
هي فرصة لن تفوتها القيادة الأميركية في استثمار الساحة السورية لاستنزاف خصومها وإضعافهم، كروسيا وإيران، وقد بدأتا بالفعل الغرق في المستنقع السوري، ويبدو في حساباتها أن مد زمن الصراع، ربما حتى آخر سوري، يفضي الى إنهاكهما مادياً وسياسياً وتشويه سمعتهما أمام الشعوب العربية على حساب تحسين صورتها، وفي الطريق الإفادة من الصراع المحتدم لتصفية الحساب مع تنظيم القاعدة وأشقائه من الجماعات الجهادية التي بدأت تتسلل إلى بلاد الشام لنصرة أهلها.
وما يزيد الطين بلة أن يتقاطع هذا الهدف، وللأسف، مع رغبة دفينة عند بعض القادة العرب بأن تكون الثورة السورية المحطة الأخيرة لقطار الربيع العربي وتغدو أشبه بمحنة تلقن الشعوب العربية درساً بليغاً عن الثمن الفادح الذي يتوجب دفعه لقاء مطالبتها بالتغيير والحرية والكرامة.
والحال، فإن الوقت لن يتأخر حتى تصل الدعوة لمؤتمر جنيف 2 إلى طريق مسدودة، كاشفة حقيقة لا تحتمل التأويل في الخصوصية السورية، بأن باب المعالجة السياسية لا يفتحه غير فشل النظام في محاصرة الثورة وكسر شوكتها خاصة بعد استجرار كل أشكال الدعم من حلفائه، بما هو إكراه له ولحلفائه على ترك ميدان الحرب والعنف لمعالجات من طراز مختلف.
وما قد يعطي هذه الحقيقة دفعة قوية، ازدياد الحرج الأخلاقي الأممي مما تخلفه آلة الدمار، وتنامي مخاطر امتداد الصراع الى بلدان الجوار بسبب تداخل المكونات الإثنية والطائفية، وأيضاً نجاح المعارضة في السير خطوات جدية نحو رص صفوفها أو على الأقل توحيد إيقاع سياساتها وممارساتها.
صحيح أن ثمة هامشا لا يزال متاحاً أمام السلطة الحاكمة كي تتصرف على هواها وتتصدى لقوى الثورة بكل ما تملك من وسائل قمعية، متكئة إلى دعم جارف من حلفائها وإلى ردود أفعال بطيئة ومترددة من المجتمع الدولي، لكن الصحيح أيضاً أن تكرار المشهد السوري المأساوي لم يعد مقبولاً، ولم تعد بعيدة اللحظة التي يدرك فيها الجميع بلا جدوى طريق العنف والتنكيل وبأنه قد يزيد التكلفة والأثمان، وربما يؤخر موعد الخلاص، لكنه آتٍ على أية حال.
الجزيرة نت