صفحات الرأي

مؤتمر فيينا 1815 للشرق الاوسط؟/ سعد محيو

 لم يعد ثمة شك في أن أميركا في حالة انحدار نسبي. لكن هذا لايعود إلى صعود الصين والهند والبرازيل وبقية سرب النمور، بل إلى أوضاع الولايات المتحدة الداخلية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي.

فآسيا الصاعدة لاتزال في حاجة إلى سنوات عديدة كي تصل إلى موازنة القوة الأميركية عسكرياً واقتصاديا. وكما هو معروف في التاريخ، فإن انحدار قوة عظمى لايؤدي بالضرورة إلى زوالها من الوجود، إلا إذا ما برزت قوة أو قوى أخرى قادرة على الحلول مكانها. وهذا ما لا يبدو حالياً في أي أفق قريب، أو على الأقل خلال عقدين أو ثلاثة عقود من الآن.

هذا التمييز بين التراجع وبين الانسحاب ضروري كي لانقع في استنتاجات متسرّعة لطالما تكررت خلال نصف القرن المنصرم حول نهاية ’الباكس أميركانا‘ في العالم.

الآن، وطالما أن الصورة على هذا النحو، كيف نفسّر ما نرى من انسحاب أميركي حقيقي وكبير في الشرق الأوسط، تجلى أكثر ماتجلى في تراجع الرئيس أوباما عن حماية خطوطه الحمراء في سورية، وخطوطه الزرقاء (الديمقراطية) في مصر وتونس وحتى في منطقة الخليج، ثم عن خطوطه البيضاء (السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين)؟ أليس كل ذلك دليلاً على الانحدار التاريخي الأميركي؟

كلا! أو ليس بعد على الأقل.

فالتراجع أو تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ناجم عن جملة عوامل تتعلق كلها بقيام إدارة أوباما منذ سنوات خمس بإعادة رسم الأولويات الأميركية في العالم، وليس بالتخلي عن زعامة هذا العالم. لا بل الهدف هو تعزيز وتقوية هذه الزعامة. هذه هي قواعد استراتيجية الاستدارة شرقاً نحو آسيا وتصحيح مسار الاقتصاد الاميركي في الداخل.

هذه المعطيات تشي بأن الولايات المتحدة ربما تكون راغبة بالفعل في وضع ترتيبات جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، تحفظ مكانتها فيها كقوة عظمى مهيمنة، من جهة، وتسهل عليها نقل الموارد إلى كلٍ من الداخل الأميركي ومنطقة الباسيفيك، من ناحية أخرى.

لكن، هل تصل مثل هذه الترتيبات المفترضة إلى مستوى مؤتمر فيينا الأوروبي العام 1815؟

للتذكير: مؤتمر فيينا الذي ترأسه رجل الدولة النمساوي ميترنيخ. عقد في الفترة من أيلول/سبتمبر 1814 إلى حزيران/يونيو 1815 وكان هدفه تسوية العديد من القضايا الناشئة عن حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية وتفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة. أسفر هذا المؤتمر عن إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة، وعن إنشاء مناطق نفوذ لكل من فرنسا والنمسا وروسيا وبريطانيا. لكن، هل هذه الفكرة الكبرى، التي بدأ تداولها بالفعل في واشنطن، قابلة حقاً للتنفيذ؟

إذا ما عدنا إلى مؤتمر فيينا، سنتذكر أن هذا اللقاء، الذي كان الأول من نوعه في تاريخ العلاقات الدولية، لم ينعقد سوى بعد هزيمة النزعة التوسعية الفرنسية التي خلّفت دماراً شاملاً في القارة الأوروبية.

فهل وصلت قوى الأمر الواقع في الشرق الأوسط (أميركا وإسرائيل) والقوى الثورية المراجعة (إيران ومعها من وراء الكواليس روسيا والصين) إلى القناعة بأن نزعتها التوسعية فشلت وبات عليها بالتالي البحث عن وفاق إقليمي- دولي جديد للمنطقة شبيه بوفاق فيينا؟

سيبين الخيط الابيض من الأسود في هذا الأمر في المفاوضات الأميركية- الأيرانية، سواء السرية منها أو العلنية، والتي ستتكثف فيها أدوار كل اللاعبين الدوليين المعنيين بالمنطقة، من روسيا والصين إلى الاتحاد الأوروبي.

يمكن القول من الآن أن العقبات تبدو أمام هذا المشروع الضخم لتأسيس نظام إقليمي شرق أوسطي جديد يحل مكان كلٍ من النظام الإقليمي العربي الذي انهار بعد حربي 1967 والكويت، والذي تأسس أصلاً على النظام الإقليمي البريطاني- الفرنسي مع سايكس وبيكو.

إذ أنه ( المشروع) يجب أن يحل أولاً المسألة النووية في كل المنطقة وليس فقط في إيران، (أي تسوية قضية الأسلحة النووية الإسرائيلية)، ويسوي القضية الفلسطينية العالقة منذ قرن، ويرضي حلفاء أميركا الواجفين من أي “مساومة كبرى” بين واشنطن وطهران (تركيا، السعودية، إسرائيل، مصر). وفوق هذا وذاك، سيكون على المشروع نيل موافقة صقور الكونغرس الأميركي واليهود الليكوديين في الولايات المتحدة وإسرائيل ونسور الحرس الثوري الإيراني، ومباركة روسيا والصين والاتحاد الأوروبي.

حتى الآن، لم يتحدث أي مسؤول أميركي عن مؤتمر فيينا الشرق أوسطي هذا. لكن مجرد تغيّر أولويات أميركا على هذا النحو الجذري ورغبتها في مشاركة أطراف دولية وإقليمية منافسة لها في حل أزمات المنطقة (كما حدث في سورية)، يعني أن الأبواب باتت مفتوحة بالفعل أمام بدء التفكير (وربما العمل) على ترتيبات إقليمية- دولية جديدة في الشرق الأوسط.

قد لايحدث ذلك اليوم أو غدا، لكنه سيحدث حتماً إذا مابقيت الأولويات الأميركية الجديدة على حالها ولم تتغير مع أي إدارة أميركية أخرى، لأن بديلها سيكون تنافساً قاتلاً بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى على ملء ما ستعتبره فراغاً أميركياً في الشرق الأوسط.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى