مؤنث محمود درويش/ صبحي حديدي
في اليوم العالمي لحقوق المرأة، أجدني أستذكر سمة خاصة في شعر محمود درويش (1941ـ 2008)، الذي يحلّ عيد ميلاده الرابع والسبعون يوم 13 آذار (مارس)؛ طرأت، في يقيني، على وجدانه ـ الفكري والإنساني، ثمّ الشعري استطراداً ـ منذ مجموعته «أحد عشر كوكباً»، 1992؛ وتجسدت على نحو أوضح في المجموعة التالية، «لماذا تركت الحصان وحيداً»، 1995؛ وبلغت ذروة عليا في «سرير الغربية»، 1999؛ وأخذت تظهر مراراً، بعدئذ، في مجموعاته اللاحقة. تلك السمة هي السماح لشجن الروح، ودفق الذاكرة، بالعبور من بوّابة الذات وضمير المتكلم، إلى الآخر المتعدد في ضمائر المخاطب، خاصة المفرد المؤنث؛ ثمّ الارتداد إلى الـ «أنا»، الذي بات بمثابة آخَر هذه المرّة، اكتسب دينامية الاندماج، فتحوّل بفعل علاقات الاندماج.
في «لماذا تركت الحصان وحيداً»، على سبيل المثال، وفي قصيدة «تعاليم حورية» التي تتحدث عن والدة الشاعر، ثمة هذا التشكيل التبادلي بين ضمائر الـ «أنا» والـ «هي» والـ «هو»:
فكّرتُ يوماً في الرحيل، فحطّ حسّون على
يدها ونام. وكان يكفي أن أداعب غصن
دالية على عجل، لتدرك أن كأس نبيذي
امتلأت. ويكفي أن أنام مبكراً لترى
منامي واضحاً، فتطيل ليلتها لتحرسه…
ويكفي أن تجيء رسالة منّي لتعرف أنّ
عنواني تغيّر، فوق قارعة السجون. وأنّ أيامي تحوّم حولها وحيالها.
وفي «أطوار أنات» تستمر ستراتيجية التوزيع التبادلي لعلاقات الـ «أنا» والآخر، ولكنها تبدأ من ضمير المتكلم بصيغة الجمع («الشعر سُلّمنا»…)؛ وتنتقل، بقوّة وحرارة وعنفوان، إلى ضمير المتكلم المفرد («وقصيدتي زبد اللهاث وصرخة الحيوان/ عند صعوده العالي/ وعند هبوطه العاري»)؛ لتستكمل حلقات التبادل مع ضمير المخاطب المؤنث واسم العلم:
أنات
أنا أريدكما معاً، حبّاً وحرباً، يا أناتُ
فإلى جهنم بي… أحبّك يا أناتُ
وأنات تقتل نفسها
في نفسها
ولنفسها
وتعيد تكوين المسافة كي تمرّ الكائناتُ
أمام صورتها البعيدة فوق أرض الرافدين وفوق سوريا، وتأتمر الجهاتُ
والمثال الثالث من قصيدة «هيلين، يا له من مطر»، حيث يبدو توزيع الضمائر جزءاً من عمارة الإيقاع، فنبدأ من ضمير المتكلم في المقطع الأول، إلى درجة الصفر في نسبة استخدام الضمير ذاته في المقطع الثاني، وصولاً إلى تبادل تركيبي متعاقب لضمائر الـ «أنا» والـ «أنت» والـ «هو» في المقطع الثالث، لكي تُختتم الحركة الإيقاعية باللازمة التالية: «مطرٌ جائع للشجر…/ مطر جائع للحجر…».
ونحن نقرأ القصيدة الأولى ابتداء من مفردة «تعاليم»، بما تنطوي عليه من شحنات دلالية خاصة (نيتشوية وقداسية)، قبل أن نكتشف الأمّ الفعلية بتفاصيلها الإنسانية الفعلية، وتفاصيلها العليا التي لا تقلّ إنسانية وبهاء. وحين نرتدّ، مراراً في الواقع، إلى دلالات التعاليم في تضافرها مع التفاصيل المتراكبة لقسمات امرأة/ أمّ، فإننا نفعل ذلك وعُدّتنا حافلة بموزاييك فريد، بشري وجغرافي وتاريخي، يرسم في محصلة القراءة نموذجاً للبورتريه المؤنث، يندر أن نعثر عليه في الشعر العربي المعاصر.
نموذج آخر يتجلى في رسم شخصية أنات، وإعادة تركيب الصورة الأسطورية بمعزل عن رطانة التمثيل الأسطوري التقليدي الذي زّجت في إساره هذه الإلهة الكنعانية البهية. ذلك لأنّ درويش يدعنا في حلّ من الاستظهار المكرور لشخصية أنات، التي خاضت في دماء أعداء شقيقها بعل، وضمنت له تشييد بيت رباني يواجه تحديات المياه والأرض اليباب معاً؛ ثمّ هامت على وجهها بحثاً عن جثة بعل، إثر مقتله على يد إله السهوب القاحلة؛ إلى أن انتقمت من قاتله حين شطرته بسيفها، واحرقته بنارها، وسحقته بمطحنتها، وبذرته في الأرض…
هذه قراءة عشق خاصة، درويشية كما يستجيز المرء القول، لنسخة خاصة من أنثى الخصوبة وتكوين المسافة والحقيقة والكناية وأرض كنعان البداية، حسب توصيفات درويش في القصيدة؛ ولامرأة محبوبة تعلّق الشعر قمراً على حديقتها، لعشاق بلا أمل، وتمضي:
في براري نفسها امرأتين لا تتصالحان:
هنالك امرأة تعيد الماء للينبوع
وامرأة تقود النار في الغابات…
ولهذا فإنها العشيقة/ الإلهة التي تُلزمنا باستدعاء، بدل استنساخ، تمثيلاتها الأسطورية من غياهب تاريخها وتاريخنا، ثمّ المضيّ مع ستراتيجية درويش في تغريبها عن التاريخين معاً، وإخصاب ملامحها في مزيج من لحم شخصيتها هي، ودم طبائعها هي: الأنثى، أوّلاً وثانياً وعاشراً…
وفي اليوم العالمي لحقوق المرأة، وعلى أعتاب عيد الميلاد السابع والأربعين لمحمود درويش، ما تزال أنات شاخصة إلى ضمائرها المتعددة، كنعانية، وفلسطينية، و… فاتنة، في المقام الأوّل!
صبحي حديدي
القدس العربي