مئة الف شهيد يبحثون عن مفكر
بدور عبد الكريم
عندما أرسل بيرانديلو جنيَّ وحيه للبحث عن أفكار، عاد له بست شخصيات حملت في ما بعد عنوان ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، وشكلت أحد أهم الأعمال العالمية فكرا إنسانيا.. بينما في شوارعنا الموجعة اليوم يلوب الناس والأفكار على يتم، ورجع أصوات توزعت بين حناجر بحت أو تكاد، أو صدور لافتات وملصقات تعلن عن نفسها بكل الأشكال والألوان، أو تتناثر بين دهاليز الفيس بوك وشاشات الفضائيات، كما ترغب وتشتهي أجندات المصالح والهوى لا بوصلة الثورة والثوار..
صحيح أن للإعلام رغيفا لاينضج إلا على جمر في أكف الناس، وربما كان هذا من طبيعة الإعلام ومن حقه..وصحيح أن للمحللين رؤى تتحدر من هذا الانتماء أوذاك يتفقون أو يختلفون على ود أو غير ود، وربما كان هذا من طبائع الأمور، ومن حق أصحابها، وصحيح أن للأحزاب والسياسيين ساحات ومعارك تمتد من أول الشعارات إلى آخر المؤتمرات سعيا إلى تفصيل مقاعد على مقاسات تختلف أشكالها باختلاف البرامج..كل هذا صحيح لكنَّ للمفكرين، على ما يجب وما تفرضه طبائع الأمور، شأنا آخر.. فحيث يغيب فكر الأمة، أو لاتجد الأمة سبيلا إليه، يصبح السؤال مشروعا: أين المفكرين في مواقعهم بين الناس في ما توجب الثورة ويوجب قبلها وبعدها حق الأمة في حاضرها ومستقلها؟؟ ويلح السؤال أكثر حيث الحاضر الفكري اليوم هو الغياب، إلا من ظهور يشرط -على جهل ربما- جسد الأمة ( أدونيس نموذجا ) أو عين تمسح على معرفة جرحا أو دما نازفا هناك (الدكتور صادق جلال العظم نموذجا) أو غياب يترك فراغا على قدر قامة عملاقة (الدكتور طيب تيزيني نموذجا) وقد كان- للأمانة- حاضرا، فعلا ثوريا، جسدا وكلمة عرضاه للضرب والاعتقال على يد قوات النظام في اعتصام أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة بدمشق في آذار 2011 ..إلى آخر قائمة طويلة من مفكرينا، لابد من الاحجام عن ذكرهم حرصا عليهم..
وعلى إلحاح تفرض صورة المظاهرات في مصر والتي أسقطت مبارك، تفرض نفسها علينا في واقع سوريا اليوم، حيث كان المفكرون -على اختلاف أجيالهم- في الشارع المصري بين ناسهم.. وربما لا أحد، على دمار ودم مسفوك في سوريا، يمكن له أو يحق له أن يطالب مفكرا سوريا بهدر دمه على يد النظام، لكن يحق للسؤال أن يجد لنفسه مكانا: أين المفكر المؤصِّل في حضور محاباة النظام، على قناعة صحيحة أو خاطئة، كما فعل أدونيس حين اعترض مطالع الثورة على خروج المتظاهرين أيام الجمعة من الجوامع، فجاءه الرد : ” من أين تريدهم أن يخرجوا إذا..وهل الثورة الإيرانية التي دعمتها فكريا خرج متظاهروها من الخمارات؟؟”..
كان هذا في وقت فاجأ فيه إمام جامع الحسن في الميدان بدمشق الشيخ راجح كريم حشد ما اعتاد على وجوده أثناء صلاة الجمعة.. وقد تجاور فيه المجتمعون من مختلف الشرائح في سوريا، على تعدد الأديان والطوائف، فخاطب الجمع عارفا محبا، بما تناقله الناس عنه في ما بعد على تندر محبب ” أنا أعرف أن ثلاثة أرباعكم لم يأت للصلاة وأن نصفكم لايعرف كيف يصلي .. لكن.. على أي حال.. أقم الصلاة” وبعد انتهائها واصل مخاطبته للجمع مشيرا إلى أبواب الجامع: ” هذا باب لايكلف الله نفسا إلا وسعها.. وذاك باب الموت ولا المذلة.. وأمن النظام يطوقه من الخارج.. فليخرج كل منكم من حيث يريد”..
كانت الدماء تسيل والناس يقتلون، وسوريا تقصف من أقصاها إلى أقصاها، والنظام يجرها جرا إلى حرب طائفية، والناس يلمون بالملح الجرح، على معرفة فطرية واعية بما يجري، حينما عبر الدكتور صادق جلال العظم عن دهشته من قدرة ( الأكثرية ) في الشعب السوري على التحمل، إذ تتعرض للقتل والتشريد برسم أقلية يعلنها النظام !!.. فيمرر بذلك عينا على الجرح ترى عمقه فتبلسمه..
أما عدا ذلك، وعدا التعرض المباشر للحدث السياسي من قبل بعض المفكرين (ميشيل كيلو والدكتورعزمي بشارة نموذجا) فقد افتقد الناس مفكريهم.. ليس في الشوارع بينهم فحسب، ولكن بين أفكارهم التي عبرت عن بعضها عناوين جُمعهم ولافتاتهم، وهي تبحث عن مفكرين لا عن مواقع إحصاء واستقصاء ترى في العناوين ما إذا كانت جامعة لمكونات الشعب السوري أو غير جامعة.. تقدمية أو سلفية أو محايدة..فتلك العناوين وما تصدَّر لافتات الناس في مظاهراتهم ومازال،وعلى ما يمكن أن يكون قد لحق بها، بحسن نية أو بسوء، وبقصد أو من دون قصد، يستحق كل هذا، بل يوجب على المفكرين- هذا إذا لم نضع في الاعتبار كل ما لدى هؤلاء المفكرين من مخزون تاريخي- يوجب عليهم في هذا الوقت بالذات أن يبدأوا بفك رموز تلك العناوين واللافتات في بعديها الحاضر والتاريخي، ويلتقطوا خيط وجدانها وفكرها، متتبعين له، أحمر كان أم غير أحمر.. بعيدا عن مناهج شرقية كانت أم غربية لها احترامها، وقيمتها التي لايجادل فيها، لكنها ومنذ مئة وخمسين عاما لم تنبت إلا في رقع محدودة من ترابنا التاريخي، والذي ربما تحمل اللغة – على غير انتباه إلا من القليلين- أحد أهم مكوناته في استخراج منهج فكري يخرج بنا من إشكاليات خلاف واختلاف لمفكري عصر النهضة، والذي مازال يراوح في المكان بيننا إلى اليوم، على تغير في العناوين والمسميات والمستحدثات من أفكار آتية من هنا أو هناك..
ولعل الحادثة التالية على بون شاسع في مدلول المفردات وبعد شاسع في القيمة تفي بشيء من الغرض، وهي بالمناسبة جاءت على لسان طبيب شاب سوري مثقف وعلماني، كما أنها حينما وردت لم تأت في سياق يمت إلى الشأن بأي صلة، قال: ” استورد صديقنا صاحب مزرعة عددا من البقرات الهولندية آملا أن تدر كمية كبيرة من الحليب، على ماعرف عن البقر الهولندي، لكن ما حدث أدهشه فقد قلَّت نسبة ما أعطاه هذا البقر، على عنايته واهتمامه، من حليب عما كانت تعطيه بقراته المحليات”.. وعلق الطبيب الشاب : ” يبدو أن البقر الهولندي لايعطي حليبه المشهور عالميا إلا في هولندا .. وليس عندنا”..
وبعيدا عن الحادثة وما تضمره من إيحاءات وإشارات.. وللحق فإن محاولات جرت، على قلتها هنا أو هناك في الوطن العربي من قبل مفكرين ( الدكتور محمد شحرور- والدكتور طه عبد الرحمن نموذجا) اعتمدت اللغة في بنيتها وعلاقاتها كأحد طرق البحث في الفكر العربي أو استخراج منهجه وفتح مغاليقه التي استعصت، أو غيرت معطياتها بما قد لايزهر ربيع فكر عربي قبل أن تحوله أجندات أو أفكار إلى محض ورق أصفر يسقط مع أوراق الخريف..
المدن