مئوية بروفروك: حين تقاسم الشعراء أغنية إليوت/ محمد الأسعد
حين قرأَتْ قصيدة “بروفروك”، رفضت المحرّرة ماريان مور نشرها، إلا أن وساطة إزرا باوند، صاحب النفوذ الأدبي آنذاك، فتحت الطريق أمام القصيدة التي وُصفت بأنها مثيرة للنفور، وقال عنها ملحق “التايمز” الأدبي: “إن هذه الأشياء التي تمرّ في ذهن السيد إليوت ذات أهمية ضئيلة بالنسبة إلى شخص آخر، وحتى بالنسبة إليه. من المؤكد أن هذه الأشياء لا علاقة لها بالشعر”.
مع ذلك، بدأت الأوساط الأدبية تعتاد عليها وتبتلع اعتراضاتها، وراح النقّاد يعتبرونها فاتحة عصر الحداثة الشعرية في العالم الناطق بالإنجليزية، العالم الذي تأخّر شعرياً، وظلّ يهوم في ظلال غنائية رومانسية طيلة “العصر الفيكتوري”، ولم يخرج من تهويماته إلا بعد الحرب العالمية الأولى.
كانت القصيدة تسخر من رومانسية القرن التاسع عشر بطريقة طريفة. على عكس التسمية، لم تكن “أغنية” بقدر ما كانت رفضاً للغناء، ولم تكن، بدءاً من تصديرها بمقتطف من “جحيم” دانتي الإيطالي، إلاّ مناجاةً ذاتية لرجل تجاوز سن الشباب، تنتابه مشاعر العزلة والعجز عن اتخاذ قرار حاسم في أمر من أمور حياته، رجل يجسّد الرغبات المحبَطة وتبّدُدَ الأوهام في العصر الراهن، حاله حال ذلك المعذب في الجحيم الذي يصرّح ويبوح بما في نفسه، فقط لأنه متأكّد ومطمئن بأن لا أحد ممّن يسمعه سيعود إلى عالم الأحياء.
كانت الحداثة الشعرية، والثقافية بعامة، قد شقّت طريقها في القارة الأوروبية، خصوصاً في فرنسا، قبل ذلك بعقود، إلا أنّ لسان حال الإنجليز كان يقول “أن تأتي متأخّراً أفضل من ألّا تأتي أبداً”.
للأسف، ليس ذلك حال الحداثة الشعرية العربية التي لحقت بحداثات سياق مختلف؛ فلئن كان هذا اللحاق والتتابع في أوساط الثقافات الأوروبية مفهوماً ومثمراً، إلا أنّ نظيره على مستوى الشعرية العربية، جاء على شيء من التصنّع والافتعال لدى كثيرين.
لقد شغل إليوت الساحة الثقافية العربية لعقود، ومن يعود إلى أبرز مطبوعات وصحف ما بعد الخمسينيات، مثل “شعر” و”الآداب” في لبنان، و”المجلة” و”الفكر المعاصر” في مصر، لن يفتقد ذكراً لإليوت، الناقد تارةً، والشاعر تارة أخرى.
بل لم ينس نقّاد تلك الأيام تقديمه في كتب تحلّل مذهبه وقصائده كما فعل يوسف سامي اليوسف (1938-2013) في كتابه “ت. س. إليوت” (1986)، وفي كتب تتّخذه نموذجاً للجديد العربي كما فعل محمد النويهي (1917 -1980) في كتابه “قضية الشعر الجديد” ( 1971).
أكثر من ذلك، كان عدد من شعراء مجلة “شعر” البيروتية، أو ممن نشرت لهم، ينتحلون “مشاعر” و “تأملات” هذا الشاعر، بل وبدأ بعضهم ينقل صور قصائده الشهيرة مثل “الأرض الخراب” و”الرجال الجوف” و”صورة سيدة”.
بالطبع، خرج معظم هؤلاء من ملعب الشعر إلى ملاعب أخرى، إلا أن بعضهم ثبت، ونحت له مكانة شعرية، وجاء مروره بعوالم إليوت مروراً عابراً، إلا أنه جدير بالملاحظة، خصوصاً حين اجتزأ بعضهم قطعاً من لحم جَمَل تلك القصيدة البازل المنشورة قبل مائة عام.
على رأس هؤلاء، والأقدم بينهم هو صلاح عبد الصبور (1931-1981) الذي اجتزأ من جمل إليوت أكثر من شلو وعضو، فهو لا يتأخر عن ملاحقة مسرحية “جريمة قتل في الكاتدرائية”، ولا يتأخر عن تجميع عدة أجزاء من عدة قصائد إليوتية ليخرج بهذه الخلطة:
“جارتي
لستُ أميراً
لا ولستُ المضحك الممراح
في قصر الأمير
سأريك العجب المعجب
في شمس النهار
إنني خاو ومملوءٌ بقش وغبار”.
هذه الخلطة المأخوذة من أربع قصائد لإليوت هي، “بروفروك” و”الرجال الجوف” و”صورة سيدة” و”الأرض الخراب”، أولجها عبد الصبور في قصيدة له عنوانها “لحن” نشرت في مجموعته الشعرية الأولى “الناس في بلادي” (1957). ويلاحظ أنه ألغى السطر الأخير المجتزأ حرفياً فقط حين أعاد إصدار المجموعة في 1972.
الشاعر الثاني هو سعدي يوسف (1934) الذي اجتزأ سطراً من قصيدة “بروفروك”، يقول فيه بروفرك الذي يتأمل ما حوله مناجياً ذاته: “النساء رائحات وغاديات في حجرة يتحدّثن عن ميكائيل أنجلو”. يولجه يوسف في قصيدته المسماة “قصيدة تركيبية” (1972) هكذا:
“للنساء اللواتي يرحن ويغدون في حجرة يتحدّثن عن ميكائيل أنجلو
للنساء اللواتي يطالعن أثوابهن، ويلبسن -قبل المساء- الكتب
للنساء اللواتي يداومن في “التوكالون”
للنساء اللواتي اشتهين اكتشاف الحقيقة
للنساء اللواتي اشتهين اكتشافاً
للنساء اللواتي اشتهين
أقدّم وجهكِ يا طفلة ينصل الدم من وجهها في حديقة”.
وتلي هذا السطر الأخير مباشرة صورة وجه الشيوعية الأمريكية “أنجيلا ديفز”، وتحتها إشارة إلى أنها صورة منشورة في صحيفة “لومانتيه” (1971).
اللافت للنظر أن صورة وجه “أنجيلا” تم التخلي عنها حين نُشرت القصيدة ذاتها في مجموعة “نهايات الشمال الأفريقي”، ربما لأسباب طباعية، أو لأن صاحبها قرّر التخلي عن هكذا تجربة (قصيدة مركبة من صور وكلمات) بعد أن مارسها بعضهم وابتذلها.
في تلك الأيام، كانت هذه الأكاديمية الأمريكية نشطة في حلبة النضال السياسي من أجل الحقوق المدنية، وتتصدر منابر الدفاع عن هذه الحقوق، وتتعرّض للاعتقال، ويتعرّض رفاقها للاغتيال أو الطرد من وظائفهم، كما كان الحال إبّان حملة “ماكارثي” في خمسينات القرن العشرين، وتعرّض فيها المثقفون والفنانون الأمريكيون إلى اضطهاد وحرب بشعة طالت لقمة عيشهم. وأعتقد أن قصيدة يوسف جاءت تضامناً مع “أنجيلا” من جهة بإثارة مفارقة بين نساء لاهيات ونساء مناضلات.
الشاعر الثالث هو محمود درويش (1941- 2008) الذي لم يجتزئ من قصيدة “بروفروك” كما فعل الآخرون، بل استهل قصيدته المسماة “كان ينقصنا حاضر” والمنشورة في مجموعته “سرير الغريبة” (1999) باستهلال درامي يماثل استهلال قصيدة إليوت الذي كان:
“دعنا نمضي إذاً، أنا وأنتَ
حين ينتشر المساء تحت السماء
مثل مريض مخدّر على طاولة
دعنا نمضي، عبر بضعة شوارع نصف مهجورة”.
فيبدأ درويش قصيدته هكذا:
“لنذهب كما نحن..
سيدة حرّة
وصديقاً وفياً
لنذهب معاً في طريقين مختلفين
لنذهب كما نحن متّحدين
ومنفصلين
لا شيء يوجعنا”.
والآن وبعد مرور كل هذه السنوات، نتساءل: في حالة عبد الصبور، هل يحتاج شاعر للتعبير عن الخواء إلى استعارة عبارة معبرة عن هذا الخواء من قصيدة شاعر آخر؟ وهل يحتاج من لا يشعر أنه مهرّجٌ إلى استعارة عبارة نافية من هذا النوع من قصيدة الشاعر ذاته؟
أليس بإمكانه التعبير عما يعتقده بسطور وصور يبتكرها شأنه في ذلك شأن أي “مبدع” أو إنسان آخر على الأقل، بدل تكلُّف خلطة من هذه القصيدة وتلك، لا تشكل حتى وحدة عضوية بحد ذاتها، ولا مع جسد القصيدة ككل؟
وأتساءل في حالة سعدي يوسف، ألا يمكن خلق مفارقة، فكهة أو مأساوية، بوضع وجه “أنجيلا” الذي ينصل دماً بجوار مشهد آخر لا يحتاج معه إلى اجتزاء لقطة النساء اللاهيات من قصيدة إليوت؟
كل هذا ممكن، بدل اللجوء إلى اجتزاء سطور أو خلطات لا تضيف شيئاً لقصيدتَي الشاعرين. أما بالنسبة إلى الاستهلال الدرامي الذي أخذ به درويش وحاكاه تقريباً، فكان استفادة ذكية أخرجت لنا قصيدة متماسكة، وجاء استهلالها، رغم أنه محاكاة لقصيدة إليوت، إلا أنه مقطوع الصلة بها من جهتين:
جهة أن بروفروك لا يطلب من “آخر” مرافقته، بل هو يتحدّث ويناجي ذاته كآخر، بينما من الواضح أن درويش يخاطب “آخر” على وجه الحقيقة، ومن جهة أن آفاق قصيدة إليوت كانت تعبيراً عن هواجس محدّدة بشخصية ذات خلفية فكرية غربية حديثة، بينما احتفظ درويش لنفسه ولرفيقته التي يدعوها إلى مرافقته بملامح الشخصيات الرومانسية التي يكون حديثها دائماً ذا “شجون”، وخلفيتها الشعرية مقولة “سبق السيف العذل” المكرورة في ثقافتنا.
العربي الجديد