صفحات الرأي

مئوية سايكس بيكو –مجموعة مقالات-

 

 

 

مئوية سايكس بيكو/ أحمد بيضون

■ اختلّت الثقة في السنوات الأخيرة بصمود وحدة الدولة السورية القائمة، التي زعزعتها تحوّلات الثورة على النظام الأسدي وأودت بها إلى تقاسمٍ متحرّك ما بين هذا النظام وأطراف أخرى، لا يبدو التفاهم بينها محتملاً، لا على اقتسامٍ للبلاد ولا على صيغة مشتركة لحكمها. وكان صمود الوحدة العراقية قد اختلّ كثيراً في العقدين السابقين وتحوّل نظام العراق نحو صيغة فدرالية غير مستقرّة لا يستبعد تطوّرها، بدورها، نحو نوع من التقسيم.

وكانت الحرب اللبنانية قد اجتازت قبل ذلك حقبةً راج فيها شعار التقسيم في جهة من جهتيها ثم عادت الدولة اللبنانية، بعد عقدين انصرما على صيغة الطائف، لتعاني ذواءً وتفتّتاً يتزايدان من سنة إلى سنة… ولا ننسى الإشارة إلى الوحدة المصرية السورية في سنة 1958 ولا إلى القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين في سنة 1947، وقد استعيد مبدأه في «حلّ الدولتين» الذي يبدو متهالكاً في يومنا هذا. ولا ننْسى، أخيراً لا آخراً، إنشاء دولة إسرائيل في سنة 1948 وما كان من أمرها مع حدود الدول المحيطة بها.

على هذه الخلفية المتشابكة المسارح، يكاد لا يمرّ يومٌ لا يذكر فيه اتّفاق سايكس بيكو في المقالات والخطب، وينسب إليه ما فيه وما ليس فيه، ويزعم له تارة دورُ تأسيسِ الدول القائمة في المشرق ورسمِ حدود لها تعدّ أصلاً للبلاء تارةً ويعلن طوراً أنها تضعضعت من جرّاء الأحداث الجارية أو هي توشك أن تتضعضع.

وفي هذا الشهر الجاري يكون قد مضى قرنٌ بتمامه على توقيع هذا الاتّفاق، وهو قد أصبح أوفر حظوةً عند المعلّقين من «وعد بلفور» الذي حصل بعده بسنة وأشهر، ناهيك بمفاوضات ومعاهداتٍ أخرى هي التي أسّست دول المشرق فعلاً ورسمت حدودها ووزّعت مهامّ الانتداب عليها، وبوقائع من قبيل معركة ميسلون، وما تبعها في سوريا ولبنان، وتنصيب فيصل الأوّل ملكاً على العراق في السنة التالية، ومعه تأسيس إمارة شرق الأردن وتسليمها لأخيه عبد الله، وإبقاء فلسطين منطقة انتدابٍ بلا دولة… ولا تَفُتنا المحطّة التاريخية الكبرى التي هي زوال الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب الكبرى وإلغاء مؤسسة «الخلافة» الإسلامية في سنة 1924… من بين أحداث ونصوص هذا شأنها وخطرها، يصطفي خطباؤنا ومعلّقونا اتّفاقاً كنَسَت نتائج الحرب معظم بنوده، فلم يطبّق قطّ ولا تشبه الحدود التي رسمها حدود الدول القائمة في شيء، ولا هو لحظ هذه الدول القائمة أصلاً… فما قصّته؟

في الشهر نفسه الذي أرسل فيه المفوّض السامي البريطاني في مصر آرثر هنري مكماهون رسالته الأخيرة إلى شريف مكّة حسين بن علي (مارس/آذار 1916) كان يقرّ تفاهم بريطانيّ – فرنسيّ حول مصير سوريا الطبيعيّة وما بين النهرين (العراق).

وكان هذا التفاهم قد تمّ بين مارك سايكس عن بريطانيا وفرنسوا جورج- بيكو عن فرنسا، ثم صدّقه في 15 و16 أيّار/مايو من تلك السنة تبادلُ رسائل بين وزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي وسفير فرنسا في لندن بول كامبون. وكانت روسيا معنيّة بمصير المناطق العثمانية المتاخمة لحدودها فمثـّلها وزير الخارجية سيرغي سازُنوف خلال العام السابق في مفاوضات مثلّثة.

قضى التفاهم بشأن سوريا والعراق بإنشاء دولة عربيّة (أو اتّحاد دول) في سوريا «الداخليّة» التي جعلها مشتملة على شطرٍ من عراق اليوم وأملى تقسيم هذه الدولة إلى منطقتين: «أ» و «ب». وقضى بمنح فرنسا أفضلية في ما ينشأ من مشاريع وما تحتاج إليه الدولة من خبراء وموظّفين في المنطقة «أ» وهي الشماليّة وتشتمل على الموصل وحلب وحماه وحمص ودمشق. وقضى بمنح الأفضليّة نفسها لبريطانيا في المنطقة «ب» وهي الجنوبيّة وتشتمل على كركوك وشرق الأردنّ حتى العقبة.

من جهةٍ أخرى، قضى التفاهم بخضوع الساحل من الإسكندرون إلى صور، وهو المنطقة الزرقاء، لحكم فرنسيّ مباشر. وقضى، على الغرار نفسه، بحكم بريطانيّ مباشر للمنطقة الحمراء وهي ولايتا بغداد والبصرة. وجُعلت فلسطين أخيرا منطقة رصاصية تخضع لإدارة دوليّة يتفق عليها الحلفاء والشريف حسين.

كان هذا الاتّفاق مخالفاً لموقف الشريف حسين المتحفّظ عن إدخال فرنسا في المسألة السوريّة أصلا. وكان الاتّفاق يؤوّل الترتيبات الخاصّة بمصالح بريطانيا في ولايتي البصرة وبغداد (وهي ما وافق عليه الشريف) على أنها حكم بريطانيّ مباشر للولايتين. وكان يفرض لفلسطين مصيراً لم يكن قد ذكر أصلاً في مراسلات الحسين – مكماهون…

لم يطبّق اتّفاق سايكس- بيكو الذي بقي سريّاً إلى أن كشفه ليون تروتسكي مفوّض الخارجيّة في حكومة البلاشفة، بُعَيد الثورة البلشفية، في خريف 1917، وانسحاب روسيا من الحرب. ولكن ما طبّق قد يصحّ اعتباره أبعد من الاتّفاق الذي بقي مدّةً من الزمن يعتبر، على نحوٍ ما، قاعدة انطلاق لما تلاه من صيغ تفاهم جديدة بين بريطانيا وفرنسا. ما حصل فعلاً كان إخضاع سوريا ولبنان بتمامهما للانتداب الفرنسيّ وإلغاء التمييز بين منطقتين شرقيّة وغربيّة مع سحق الدولة «الشريفية» في ميسلون ثمّ إنشاء دولة لبنان الكبير. وضمّت ولاية الموصل لاحقاً إلى ولايتي بغداد والبصرة فنشأ من ثلاثتها العراق المعاصر ووضع كلّه تحت الانتداب البريطانيّ. وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ أيضاً من غير منحها وضع الدولة.

وكان وعْدُ وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور للّورد ليونيل والتر روتشيلد (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917) قد أباح لليهود أن ينشئوا فيها وطناً قوميّاً، وكانوا إذ ذاك نحو 11٪ من سكّانها. وتأسّست في شرق الأردنّ وحده من بين مناطق سوريا الطبيعيّة، إمارة تولاها الأمير عبد الله بن الشريف حسين، بعد أن أخرجها ونستون تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني، من دائرة وعد بلفور، في مارس 1921.

وفي حزيران/يونيو من السنة نفسها أصبح فيصل، ملك سوريا في العام السابق، ملكاً على العراق، بعد موافقته على الانتداب البريطانيّ.

ما هي دلالات هذه الفوارق الجسيمة بين نصّ الاتّفاق وما صار إليه الواقع التاريخي؟ وما الصورة الإجمالية التي تفضي إليها المقارنة بين هذا وذاك؟ وما الذي يحفز الميل المفرط إلى استدعاء هذا الاتّفاق كلّما اختلّ ميزانٌ في دولةٍ من دول هذه المنطقة؟ نحاول تلمّساً لأجوبةٍ عن هذه الأسئلة في عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

سايكس بيكو بين خرافةٍ وتاريخ/ أحمد بيضون

في أيّامنا هذه، تزعم «داعش»، مثلاً، ويصدّقها معلّقون معادون لها، أنها أطاحت رسْمَ اتّفاق سايكس بيكو للحدود العراقية السورية. والأدنى إلى الواقع أنها قرّبت هذه الحدود ممّا كانت عليه في الاتّفاق! فإن ولاية الموصل العثمانية وصحراء الأنبار اللذين جمعت «داعش» ما بينهما وبين بعض الفرات السوري كان سايكس بيكو قد جعلهما في سوريا، إن صحّ أن نحصر هذا الاسم بمنطقة النفوذ الفرنسي من «الدولة العربية». وقد ضُمّت الولاية إلى العراق، أي إلى منطقة النفوذ البريطاني، خلافاً لمنطوق الاتفاق، بعد مخاضٍ طال إلى سنة 1926!.

وعلى الإجمال، لا تشبه الحدود الدولية الحالية بين العراق وسوريا ما يظهر في خريطة سايكس بيكو من خطّ فاصل في «الدولة العربية» بين منطقتيّ النفوذ المشار إليهما. ولا يظهر أثر في هذه الخريطة للدولة الأردنية ولا للدولة اللبنانية. وما يجوز اعتباره فيها «فلسطين» هو النصف الشمالي من فلسطين اللاحقة وهو موعود في الاتّفاق بـ»إدارة دولية»! ويجعل الاتّفاق معظم العراق الحالي أي ولايتي بغداد والبصرة العثمانيّتين منطقة حكم بريطاني مباشر ويُخرج من هذا العراق سامرّاء وكركوك (فضلاً عن الموصل والأنبار) ليدخلهما ومعهما شرق الأردن وجنوب فلسطين في المنطقة الجنوبية من الدولة العربية، وهي الخاضعة للنفوذ البريطاني لا للحكم البريطاني المباشر.

وأما سوريا الاتّفاق (وهي مختلفة اختلافاً جسيماً عن سوريا اليوم)، فمثّلت المنطقة الشمالية من الدولة العربية وجُعلت خاضعة للنفوذ الفرنسي وضمّت إليها، على ما سبق قوله، ولاية الموصل وصحراء الأنبار. وعلى غرار ما فَعَل بولايتي بغداد والبصرة، في الشرق، اقتطع الاتّفاق من الدولة العربية، في الغرب، منطقة الساحل الشامي، وهي أقضية ولاية بيروت العثمانية الموازية لـ»المدن السورية الأربع» (أي حلب وحماه وحمص ودمشق)، ومعها سنجق جبل لبنان، مستثنياً هذا كلّه ممّا سمّاه «الدولة العربية». هذا أيضاً لم يؤخذ به، في آخر الأمر. بل اختلفت صيغة «لبنان الكبير» والانتداب الفرنسي عليه عن صيغة الحكم الفرنسي لـ»بلاد العلويين»… وذلك قبل أن تتوحّد أوصالُ سوريا الحاليّة، المتقلّبة الأوضاع على تنافرٍ، في سنة 1936. هذا ولم تكن صيغة «الانتداب» واردةً من أصلها في سايكس بيكو، بل هي اخترعت عند إنشاء عصبة الأمم في سنة 1919 ثم جرى توزيع أنصبة الانتداب لاحقاً في مؤتمر سان ريمو.

ولا ننسَ هنا أن منطقة الحكم الفرنسي المباشر تلك كانت توغل شمالاً في آسيا الصغرى مشتملة على منطقة شاسعة من جنوب الأناضول تمثّل أركانَها مدن أضنة ومرسين في الغرب وسيواس في الشمال وديار بكر في الشرق. ولا يظهر في خريطة الاتّفاق من خطّ فاصلٍ بين هذه المنطقة وألوية الساحل السوري. ولنُشِر إلى أن غياب الحدّ هذا يلبّي مطالبة الحزب السوري القومي بكيليكيا ولكنه لا يحول، مع ذلك، دون بقاء هذا الحزب طليعة المندّدين بسايكس بيكو! في كلّ حال، لم يثبت شيءٌ من هذا على الأرض إذ بقيت تلك المنطقة، في نهاية المطاف، ضمن حدود الجمهورية التركية مع حرب الاستقلال التي قادها مصطفى كمال ومع تصحيح معاهدة سيفر (1920) بمعاهدة لوزان (1923).

ولا تَحَقّقَ أيضاً دخول أرمينيا في منطقة النفوذ الروسية، وفقاً للتفاهم المثلّث الذي توصّلت إليه مفاوضات موازية لمخاض الاتّفاق، ومنح روسيا إستانبول نفسها (أو «القسطنطينية»، بالأحرى، إذ كان يفترض أن تستردّ اسمها الأرثوذكسي!). وقد كانت روسيا تريد الاستيلاء على العاصمة العثمانية وعلى محيطها الأوروبي، فضلاً عن مكاسب أخرى. إلى ذلك، كانت قد لُحِظت لإيطاليا منطقة حكمٍ مباشر ومنطقة نفوذ في الجانب الجنوبي الغربي من آسيا الصغرى. أصبح هذا كلّه غير واردٍ: من جهةٍ أولى لأن روسيا البلشفية كانت قد خرجت من الحرب أصلاً ونقضت الاتّفاق في جانبه المتعلّق بها وكشفته للعالم… ومن جهةٍ أخرى، لأن المطامع المتعدّدة الأطراف في الأناضول سرعان ما واجهتها مقاومة تركية ضارية.

ولا نَنْسَ أيضاً ما أعقب نهاية الحرب من ضمٍّ لأقضية من ولاية سوريا العثمانية إلى لبنان وهو ما كان مخالفاً لرسم الحدود في سايكس بيكو ما بين «الدولة العربية» ومنطقة «الحكم الفرنسي المباشر». ولا ننس تعديل الحدود بين لبنان وفلسطين في أواسط العشرينات من القرن الماضي. ولا ننْسَ ما هو أجسم من ذلك بكثير ممّا شهده العقدان اللاحقان: أي منح لواء الإسكندرون لتركيا في سنة 1938 ثم نشوء دولة إسرائيل في فلسطين سنة 1948… هذا كلّه لا يوحي بحصوله نصّ سايكس بيكو ولا خريطته.

بل إنه يجوز القول أن «وعد بلفور» كان فيه نوعٌ من المخالفة لروحية سايكس بيكو. وذاك أن الاتّفاق كان يحدوه، بصدد فلسطين، منطق يستوحي مفهوم «الأرض المقدّسة» المسيحي فيلحظ إشرافاً دوليّاً على هذه الأخيرة ترجمةً لعناية الكنائس المختلفة والدول المتباينة المذاهب. ولكن الاتّفاق يبقى غير غافلٍ عن المواصلات التجارية والعسكرية وحاجة بريطانيا وفرنسا إلى ميناءي حيفا وعكّا وتوزيع الحقوق في السكك الحديدية بين الدولتين… وهذا منطق مختلف برعايته تعدّد الأطراف ذات المصالح في فلسطين عن منطق «الوطن القومي» الذي قال به «الوعد» المعلوم.

أين هي إذن دول سايكس بيكو التي توشك اليوم أن تقسّم أو تزول؟ وأين هي حدود خريطته التي يقال أنها تخرق أو تطمس هنا أو هناك؟ لا وجود لهذه ولا لتلك إلا في إنشاء صحافة الاستعجال وخطابة قومية الغبن المحتاجة، على الدوام، إلى عدوّ لا ينفكّ يتناسل معيداً، في كلّ جيلٍ وحالةٍ، سيرته الأولى. سايكس بيكو هو الخرافة التي تسدّ حاجة المستعجل وتجدّد غضبة المغبون.

قد يقال أن هذا الاتّفاق رمز لتفاهمٍ استعماريّ على اقتسام منطقة المشرق هذه وتوزّع مناطق النفوذ فيها. هذا سبب مقبول لاستذكاره طبعاً، مع الانتباه إلى كونه، في الأصل، وجهاً من تفاهمٍ مثلّث كانت روسيا طرفاً رئيساً فيه قبل الثورة، أي قبل «التصويت بالأرجل» (والعبارة للينين) لصالح الخروج من الحرب. ولكن هذه الأطراف الثلاثة، على وجه التحديد، أي بريطانيا وفرنسا وروسيا، كانت هي الساهرة، من قَبْل سايكس بيكو بعشرات السنين حول سرير «الرجل المريض» العثماني تنتظر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وقد انضمّ إليها الطرفان الألماني والإيطالي، على الأخصّ، بعد استتباب وحدتيهما القوميتين، ومعهما إمبراطورية النمسا-المجر، بعد نشوئها، في هذا السهر الطويل. وكان البريطانيون قد حموا المريض وعارضوا الإجهاز عليه ردحاً غير قصير من القرن التاسع عشر لتوقّعهم حرباً أوروبية لا تبقي ولا تذر يتنازع أطرافُها أسلابه إذا هو أسلم الروح. وفي العقدين الأخيرين اللذين سبقا الحرب العالمية، دخل الألمان بقوّة في المنافسة على الودّ العثماني وأصبح لهم في الدولة العليّة نفوذ متعدّد الوجوه مهّد لانضمام نظام «جمعية الاتّحاد والترقّي» إلى صفّ إمبراطوريات الوسط الأوروبي في الحرب…

ليس سايكس بيكو إذن سوى محطّة في مسيرة الاقتسام الاستعماري للأسلاب العثمانية، وللعربي منها، على الخصوص. وإذا كانت صراحة إلهامه الاستعماري، من جهة، وإبقاؤه سرّياً، من الجهة الأخرى، يجعلانه وثيق النســــب بما نسمّيه «المؤامرة الاستعمارية»، فإن عصف الأحداث بنصّه وبخريطته وحلولَ صيغٍ أخرى محــلّ الصيغ التي وقع اختياره عليها كافيان للطعن في أهمّيته التاريخية بما هو اتفاق موعودٌ بالتنفيذ. ومهما يكن من أمرٍ، فإن استذكاره بما هو رمزٌ لمطامع مرفوضة شيء والهذيان بــ»دول سايكس بيكو» و»حدود سايكس بيكو» على أنها وقائع قائمة في أيّامنا شيءٌ آخر…

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

خرائط سايكس – بيكو في عهدة البيت الأبيض والكرملين/ ابراهيم حميدي

عندما رسم البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو في الرمال العربية، حدود الدول على الجسم المريض للامبراطورية العثمانية في ١٦ أيار (مايو) ١٩١٦، لم يعرفا أن لندن وباريس ستستجديان بعد مئة سنة لدى واشنطن وموسكو دوراً في رسم «الحدود» التي خطاها وأن الشمس ستشرق على امبراطوريتين أخريين وبمفردات جديدة… وأن الحدود المصطنعة سيعاد رسمها بالدم وليس الحبر الأزرق.

لم يكن سايكس وبيكو يتوقعان ان الدول الوليدة من خريطتهما، ستشهد خلال عشرة عقود الكثير من الانقلابات والاحتلالات والوصايات والتدخلات ومحاولات فاشلة لصنع السلام للصراع العربي – الاسرائيلي والحروب الأهلية والفساد… كل شيء عدا «الدولة الوطنية» التي اعتقدا بإمكان فرضها بعد الحرب العالمية الأولى من فوق الى تحت.

كانت بريطانيا وفرنسا بحثتا بعد ١٩١٥ في محاصصة للمناطق العربية الهاربة من الأمبراطورية العثمانية وأجرى المفوض البريطاني في القاهرة هنري مكماهون مفاوضات مع الشريف حسين لدعم «الثورة العربية» والاستقلال عن العثمانيين لمواجهة دعوات السلطان محمد الخامس المدعوم من ألمانيا بـ «الجهاد». وقسم اتفاق سايكس – بيكو العرب الى مناطق نفوذ بين بلديهما ورسم حدود جغرافية بعيداً من أي اعتبار للبعد الطائفي والديني والعشائري والقبلي.

«الخديعة الاستعمارية» وخيانة الوعود التي قدمها الضابط البريطاني بيتر ادوارد لورنس (لورانس العرب) الى الشريف حسين للانتفاض ضد «الخلافة»، بقيت في الدروج الى حين كشفتها حكومة الثورة الروسية في العام ١٩١٧ ثم تقديم لندن وعوداً الى الحركة الصهيونية بـ «وطن قومي» وإعلان «وعد بلفور» في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩١٧. والتعديل، على اتفاق سايكس – بيكو حصل لدى بروز أهمية النفط. اذ تخلت فرنسا عن فلسطين والموصل مقابل حصة لها بالنفط. وأقر في نيسان (أبريل) 1920، في مؤتمر سان ريمو الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن والعراق والفرنسي على سورية ولبنان، الأمر الذي صادقت عليه عصبة الأمم بعد سنتين.

وخلال أكثر من نصف قرن من استقلال دول سايكس – بيكو بعد الحرب العالمية الثانية، جرت محاولات عدة لبناء «الدولة – الأمة» قام بها شيوعيون وقوميون وإسلاميون، مدنيون وعسكريون انتهت جميعاً الى النتيجة الواحدة، فشل الدولة الوطنية وتعزيز الديكتاتورية والاستبداد بمسميات عدة وراء جدران «دولة» سايكس – بيكو. انتهاء الهوية الوطنية وبروز الهويات الصغيرة. الطائفة، العشيرة، الدين، العرق، الحي، المنطقة!

وفي ٢٠١١ وبعد عقود من رياح التغيير في اوروبا الشرقية وانهيار جدار برلين في ١٩٨٩، هب الربيع في الدول العربية وحمل معه الأمال الكبيرة والطموحات البراقة للشباب الملهمين من وسائل التواصل الاجتماعي وللطبقة الوسطى الباحثة عن العدالة. لكن المخاض كان عسيراً. منذ سقوط بغداد في ٢٠٠٣ اختلفت الأساليب والنتيجة واحدة: تدخلت أميركا لتغيير النظام العراقي فسقطت الدولة. تدخلت دول «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) جزئياً في ليبيا في ٢٠١١، فانهارت الدولة. لم تتدخل اميركا والغرب في سورية، فتشظت البلاد.

لم يكن متاحاً الطلاق المخملي بين انظمة سايكس – بيكو والمجتمعات. وكأن المتاح هو الطلاق الدامي كما حصل في يوغسلافيا. والحدود التي ترسم بين الدول او داخلها ترسم بالدماء وتخترق بالدبابات والطائرات. «داعش» الذي أعلن «خلافة» في حزيران (يونيو) ٢٠١٤ محا الحدود بين العراق وسورية وأسس «ولاية الفرات» في جناحي بلاد الرافدين. والميليشيات تتنقل غير آبهة بالحدود. أيضاً، التحالف الدولي بقيادة أميركا، يقصف فوق سورية والعراق.

حدود سايكس – بيكو موجودة في الخرائط فقط. مصيرها في عهدة البيت الأبيض والكرملين. التغيير يحصل داخل هذه «الحدود». بين العواصم والمدن الاخرى، بين المركز والأطراف. والأكراد الذين تعرضوا بدورهم لـ «خديعة» أخرى قبل مئة سنة، يعتقدون بأن محور واشنطن – باريس سيصحح التاريخ. اقليم كردستان يتفاوض من موقع القوة مع بغداد. والإدارات الذاتية الكردية ترث بثقة النظام «البعثي» في شمال سورية وشمالها الشرقي. أكراد سورية طلقوا ادارة أقاليمهم من دمشق. و «داعش» ذو الرؤوس المتعددة منصة لرسم الحدود داخل الدول وبينها. والتاريخ يكتب بالدم. والمخاض العسير سيستمر سنوات وعقوداً.

الحياة

 

 

 

 

“سايكس بيكو” بعد مائة عام/ سيّار الجميل

أعادت القوى الأوروبية، قبل قرن، رسم خطوط بلاد الشام والعراق، وفقاً لاحتياجاتها الخاصة، وضرورات العالم الذي كانت تحكمه. ذهبت تلك “القوى الاستعمارية”، ولكن، لا تزال هناك خريطة أو مجموعة خرائط تركتها لنا نحن العرب، جنباً إلى جنب مع المفارقة المخجلة لكياناتٍ سياسيةٍ يجمعها إرث تاريخ واحد، ولكن تفرقها جغرافية وحدود ونزاعات سياسية وأيديولوجية لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد: إنها الطريقة التي وجدها الأوروبيون الأفضل لضبط حدودٍ رسمت لمجموعة دولٍ، كانت سابقاً مجموعة أقاليم (= ولايات) اقتطعت من الإمبراطورية العثمانية، فبقيت سنواتٍ تحت احتلالات الإنجليز والفرنسيين وانتداباتهما، ومن ثم تستقل بأنظمةٍ سياسية متنوعة.. وبعد مائة سنة من ذلك التاريخ، بدأت تحرق نفسها وتدمّر ذاتها بيديها، لأسبابٍ وعوامل طائفية وسلطوية وسطوة أنظمة دكتاتورية، استمر بعضها أكثر من أربعين سنة، مع هيمنة قوى خارجية جديدة.

قامت اتفاقية سايكس بيكو بعد التوقيع عليها يوم 15 مايو/ أيار عام 1916، وقد نصّت على اتفاق وتفاهمٍ سريٍّ بين فرنسا وبريطانيا، بمصادقةٍ من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام النفوذ لمنطقة الهلال الخصيب بين قوتين عظميين وقت ذاك، فرنسا وبريطانيا. ولتحديد مناطق النفوذ في عموم غرب آسيا إبّان الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً بعد الضعف الذي حاق بالدولة العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة. وقد تم التوصل إلى هذه الاتفاقية، إثر مداولاتٍ سياسيةٍ سريةٍ، استغرقت زهاء ستة أشهر بين نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1915 ومايو/ أيار عام 1916، وقد تخللتها مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني، مارك سايكس، كما تبودلت وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. وقد تم الكشف عن ذلك الاتفاق، إثر وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، فافتضح أمرها، ما أثار غضب الشعوب التي تمسها الاتفاقية، وأحرج موقفي فرنسا وبريطانيا.

السؤال: ما هي الأهداف المحورية التي كانت تريدها كل من لندن وباريس من عقد اتفاقية سايكس بيكو التي أدت قبل مائة عام إلى تقسيم الشرق الأوسط بين الطرفين؟ حتى تلك اللحظة التاريخية، كانت الإمبراطورية العثمانية هي المسيطرة الفعلية على تلك المنطقة، باستثناء جنوب العراق الذي وقع تحت السيطرة البريطانية. وكانت باريس ولندن تؤمنان إيماناً حقيقياً بأن الإمبراطورية العثمانية انتهت، وإنها مهزومة لا محالة. وبالتوصل إلى تفاهم سايكس- بيكو، كان الهدف هو العمل على تفادي وقوع نزاعاتٍ محتملةٍ، بعد كسب الحرب العالمية الأولى، وتوزيع غنيمتها بين المنتصرين. وكانت هناك قد استجدّت، لاحقاً، خلافات كبيرة بين فرنسا وبريطانيا حول الرسم الدقيق للحدود، وبالتالي، كانت تلك الاتفاقية فقط محاولة أولى للتقسيم الذي تجسّد فيما بعد بشكل آخر. ومن يتأمل في ذلك الرسم الذي أخرجته اتفاقية سايكس – بيكو، سيجده بليداً وغبياً، ولا يتطابق أبداً، مع الإرث التاريخي للأقاليم الإدارية العثمانية التي عاشت قرابة أربعة قرون. ولكن، هل لم يزل ذلك الاتفاق يثير المشاعر في عالمنا العربي، حتى بعد مرور 100 عام. ولماذا؟

ينظر العرب إلى الاتفاقية نظرة سيئة للغاية، كونها شكلت رمزاً للنظام الجديد المعقد والمتشعب

“رسمت أسوأ الخطوط التقسيمية، ليس من أجل مصالحنا المصيرية، بل لمصالح الآخرين” في تلك المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى. وبدت تلك الخطوط وكأنها السكين قد رسمتها بلا وجه حق. ولكن، بدا واضحاً أن هناك سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات سيئة النيات. وتركز هذه السطور، هنا، على ” إعلان بلفور” في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 الذي وعد فيه وزير الخارجية البريطاني، أرثر جيمس بلفور، اليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، أو ما جرى كذلك من مراسلات بين الشريف حسين والمفوض البريطاني السامي في مصر السير هنري مكماهون، وطريقة الخداع التي مارستها بريطانيا بالوعود التي قالت بها للشريف عن ضرورة تأسيس مملكة عربية مستقلة، تمتد من جبال طوروس شمالاً إلى اليمن جنوباً، ومن العراق شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً. شكلت هذه الاتفاقيات نوعاً من المخادعة، من أجل تنفيذ مخططات ووعود تمّ الإعلان عنها، في مؤتمر فرساي عام 1919، أو ما تلاه من مؤتمراتٍ، مثل سيفر وسانت ريمو. ولكن، لم يكن بيد العرب أن يفعلوا شيئاً إزاء تلك المخططات، على الرغم من الكشف عن فضيحة سايكس بيكو التي ارتبطت بتاريخ الكشف عنها، فبعد الثورة البلشفية في روسيا، نشر المفوض السابق للشؤون الخارجية، ليو تروتسكي، مباشرة محتوى تلك الاتفاقية، مثالاً واضحاً على غدر القوى الكبرى ومطامعها الإمبريالية. وأوضحت الخريطة المرتبطة بالاتفاقية مدى الجشع الذي عبرت عنه رسوم التفكير الإمبريالي، إذ لا يمكن للأسوياء أن يتخيلوا كيف يتم فرض حدود بمئات الكيلومترات، تبدأ من حيفا، وتنتهي إلى كركوك. اتضح للمؤرخ العربي أن هناك في العالم العربي ما يشير، عبر التاريخ الطويل، إلى تآمر الغرب على المشرق بسرية تامة، وكشف ما تحقق لاحقاً بوضوح كم جرت من مؤامراتٍ على الشعوب العربية، وعلى حقوقها، وشعوبٍ أخرى تجاورها، أو تشترك معها في المصير نفسه.

إذن، تدخل اتفاقية سايكس بيكو في قالب هذا النوع من نظريات المؤامرة وتطبيقاتها، حيث أنها كانت سرية، وتخدم فقط مصالح القوى الكبرى. ومع أن الاتفاقية لم تطبّق أبداً ببنودها، إلا أنها زرعت النقمة في قلوب العرب ضد الغربيين عموماً، بدءاً بنشر الفضيحة التاريخية، وانتهاءً عند تفجير إرهابيي تنظيم داعش قبل أكثر من سنتين مركز مراقبة حدودي بين العراق وسورية، في بهرجةٍ تشير إلى نهاية اتفاقية سايكس بيكو، من دون أن يعلموا أن الاتفاقية لم تطبق. وأعتقد أن الحدود الحالية بين سورية والعراق، مثلاً، تشكلت ضمن اتفاقياتٍ أخرى بصفة نهائية، ضمن الانتداب البريطاني الفرنسي الذي أقيم هناك نهاية العشرينيات، وهي علامات غدت تاريخيةً للدولة الوطنية بين البلدين اللذين كانت لهما فرص تاريخية وسلمية عديدة، لتوحدهما على عهود الاستقلال والحزب الواحد، لكنهما لم يتوّحدا لعوامل داخلية معقدة، لم يدركها الدارسون بعد.

وعليه، للعرب، حتى يومنا هذا، تلك الرمزية المبدئية التي ما زالت تأتي بمفعولها. إذ هناك رفض كبير لدى المواطنين العرب للتاريخ الطويل الذي مارسه التأثير الغربي في الشرق الأوسط، ناهيكم عن نقمة قومياتٍ أخرى ضد البريطانيين والفرنسيين، كونهم لم يأخذوا حقوقهم القومية في محيط عربي واسع. يرى العرب بالذات وجود أسبابٍ عديدة، أدت إلى مأزق هذا الوضع الكارثي الراهن في السياسة الغربية، والتي تجلت بقوة بعد الحرب العالمية الأولى. واليوم، أعتقد أن الواقع يتحدّث لغة أخرى، اذ لو سألنا أي لبناني أو أردني عن مدى رغبته في أن يكون سورياً أو عراقياً في إطار سورية الكبرى، أو سوراقيا العظمى، فإن الغالبية الساحقة سترفض ذلك نهائياً. وهكذا، لن يتنازل أي عراقي عن عراقيته، ولا أي فلسطيني عن فلسطينيته، فكلها أوطان قديمة، عرفها آباؤنا وأجدادنا منذ آلاف السنين.

وعليه، ما هو الدور الذي لعبته اتفاقية سايكس بيكو بالنسبة للإسلام السياسي؟ تعد الاتفاقية لبنة أساسية لقوة الغرب، ولتدخله المباشر في شؤون منطقتنا العربية، وخصوصاً الهلال الخصيب في بلاد الشام والعراق. إذ احتلت “سايكس بيكو” الآن الصدارة في الاهتمامات التاريخية والسياسية، لأنه باحتلال العراق عام 2003 ونشوب الثورة في سورية منذ عام 2011، باتت المنطقة غير مستقرة، والتي كانت ترسم حدودها تلك الاتفاقية المجحفة. وستبقى “سايكس بيكو” في الذاكرة العربية، كونها رسمت، منذ مئة سنة مرت على شعوبنا، أسوأ الخطوط التقسيمية، ليس من أجل مصالحنا المصيرية، بل من أجل مصالح الآخرين.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى