صفحات الثقافة

ماء الفضة’ لأسامة محمد: ملحمة بصرية في مهرجان ‘كان’ السينمائي اعتمدت الوثيقة التسجيلية ونقلت ‘الدم’ السوري على الهواء مباشرة

 

ابتعد عن المباشرة واستدرار الدموع وترجم صوت الثورة اليتيمة

رفيق عنيني

حين يخط السينمائي وثيقته مطرزاً حبكتها بإبرته الثاقبة يصنع من الوثيقة المصورة من قلب الحدث بكل فجاجة وعفوية ومباشرة لوحة سينمائية جمالية وفكرية تعطي أثرا مديدا ومستديما ورسالة ذات لغة عالمية تصل بسلاسة وعضوية الى اي ذهنية بشرية على هذا الكوكب…

رسالة من الف مصور ومصور بينهم اكثر من شهيد، مهجر، لاجئ، او منفي… رسالة تترجم صوت الثورة الهادر العميق… الوضوح الجلي في الفكرة والهدف والاسلوب عناوين مهمة ومفاتيح فعالة في فك شيفرة هذا العمل المركب الكثيف..اعادة ترتيب وتسلسل هذا الشلال الهادر من الصور الاولية والاساسية التي تنقل الدم السوري الصريح على الهواء مباشرة او في اطار الزمن الصحفي المخصص للحدث لتحول الوثيقة الى لوحة سينمائية ذات جمالية عالية رغم فقر الصورة الاصل لهذه الجمالية البصرية.. وتجدد الدلالة الفوتوغرافية الواضحة الفجة نحو معناها الحقيقي المعادل على الارض… هنا نحن امام فيلم اكبر بكثير من أن يسمى وثائقياً… انه ملحمة بصرية تعتمد الوثيقة التسجيلية..

الفيلم شارك في تظاهرة ‘عروض خاصة’ احدى تظاهرات مهرجان كان السينمائي لهذا العام.. بعد تجربة سابقة للمخرج في نفس المهرجان عن عمله السينمائي الثاني ‘صندوق الدنيا’ قبل عقد من الزمن تقريبا…

‘الف شريط وشريط بالف عنوان وعنوان’

الشريط السينمائي يقسم الى قسمين، الاول يستعرض المخرج فيه بداية الثورة السورية في اشهرها الاولى عبر جغرافيا تمسح كل المناطق السورية من خلال اشرطة وثائقية متنوعة حسب المنطقة او الحادثة.. تعذيب معتقلين، مظاهرات، اعتصامات، انشقاقات، اعتقالات، مداهمات، خلع ابواب، تشبيح، تفحيش على المدنيين..الخ.. الجزء الثاني على العكس يبرز حضور وئام بدرخان، السورية الكردية المحاصرة في حمص، وشروعها في التصوير، بالاتفاق مع المخرج، من داخل حمص المحاصرة وتواصلها معه عبر السكايب وحواريات شعرية في منتهى الالم يتركز فيها وعبرها توثيق الحصار عبر رسائل الكترونية وصور ولقطات هذه الناشطة المهمة في كل تفصيل من تفاصيل حياتها في حمص والقصف المتواصل والجوع والاطفال والحرق والتهجير والمووت ووووو….. خلال الجزأين تظهر عناوين المقاطع المكتوبة على الشاشة وكانها موزايك شرقي باللون الاحمر والاسود وكل الرمادي.. مقاطع عنونها المخرج بكلمات/مفاتيح تساعد المتلقي على الاتكاء قليلا ليبتلع المشهد السابق ويأخذ نفسا عميقا يعينه على الدخول فيما يليه… تمسح المكان افقيا لترى الحدث من زواياه المحتملة وعاموديا عبر سنوات ثلاث طويلة للغاية… كلا انها ليست الف ليلة وليلة انها الف ظهيرة وظهيرة.. الف حريق وحريق…

‘ما هو لون الحياة’

ما هو لون الحياة!؟ تسأل البطلة المحاصرة فينطلق صوت ‘نعمى عمران’ القوي الهدار ليلحن ويغني وينشد هذا السؤال… وتردف: ما هو طعم الرمل!؟!؟ … لينتهي الفيلم مع تاكيد المخرج بانه ألف صورة وصورة الف حكاية وحكاية ومائة الف شهيد وشهيد… تخرج بعدها الشريكة وئام من حمص المحاصرة مع الخروج الاخير …

تخرج من حمص لتصل خلال اسبوع الى كان السينما ونراها هناك الى جانب المخرج تقدم الفيلم الذي خرجت منه للتو وتحت ابطها هزالها والمها وذكرياتها وشريطها الذي صورته هناك وتلقفته انامل المهندس الفنان اسامة وجعلته رسالة الى الكون ووثيقة الى التاريخ…

وثيقة تجنبَ فيها كل ما هو اشكالي .. تجنب السياسي تجنب الانفعالي تجنب النواح وتجنب الى حد ما كل مظاهر الانحراف في الثورة على يد الاسلاميين وان مروا سريعا في يوميات وئام الحمصية بعد ان شعرت بخطرهم المباشر عليه وبداية تململهم منها ومن نشاطها المدني ومن سفورها… واكثر ما تجنبه المخرج هو الانانية.. اعني الفردية الذاتية، الشوفينية الفنية، رغم حضوره الطاغي كمعلق على الفيلم و طرح قصة خروجه من سوريا هو شخصيا… ولكنها جاءت بصمة وذاتية فنية عالية لا ترى تكرارا في الاشرطة الوثائقية انما هي ضرورية بشكل او بآخر من اجل عمل فني راق ومعبر.. رقي وجمال وتعبير جارف رغم كل العنف والقسوة التي تبدو مغبشة ‘بكسيلز′ والتي عالجتها عين المخرج كي تبتعد الوثيقة عن المباشر والمجاني واستدرار الدموع… من حضر الفيلم لم يستطع البكاء انما كانت الدموع حبيسة في العيون المغرورقة والغضب حبيسا في القلوب الخافقة والحزن وشاح طويل يغطيها.

‘الكاميرا كسلاح’

الصورة هنا مزيج من الحالة السورية بكل تناقضاتها الحتمية، فمن لقطات متقطعة سريعة لاهثة تلاحق الحدث من لحظاته الاولى حتى بقايا الدمار والموت المنتشر في كل مناطق سوريا، الى لقطات مخرج فنان ينتمي الى سوريا المستقبل، يرسم بعينه النافذة لقطات من المنفى، من باريس الضباب والمطر والآلة التي يلهث البشر بين مسنناتها في المدن الكبرى … وخصوصا حين تكون هذه المدن منافي جديدة.

فرق هائل بين الصورتين تقنيا وايقاعا ولكنهما توائم في الروح، فالصورة البدائية المأخوذة بالهاتف المحمول تظهر على الشاشة الكبيرة، وعن سابق تصميم وقصد، ضبابية مرتعشة مبهمة مسطحة الظلال.. ولكنها تخفي خلف حجابها التقني روح الحدث وفضاء المكان. وكذلك اللقطة السينمائية المشغولة بدقة جمالية وتقنية عالية في المنفى الباريسي تضيء الحدث اكثر فأكثر … تمسد الروح اللاهثة وتهيئها كي لا يلتبس عليها المعنى وتصدمها الصورة الاخرى فيأتي الشريط كسمفونية تتناغم فيها الحركات السريعة والبطيئة والعميقة والراقصة…

‘توثيق وأرشفة’

ما يكفي هذا الفيلم فخرا انه انجز توثيقا للحدث السوري التاريخي الذي اختلط فيه الحابل بالنابل واختلطت الصور واختلفت مع منعطفات كبرى خلال سنواتها الثلاث .. ثورة يجري السطـو عليها بكل وضوح واصرار.. عسكريا وسياسيا وحتى اعلاميا وابداعيا…

فتتعدد الصور تبعا لمصدرها وتتعد المصادر تبعا لمرجعيات امراء الحرب وخيانات الاصدقاء قبل الغرباء… اسامة محمد كأنه عبر شريطه يعيد الثورة الى مجاريها، يضع بعض النقاط على ما تبقى من الحروف… يعيد ماء الفضة الى صنبورها الحديدي الذي رافق الشريط منذ البداية يعيد سيلانه تدفقه بعد ان جففه دخان القتل والدمار والتهجير…

……

تكامل فني يعيد الى الذهن كبار السينمائيين القادمين من وراء بلاد العالم ‘الأول’ من الشرق من الغرب ومن الجنوب ايضا… مروا على هذا المهرجان السينمائي المميز… وضعوا بصمة واغنوا المهرجان بابداع قلما يلتقطه شباك التذاكر… وسينما ما يطلبه الجمهور….

‘ كاتب وناقد سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى