مائتون لكننا نقاوم الموت بأجسادٍ تنضح حباً: نبراس شحيّد
نبراس شحيّد
عن صرخة الطفل الأولى
يواجه العاملون في مجال الدعم الإغاثي ظاهرةً معقدة تتمثل في ارتفاع نسبة الولادات بين اللاجئين السوريين. الظاهرة هذه مقلقة لأنها تترافق مع نقص حاد في الموارد اللازمة للعناية بالأطفال الجدد، كما تتلازم في غالبية الأحيان مع سوء الظروف الصحية والنفسية المحيطة بمجيئهم.
ترتبط الظاهرة هذه مع عوامل عدة، أهمها الجهل، والفراغ الذي يسيطر على حياة الكثير من اللاجئين على نحوٍ قد يتضاعف معه تواتر الجماع الجنسي. لكنها ترتبط أيضاً مع رغبة الأهل في التعويض عن ابن أو ابنة أو قريبٍ رحل، ليأخذ الأطفال الجدد مكان من قضوا لا بل حتى اسماءهم. إلا أن الظاهرة هذه لا يمكن حصرها في العوامل السابقة الذكر. فلتكاثر الولادات، على تنوع أسبابها المباشرة، بعدٌ آخر، وجوديٌّ على ما أعتقد، يكشف شكل العلاقة التي باتت تربط الحب مع الموت.
في أصول الحب الغامضة
يقارب سقراط، وبعده فلاسفةٌ كثر، الحبَّ كحالٍ من النقص الكياني الذي يستولي على العاشق أمام المعشوق. من فم انثى، تتجلى حقيقة الحب كاسمٍ آخر لـ”الرغبة”؛ إنها الكاهنة ديوتيما (Diotima) التي تكشف لسقراط أصول الإله إيروس (Eros)، إله الحب الجامح والشبق (كتاب “المائدة” لأفلاطون). تبحث الأسطورة اليونانية هذه عن أصول الحب، لتحيله على تمازج متناقضين اثنين: النقص والاكتمال. كابنٍ لأمه الغريبة بينيا (Penia)، يكون الحب (Eros) فقيراً، هشاً، متسكعاً في الطرق الموحشة بلا مأوى أو سريرٍ أو وطن. لكنه كابنٍ لأبيه بوروس (Poros)، إله الازدهار والقوة، يكون الحب جباراً، ساحراً، غنياً. هكذا يتجلى الحب كحالٍ من التناقض الأساسي بين النقص الذي لا يعرف الامتلاء، من جهةٍ أولى، والاكتمال الذي لم يصل إليه انسانٌ، من جهةٍ ثانية. من المنطلق هذا، تتكشف طبيعة الحب كحالٍ من الفشل المستمر في الامتلاء المطلق من المحبوب الذي سيبقى خارجاً عنا. يفشل المحب في تحقيق اتحادٍ مستمر مع محبوبه، لأن الكائن البشري هو كائنٌ محكومٌ بالنقص الذي يتجلى، أشد ما يتجلى، في ظاهرة الموت التي تُخضعنا جميعاً لتفرّقنا. لذا تصير “النشوة”، كما يقول سارتر بعمق جارح، تعبيراً صادقاً عن “فشل الرغبة” لا بل حتى عن “الموت” (سارتر، “الوجود والعدم”)!
يتحدد الحب هنا، على الرغم من كل ما يحمله من غنى، كحالٍ من النقص المستمر الذي يسيطر على المحب إزاء الكائن المحبوب، ليصير العشق حالاً متناقضة من الاعتراف بالموت، ومن محاولة تخطيه في الوقت ذاته. إنه أولاً اعترافٌ بالموت حين يفشل العاشق في الاتحاد مع الكائن المعشوق إلى الأبد، فلحكاية الجسدين العاريين، مهما طالت، نهايةٌ يرسمها الموت يوماً. لكن الحب هو أيضاً محاولةٌ لتجاوز الموت حين يكثّف العاشقان لحظة لقائهما الحميمي إلى حدٍّ قد ينسيان معه ثقل الزمن المفضي إلى الموت، ولو لبرهة. هكذا، تتحدد متناقضة الحب في سعي المحب إلى لقاءٍ مستحيلٍ مع المحبوب يتجاوز معه حدود الموت: مائتون نحن، والهشاشة تحكمنا، إلا أننا نرغب في الاتحاد معاً رغماً عن أنف الموت وجبروته!
بين الحب والموت
في مخيمات اللجوء، تتجلى العلاقة بين الموت والحب في ظاهرة الانجاب. يشكل الانجاب، على الرغم مما قد يحمله من أنانية أحياناً، محاولةً أساسية لمقاومة ثقل الموت علينا: لن يحدَّنا الموت لأن أطفالنا سيستمرون من بعدنا! إلا أن علاقة الحب مع الموت تتجلى أولاً في ظاهرة الجماع الجنسي نفسه، قبل تجلّيها في ظاهرة الانجاب.
تُخرج الوحشية التي يمارسها النظام السوري، وما يترتب عليها من نتائج مدمرة على انسانيتنا (حين تتبنى بدورها حال توحشٍ مضادة)، الجثةَ من المكان المخصص لها (المشفى، البيت، المقبرة…) إلى المكان العام، لا بل المشاع. يتجاوز العنف الخطوطَ الحمراء جميعها، ومعه تتبعثر الأجساد- الجثث مخترقةً المساحات العامة، ليسيطر الموت على المشهد. أمام مساحات الجثث والأشلاء المتفحمة، يصير الفعل الجنسي أكثر من أي وقتٍ مضى ملجأً يقصده الأحياء في معركتهم ضد الموت، لأنه يعطي الجسد مساحةً أخرى يستطيع فيها أن يعبّر عن فيض الحياة التي فيه. بمعنى آخر، يتحول الجماع الجنسي إلى صراعٍ ضد الحالة- الجثة: الجسد- المجنس في مواجهة الجسد- الجثة؛ الجسد الحي في حميميته مقابل الجسد الميت في مشاعيته؛ الجسد- الحب في صراعه ضد عبثية القتل. هكذا، يحيلنا الفعل الجنسي على شكلٍ أساسيّ من أشكال صراع البقاء، فتتسع معه مساحة المعركة الدائرة في الساحات والشوارع السورية لتتفشى في كثافة اللحظة الحميمية حيث تُعارك الأجساد الحية، على الرغم من طبيعتها المائتة، الموتَ بالقُبَل!
أمام لاعقلانية الموت المسيطرة على المشهد السوري، حيث يصير القتل لذة، تتفجر الحياة وشهواتها على نحوٍ غامض، وفي الوقت عينه خطير. خطيرٌ أولاً، لأنه قد يؤدي إلى تدفق أطفال لا يتوافر لهم الحد الأدنى من ظروف الرعاية اللازمة لهم. خطيرٌ أيضاً، لأن الجماع تحت ظلال الموت قد يسمح باختزال شريك الحب إلى محض ملجأٍ ينسينا ثقل الموت لبرهة، فينقلب الجماع تالياً، على الرغم من تزايد وتيرته، لحظة عنفٍ تفرّق أكثر من كونها لحظةً تجمع، فتقتل الآخرَ بدلاً من إحيائه. في الوقت عينه، يمكن الحياة المتفجرة من عمق اللحظة الحميمة أن تصير شكلاً جديداً من أشكال اللقاء، يعيد فيه الشريكان اكتشاف ما يسري من حبٍّ بين جسديهما في صراعهما المستمر ضد الموت. في عينَي الجثة المغمضتين غياب لا ينتهي، وفي عينَي المحب المغمضتين، لحظةَ النشوة، حضورٌ كثيف يقاوم الموت ويقول حقيقتنا: مائتون نحن، لكننا نقاوم الموت بأجسادٍ تنضح حباً!
النهار