صفحات مميزة

مابعد اسقاط الطائرة الروسية –مقالات وتحليلات-

 

بوتين ضدّ أردوغان: إحياء العظام الرميم؟/ صبحي حديدي

ذات يوم اعتبر برنارد لويس، «بطريرك الاستشراق الإمبريالي» بلا منازع، أنّ سقوط القرم في يد الروس، سنة 1783، كان «نقطة الانعطاف في العلاقات بين أوروبا والشرق الأوسط». كان لويس، وهو الخبير في الشؤون التركية وأوّل باحث غربي يُفتح له الأرشيف العثماني، على حقّ هذه المرّة؛ رغم أنه ـ كما يُنتظر منه، في الواقع ـ تناسى، عامداً، ثلاث حقائق جيو ـ سياسية كبرى: 1) أنّ روسيا القيصرية لم تكن أوروبا تماماً، بمعانٍ عديدة جغرافية وسياسية وثقافية، ليس أقلّها الفارق المسيحي الأرثوذكسي مقابل الكاثوليكي؛ و2) أنها لم تكن جزءاً من المحاصصة الأوروبية الكولونيالية، بين بريطانيا وفرنسا أساساً، ثمّ بلجيكا وهولندا وسواهما؛ و3) أنّ السلطنة العثمانية كانت، للمرّة الأولى في تاريخها، تخسر أرضاً يسكنها مسلمون، لصالح قوّة مسيحية.

هل يعيد التاريخ نفسه، في دورة جديدة روسية ـ تركية؛ فيصحّ هذا الاستقطاب الثنائي (القيصر/ بوتين، ضدّ السلطان/ أردوغان)، الذي أخذ يجتذب المراقبين، ليس دون أسباب وجيهة في الواقع؟ منطق التاريخ ذاته لا يلوح أنه يسمح بهذا، لاعتبار جوهري أوّل هو أنّ التاريخ، وعلى عكس ما يُشاع، يندر أن يعيد نفسه (إلا بالمعنى الماركسي الشهير الساخر: مرّة في صورة مأساة، والأخرى في صورة مهزلة!)؛ ولاعتبار جوهري آخر، يخصّ ميزان القوى الراهن على الأرض، بين قوّتين يصحّ التذكير بأنّ إرثهما الإمبراطوري قد انحسر، لكي لا يسجّل المرء أنه اندثر.

وما خلا الصاروخ التركي الذي أسقط الـ»سوخوي 24»، فإنّ الحرب الراهنة بين السلطان والقيصر لن تتجاوز التراشق باللفظ والاتهامات والعقوبات الاقتصادية الرمزية، التي تهيّج الجموع بهدف التغطية على صراع الأجندات الإقليمي، وعلى الأرض السورية، ثمّ العراقية، تحديداً. كان في وسع الرئيس التركي أن يأمر طياريه بغضّ النظر عن اختراق القاذفة الروسية للأجواء التركية، خلال حفنة من الثواني؛ بل كان ممكناً تحويل المطاردة التركية في الأجواء، وإجبار الـ»سوخوي» على الانسحاب نحو مطار حميميم، إلى انتصار عسكري ودبلوماسي ربما، دون إسقاط الطائرة. وحتى لحظة انطلاق ذلك الصاروخ القاتل، كانت العلاقات الروسية ـ التركية على ما يرام، حتى إذا تباينت حول الملفّ السوري، في المقام الأول.

لكنّ أردوغان، وقد بات طليق اليدين بعد الانتصار الساحق في الانتخابات التشريعية، أراد تنبيه الجميع إلى أنّ تركيا تنوي الدخول في «المعمعة» الإقليمية بقوّة، أسوة بإيران وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا… ليس هذا فحسب، بل إنّ تقدّم فوج تركي مدرّع إلى عمق الأراضي العراقية، في محيط الموصل، يؤكد عزم أنقرة على المضيّ في الهدف الأبرز من اقتحامها للمشهد المعقد: فرض واقع عسكري على الأرض، مباشرة أو عبر حلفاء محليين، يخلق «منطقة عازلة» كفيلة بكسر حلقات اتصال أي كيان كردي مستقلّ، في الشمال السوري أولاً؛ كما يضيّق الخناق، استطراداً، على كتائب «حزب العمال الكردستاني» أينما تواجدت في البلدين.

قد لا يصحّ، في المقابل، غضّ النظر عن جانب خاصّ في هذا التحوّل التركي، تكتيكي في المرحلة الراهنة على الأقلّ؛ عماده عدم ذهاب أردوغان منفرداً إلى هذه المواجهة مع بوتين، بل صحبة الحلف الأطلسي، ثمّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما، شاء هؤلاء أم أبوا! ولم يكن غريباً، والحال هذه، أن يعتبر البعض إسقاط الطائرة الروسية أوّل اشتباك عسكري مادّي بين روسيا والحلف؛ حتى إذا كان أعضاء الأطلسي الأوروبيون أسعد حالاً باجتذاب موسكو، أكثر من أنقرة، إلى ما يُسمّى «التحالف الدولي ضدّ الإرهاب».

وإذا جاز القول إنّ عظام الإمبراطوريتين، الروسية والعثمانية، باتت رميماً؛ فهل من المبالغة الافتراض بأنّ هوس إحيائها يتأجج في نفس القيصر، أسوة بالسلطان؟

القدس العربي

 

 

 

احترام أردوغان سياسة حلفائه تجاه «داعش» والأكراد/ مصطفى كركوتي

هل يمكن الوثوق بالرئيس رجب طيب أردوغان؟ سؤال يتكرر داخل المؤسسات الرسمية في أوروبا وخارجها، إثر قرار قادة الاتحاد الأوروبي منح تركيا مساعدات بثلاثة بلايين يورو والتعهد بفتح أبواب كانت مسدودة سابقاً، قد تؤدي إلى عضويتها في الاتحاد، ابتداء من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، مقابل مساعدتها في قفل بوابات الهجرة السورية باتجاه أوروبا. وحتى مع افتراض نجاح هذا الاتفاق مع أردوغان، ينبغي أن يدرك الأوروبيون أن الاتفاق لن يحل بالضرورة أزمة اللاجئين السوريين.

راهناً، وفق أرقام رسمية، هناك لاجئ واحد بين كل 35 تركياً مقارنة بواحد لكل خمسة أردنيين وواحد لكل ثلاثة لبنانيين حيث كان يفترض أن يقدم الاتحاد الأوروبي العون لمن يحتاجه أكثر من تركيا.

والثقة بأردوغان عملية شاقة عموماً بالنسبة لأصدقاء تركيا وحلفائها قبل خصومها وفق اختبارات عدة لمواقفه على مدى سنة ونصف السنة على الأقل إزاء العلاقة مع «داعش». فهذا التنظيم ما كان له أن ينمو وينتعش وينشر الذعر والإرهاب في مناطق عدة في شمال سورية وبعض وسطها، والآن في أوروبا وغيرها، لولا شريان الحياة الموصول مع تركيا. لكن هذه مسألة يتردد حلفاء تركيا المقربون في «الناتو»، لا سيما الولايات المتحدة، في الإقرار بها، لأهمية الموقع الاستراتيجي لتركيا أكان لاحتضانها قواعد عسكرية حيوية أو لكونها الممر الوحيد أمام اللاجئين نحو بوابات أوروبا. وهذا يزيد المشهد تعقيداً إذ يصعب تصديق أن ثمة عصابة إجرامية تحولت نتيجة هذا الواقع إلى أداة سياسية، تعبث في الأرض فساداً من دمار وتخريب وقتل على قاعدة التعصب المذهبي على رغم أعدائها الكثيرين وتمكنهم من وسائل كافية للقضاء عليها.

فقادة «قمة العشرين» توجهوا قبل أسبوعين إلى أنطاليا بعد هجمات باريس المتوحشة والتقوا مضيفهم وغادروها من دون صدور ما يشير إلى ملامح وجود خطة مشتركة للتخلص الكامل من «داعش». ويقال إن هذا كان تفادياً لإحراج أردوغان الذي بات مرتاحاً لتنفيذ سياسته غير المعلنة رسمياً حتى الآن في ضرب الميليشيات الكردية المسلحة في سورية، بغية تطويق أكراد تركيا والحيلولة دون نزوعهم نحو قضايا مطلبية. صحيح أن أردوغان يكرر أن بلاده تشارك دول التحالف الدولي الهجمات ضد مواقع «داعش»، لكن الرئيس التركي يوجه ضربات أشد وأكثر باتجاه الأكراد الذين لا بد أن يشكلوا في مرحلة ما، التجمع الأقوى والأشرس والأفضل تسليحاً وتدريباً بين القوى المعارِضة لـ «داعش» ولنظام دمشق.

لكن من المحزن أن تبدو إمكانية هزيمة «داعش» بعيدة راهناً عندما يعتبر أردوغان أنه يخوض «حرب بقاء» ضد الأكراد على ثلاث جبهات، اثنتان منها ضد قوات «حزب الاتحاد الديموقراطي» (واي بي جي) في سورية وميليشيات البي كي كي في شمال العراق وجنوب تركيا. والطرفان هذان حققا إنجازات مهمة في قتالهما ضد «داعش» على مدى العام عسكرياً وسياسياً.

لذلك فإنه أمر فاحش ومرفوض، أو هكذا يجب أن يكون، تنفيذ دولة عضو من أركان الناتو سياسة تتعارض في شكل واسع مع سياسة هذه المنظمة وهيئات دولية أخرى.

«حرب» أردوغان الثالثة سياسية وهي تلك التي بدأها جهاز حزبه بمساعدة بعض أجهزة الدولة قبل ستة أشهر تقريباً، ضد أكراد بلاده ممثلين بـ «حزب الشعوب الديمقراطي» (اتش دي بي). ففوز هذا الأخير في انتخابات حزيران (يونيو) الفائت حرم «حزب العدالة والتنمية» (الإخوان المسلمون) الحاكم غالبيته البرلمانية، واعتبره أردوغان تهديداً مباشراً لسلطته، فرد بتحديد موعد لانتخابات جديدة وإعلانه الحرب على «داعش» إثر تفجيرات متوحشة في عدد من المدن التركية بما في ذلك ديار بكر وأنقرة. ويستغرب البعض كيف أن التهم وُجهت إلى «داعش» في شأن التفجيرات التي حدثت جميعها في مناسبات أنشطة سياسية/ احتفالية تعود إلى «اتش دي بي»، ما دفع الأخير إلى الامتناع عن تنظيم الأنشطة في مناطق الأكراد حيث أدى ذلك إلى تقليص نسبة إجمالي المقترعين له وخسارته بعض مقاعد ممثليه في البرلمان.

وفي النهاية مهما يكن عليه موقف أردوغان إزاء الأكراد، فهؤلاء سيكون لهم الدور الأهم عند المواجهة الأخيرة مع «داعش»، ومن هنا يترتب على الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي إدراك أهمية العامل الكردي في كيفية التعامل مع «داعش»، وكذلك كيفية التعاطي مع الرئيس التركي الذي ينبغي أن يعيد النظر في ترتيب أولوياته. فـ «داعش» في النهاية في طريقه إلى الزوال مهما طالت الفترة الزمنية لبقائه على رادار الأحداث.

حدث ذلك في السابق غير البعيد، وتحديداً مع «طالبان» التي فشلت في تقديم نموذج عملي للحكم لشعب أفغانستان وسكان مناطق متفرقة في باكستان بغية كسب ثقتهم ودعمهم. وهذا ما جرى مباشرة تقريباً بعد سقوط مدينة الموصل بيد عناصر «داعش» إثر تركها من قبل القوات العسكرية الرسمية من دون أي مقاومة. ومثلما فعلت «طالبان» في أفغانستان، يبدو أن «داعش» يؤكد جهله بالمناطق التي تخضع لسيطرته أو كيفية إدارتها. فالغزاة الجدد للمدن السورية والعراقية وعدوا تجارها بإدارة أعمالهم بأمان وتحت ظروف آمنة، ليتبين لاحقاً أنهم مجرد أكوام من الجهل ولا يتوافر لديهم حتى الحد الأدنى من المعرفة البسيطة. فعندما سقطت بلدة سنجار قبل أسابيع بيد المقاتلين الأكراد وجدوا مدينة مهجورة بالكامل، إذ قام «داعش» بقتل سكانها أو نشر ما يكفي من الذعر في النفوس لهجرتها. فـ «داعش» كان عملياً يدير بلدة أشباح وهذه هي حال أكثر المدن والبلدات التي تحت سيطرته في سورية والعراق.

الخيارات أمام «داعش» قليلة وتتقلص باستمرار وهي قابلة لأن تزداد تقلصاً في حال إقناع أردوغان بتركيز هجمات بلاده على أهداف «داعش» وتجفيف موارده بحرمانه من بيع النفط الخام السوري عبر الحدود، والتنسيق مع الأكراد في هذا المجال، بدلاً من ضربهم. ويتطلب هذا من «الناتو» صياغة سياسة واضحة وشاملة تجاه «داعش» وكيف يمكن إلحاق الهزيمة به، بحيث يلتزمها جميع الأعضاء.

الحياة

 

 

 

في قراءة الدور التركي: صراع نيات؟/ سلام الكواكبي

منذ بداية الحراك العربي، وتنوّع المواقف السياسية والعسكرية لما يُسمّى المجتمع الدولي، بشقيّه الإقليمي والأوسع، بدأت اصطفافات الرأي العام والخاص، وتمايز الكُتّاب والمُحلّلون، بانتقاء الحليف وتحديد العدو، حاسمين قاطعين في هذا الحقل، من دون أية نسبية، إلا لماماً. وتنوّعت المواقف وتناقضت من حالٍ إلى حال. فمن يؤيّد دور دولة ما في بلد ما، سرعان ما ينسى تأييده ويعود لينتقد دور البلد نفسه في بلد آخر. وهذا عموماً من طبع النزاعات والصراعات التي تحدد الاستقطابات، آخذة المنطق والمعقول رهينة للمشاعر والأحاسيس.

وفي الحالة السورية، بما تحمله من تسمياتٍ لم يتم الاتفاق عليها بعد، كل الدول، في المنطقة وخارجها، عدا ربما جزر القمر، نالت حصّتها من تحميل المسؤولية وتحليل الدور وتعظيم التأثير وترهيب الأثر. وقد كان لتركيا حصة الأسد في مسرح التحليلات العاطفية والإيديولوجية، بعيداً إلا فيما ندر، عن القراءة الهادئة والتعمّق المطلوب في ممارسة هذا النوع من المساهمة الفكرية، ولو المقتضبة، في تكوين تراكم معرفي.

فمن جهة، يرى كثيرون في الدور التركي الدور المُنقذ من الدمار والحامي من الغزاة والمُخلّص من العذاب الجاري على قدم وساق في بلدهم الجريح. وتتطوّر الكلمات والتعبيرات الإعجابية، بعيداً عن أية مسافة أمان، أو رؤية نقدية أو تحليل موضوعي. وبعيداً عن وسائل التواصل الاجتماعية الحاملة جرعات عاطفية شتّى، يجدر التمعّن بحمولة المقالات الصحفية، الإخباري منها أو التحليلي، والتي تُعالج موقف الدول، وتركيا من بينها، من منظور المعادلة الصفرية العزيزة على بعض المحللين : أبيض أو أسود، معي أو ضدي، صديقي أو عدوي.

تُكتَب المعلّقات حول أخلاقية القادة الأتراك ونزاهتهم، ومدى ثقافتهم الواسعة والمُتَبحّرة في شؤون الهند والسند. ويجري تقديم إنجازاتهم في حقل الاقتصاد، كما في السياسة، وكأنها إعجازات القرن العشرين. وتستعرض الأقلام بعضاً من الحدوتات اليومية لتدعيم الحجج بالوقائع والأحداث. فنرى، تارة، مبالغةً هائلة في التعامل الإنساني مع اللاجئين السوريين، بعيداً عن لغة الأرقام، أو حتى مراجعة القوانين الناظمة. ويغلب على من يتناول الدور التركي بهذا الأسلوب التعاطف مع الإيديولوجية الدينية التي يظنّون أنها تقود العملية السياسية في الداخل التركي، كما في الخارج المهم استراتيجياً لتركيا. وتصل الأمور إلى تقديم الدور التركي، وكأنه أداءٌ لجمعية خيرية تُعني بالشأن الإنساني. وفي المحصلة، عبر هذه الممارسة التمجيدية ومن خلال هذه المبالغة غير المحسوبة، يُسيء “أصدقاء” السياسة التركية إلى السياسة نفسها، ويحمّلونها ما لا تحتمل، وما لا تريد أن تحتمل. ومن الحب ما قتل، أو أساء على أقل تقدير.

من جهة أخرى، يرى كثيرون آخرون، ومن الطرف المقابل، الشيطان الرجيم في السياسة

“يحتاج الدور التركي، في جوانبه الإيجابية وجوانبه السلبية، قراءة مختلفة وغير متأثرة بالمواقف الرنانة والعبارات الطنانة” التركية، ويعزون كل مآسي الشرق والغرب إلى السياسة التركية، و”الأطماع” الأردوغانية، لاستعادة أمجاد امبراطورية بني عثمان. كما يتوسّعون في نقد السياسات الداخلية التركية، بناءً على موقفهم الديني أو الإثني أو العقائدي، من دون الأخذ بالاعتبارات العوامل المتداخلة والمتنوعة التي تحكم وتؤثّر بمثل هذه السياسات. وهم لا يجعلون فرصةً واحدةً تمرّ يتم فيها انتهاك ما لحقٍ ما لإنسانٍ ما، في تركيا طبعاً، ليقفزوا على جياد التحليل، ويطلقون لها العنان في تفسير الأمر، وكأنه مرتبط بمخططٍ يعود إلى زمنٍ غابرٍ، يقوم رعاة أنقرة بتنفيذه الآن بحق شعبهم وشعوب الأرض قاطبة. وتراهم يصيرون فجأة أكراداً مُنتهكي الحقوق في تركيا، ولو كانوا في مقلب آخر، متعصبين عروبياً وداعمين أنظمةً أقامت المذابح ولم تقعدها بحق الأكراد. وتجدهم أصبحوا معتنقين قضية المذبحة الأرمنية، وسابحين في بحرها، ليقتنصوا من قادة تركيا الجدد كل المسؤولية، ولو كانوا قد ساهموا، أو هم قد مالأوا أنظمة وحكومات عاملت قضية التنوع الاثني والديني بأسوأ ما يمكن له أن يكون. وفي المحصلة، يسدي أعداء تركيا المبتعدين عن موضوعية نقد السياسات وتحليل الاستراتيجيات، أيما خدمة، لأصحاب هذه السياسات، ومعتنقي هذه الاستراتيجيات. فمن البديهي أن يُدافع العاقل عمن يُهاجم بهذه الخفة الفكرية والضحالة التحليلية.

لا هؤلاء ولا أولئك راجعوا قليلاً موقفهم وتحليلاتهم، ليحاولوا، ولو قليلاً، الوقوف عند الموقف التركي لتحليل أبعاده ومعطياته ومنظورات تطوره وأسبابه ونتائجه. وبما أن الدور التركي هام للغاية، ويحوز على هذا القدر من التوبيخ أو الممالأة، صار حرياً بالمراكز البحثية العربية الجادة، وهي قليلة للأسف، أن تقوم بدراسة معمّقة، بعيداً عن العواطف والإنشاء، معتمدة على خبرات موجودة سورياً وعربياً ودولياً في الشأن التركي.

مرة أخرى، على من يريد الخوض في المسألة، أن يبتعد عن المشاعر الذاتية، وعن لغة “الوجبات السريعة” التي تفرضها صفحات “فيسبوك” أو عُجالات “تويتر”. يحتاج الدور التركي، في جوانبه الإيجابية وجوانبه السلبية، قراءة مختلفة وغير متأثرة بالمواقف الرنانة والعبارات الطنانة. وهذا، بالتحديد، ما تنتجه مراكز الأبحاث التركية على تنوع ميولها السياسية وتبعياتها الفكرية. من المفيد إذاً ترجمتها إلى العربية، لعلّ في ذلك تحريضاً ذهنياً على إنتاج مماثل. وما يصحّ على الدور التركي يمكن أن يُعمّم على أدوار أخرى ولدول أخرى في الإقليم وخارجه.

العربي الجديد

 

 

 

 

ما بعد إسقاط الطائرة الروسية/ بكر صدقي

يلاحظ المراقبون لتصريحات القيادة التركية (أردوغان وداوود أوغلو وسنيرلي أوغلو) بصدد التوتر مع روسيا، نوعين متناوبين من الكلام. فتارةً يقولون إنهم لم يعرفوا أن الطائرة روسية، وإلا ما أسقطوها، وتارةً يشددون على «قواعد الاشتباك» واختراق الطيران الروسي للأجواء التركية، ثم يعلنون عن طلب أردوغان الاتصال ببوتين هاتفياً أو وجاهةً، في باريس، ورفض هذا الأخير لأي تواصل مع نظيره التركي. ويرفع أردوغان، بعد ذلك، من حدة تصريحاته بتحدي بوتين في اتهامه لتركيا بشراء النفط من داعش..

في غضون ذلك، يواصل الحلف الأطلسي تعزيز تواجده العسكري في شرقي البحر الأبيض المتوسط لموازنة التعزيزات الروسية الكبيرة في سوريا. فبعد قرار موسكو بنشر بطاريات الصواريخ الأكثر تطوراً S400 في قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية، اتخذت قراراً آخر برفع عدد طائراتها المقاتلة في سوريا من 35 إلى 100 طائرة، بإضافة طائرات محملة بصواريخ جو ـ جو، كأنما استعداداً للرد على إسقاط الأتراك للسوخوي باستهداف أي طائرة تركية، جواً، إذا دخلت الأجواء السورية. إلى ذلك هناك أخبار عن بدء الروس بمشروع توسيع لمطار الشعيرات قرب حمص لاتخاذها قاعدة تمركز روسية إضافية في سوريا. بالمقابل بدأ حلف الناتو بإرسال تعزيزات عسكرية من مختلف الدول الحليفة إلى المنطقة المشتعلة. بريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى الدانمرك تساهم جميعاً في هذا «المجهود الحربي» الذي لا مثيل له منذ عقود طويلة. وعلى رغم ما يبدو من تراجع تركي أمام الغضبة البوتينية العارمة، لا زالت الاستعدادات جارية لعملية عسكرية مشتركة، تركية ـ أمريكية، لطرد داعش من بلدة جرابلس. وما احتدام المعارك، في الأيام القليلة الماضية، بين قوات الحماية الشعبية التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني وفصائل عربية مسلحة جمعتها «غرفة عمليات مارع» في عدد من النقاط من «المنطقة الخالية من داعش» التي تنوي تركيا إقامتها بمساعدة أمريكية، إلا انعكاساً ميدانياً للصراع التركي الروسي على الشمال السوري. أي أن الروسي يبدو مصمماً، بالمقابل، على منع أي توسع تركي شمال حلب.

منذ اللحظات الأولى بعد إسقاط السوخوي 24، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن «لتركيا الحق في الدفاع عن أجوائها» وكذا فعل حلف شمال الأطلسي وعدة دول من أعضائه. لكنها جميعاً حرصت، بالمقابل، على دعوة الدولتين لضبط النفس واحتواء التوتر. تبدو الإجراءات العقابية التي أعلنتها موسكو بحق تركيا من نوع الضغط للحصول على اعتذار تركي لإنقاذ ماء وجه بوتين أكثر من كونها تعبيراً عن نوايا عدوانية ضد تركيا العضو في الحلف الأطلسي. وقد حددت موسكو الأول من شهر كانون الثاني/ يناير القادم موعداً للبدء بتطبيق العقوبات، فيما يبدو منح مهلة معقولة للقيادة التركية لتقديم اعتذار عن إسقاط الطائرة. لكن القيادة التركية لا تبدو في وارد تقديم أي اعتذار، الأمر الذي يعني ثقة أنقرة بموقف حلفائها الأطلسيين. من المحتمل أن إدارة أوباما المتهمة بالمسؤولية عن تشجيع بوتين على التمدد في أوكرانيا وسوريا وفي مجلس الأمن، لا تريد، هي ذاتها، أن يعتذر الأتراك للروس. فالمعادلة الآن باتت معادلة كسر إرادات بين روسيا والحلف الأطلسي، أكثر من كونها بين روسيا وتركيا. وما إرسال السفن الحربية وحاملات الطائرات من دول الناتو إلى شرقي المتوسط، والطائرات البريطانية والفرنسية والألمانية إلى قاعدة إنجرلك قرب أضنة إلا تعبيراً عن وقوف الأطلسي وراء تركيا بلا أدنى تردد. وهذا ما أدركته موسكو جيداً فلم تتجاوز ردة فعلها على إسقاط الطائرة إلى تصعيد عسكري مباشر مع أنقرة.

ما الذي يمكن أن ينتج عن صراع الإرادات هذا؟

تعمل روسيا بدأب على تعزيز نفوذ عسكري دائم في سوريا بصرف النظر عما يمكن أن ينتهي إليه الصراع الداخلي فيها، ومن المحتمل أن مسار فيينا الذي وضع خريطة طريق لوقف الحرب في سوريا سيتعرض لتأخير زمني، إلى أن تضمن روسيا حصتها من سوريا ما بعد الأسد. أما بالنسبة لتركيا، فقد دفعتها أزمة إسقاط الطائرة الروسية بقوة إلى الاحتماء بحلف الأطلسي الذي طلبت القيادة التركية اجتماعه فور إسقاط طائرة السوخوي.

يعود المحلل السياسي التركي البارز جنكيز تشاندار إلى تاريخ الصراع التركي ـ الروسي، في محاولةٍ منه للإجابة على السؤال: «من الذي أمر بإسقاط الطائرة الروسية، أو من الذي شجع تركيا على ذلك؟» في حين كان يمكن تجنب هذه الورطة. فيذكر كيف أن علاقة تركيا مع الغرب تحددت، دائماً، بعلاقتها مع روسيا، إلى حد كبير. ففي العام 1783 استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، الأمر الذي دفع الامبراطورية العثمانية إلى التحالف مع البريطانيين والفرنسيين لتحقيق التوازن مع التمدد الروسي. وهكذا اندلعت حرب القرم، بين 1853 ـ 1856، بين بريطانيا وفرنسا المتحالفتين مع الامبراطورية العثمانية من جهة، وروسيا من جهة ثانية. وفي الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتفكك الامبراطورية العثمانية، ورطتها ألمانيا بالحرب على روسيا، بتواطؤ من حكم «الاتحاد والترقي». أما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد دفعت مطالبة ستالين بالتحكم بمضيق البوسفور وبأراض تركية في منطقة قارس، بأنقرة إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي احتماءً من مطامع روسيا السوفييتية.

توحي عودة تشاندار هذه إلى المحطات التاريخية المذكورة وكأن الغرب الأمريكي ـ الأوروبي ورط تركيا، مجدداً، في صراع مع روسيا، بهدف المحافظة على توازن القوى مع الأخيرة، ولربط مصير تركيا مع الغرب الأطلسي بصورة نهائية، بعد عقد من سياسة خارجية تركية مستقلة، أو تسعى إلى الاستقلال، في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم.

تتلاقى مع هذا التحليل، مسارعة الاتحاد الأوروبي إلى التوافق مع تركيا، بعد طول جفاء، في شأن إيجاد حل لمشكلة تدفق اللاجئين إلى أوروبا، عبر صفقة الثلاثة مليارات يورو، وإعادة إحياء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. لافت هذا التطابق في تاريخ موعدين: بداية المفاوضات بين نظام دمشق الكيماوي والمعارضة السورية، وفقاً لخطة فيينا3، وبدء تطبيق العقوبات الاقتصادية الروسية على تركيا انتقاماً منها لإسقاط طائرتها. أمامنا إذن أقل من شهر، سيكون ملطخاً بدماء السوريين، لنعرف مآل صراع الإرادات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

 

الورقة الكردية في الصراع الروسي التركي/ خورشيد دلي

الدرس التاريخي

مرحلة جديدة

معادلة القيصر والسلطان

مع استمرار التصعيد الروسي ضد تركيا على خلفية إسقاط الأخيرة لطائرة سوخوي 24 الروسية مؤخرا، رجح خبراء ومحللون إمكانية لجوء موسكو إلى استخدام الورقة الكردية ضد تركيا.

ولعل سبب مثل هذا الترجيح يعود إلى عوامل عديدة، في مقدمتها زيادة وتيرة الاتصالات بين موسكو وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وكذلك كثافة الحديث الإعلامي والسياسي في روسيا عن أهمية هذا العامل كورقة مؤلمة لتركيا في التوتر المتصاعد بين البلدين، لكن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا: هل فعلا يمكن أن تذهب موسكو إلى هذا الخيار حتى النهاية؟ وماذا عن التداعيات؟

الدرس التاريخي

الاهتمام الروسي بالكرد قديم، حيث يعود لبداية القرن التاسع عندما بدا لروسيا القيصرية أهمية دورهم في حروبها مع الدولتين العثمانية والفارسية وسعيها إلى توسيع مناطق نفوذها في ما وراء القوقاز، إذ نظرت روسيا إلى الكرد دوما كمحاربين أشداء يمكن الوثوق بهم في الحروب مقابل مساعدات عسكرية ومالية ووعود بإقامة دولة كردية.

وهكذا وقف الكرد إلى جانب روسيا في حربيها مع الدولة الفارسية (1804 – 1813 و1826 – 1828) وكذلك في حربها مع الدولة العثمانية (1828 – 1829) وغيرها من الصراعات، لكن الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه التجارب هو تخلي الروس عن آمال الكرد على مذبح مصالحها المشتركة مع هذه الدول، وفي التاريخ شواهد كثيرة، لعل أهمها:

1- قبيل الحرب العالمية الأولى وعدت روسيا القيصرية بإقامة دولة كردية وبنت علاقات قوية مع الكرد في إيران وتركيا، ولكن مع انهيار الدولة العثمانية وصعود نجم مصطفى كمال أتاتورك وتأسيسه الجمهورية التركية عام 1923 سرعان ما تخلت روسيا عن الكرد، ودخلت في تحالف وثيق مع أتاتورك الذي كانت مرحلة حكمه من أكثر المراحل دموية ضد الكرد حيث قمع بشدة كل انتفاضة كردية طالبت الاعتراف بالكرد وحقوقهم في تركيا.

2- إن إقامة جمهورية مهاباد الكردية في إيران عام 1946 كانت بدعم مباشر من القوات السوفياتية التي دخلت عاصمة الجمهورية لتوطيد الحكم الكردي الجديد بقيادة قاضي محمد، لكن سرعان ما تخلت روسيا عن الجمهورية الوليدة بعد صفقات نفطية مع حكم شاه وضغوط بريطانية قوية، وهكذا لم تصمد جمهورية مهاباد سوى 11 شهرا لتنهار بعدها على وقع دخول الجيش الإيراني عاصمتها، وليساق رئيسها قاضي محمد مع العديد من قادته إلى حبل المشنقة.

3- العلاقة مع كرد العراق ظلت أيضا محكومة بمصالح روسيا مع بغداد، فرئيس الوزراء الروسي الراحل يفغيني بريماكوف، وقبل أن يصبح وزيرا للخارجية، عمل وسيطا بين بغداد والحركة الكردية، وفي كل محطة من محطات الصراع والتفاوض كانت المصالح الروسية هي الحاضرة وهي التي تحدد دفة العلاقة.

في الواقع، مع أن هناك نقطة مضيئة في تاريخ العلاقات الروسية الكردية تتعلق بإقامة روسيا العديد من مراكز الدراسات والثقافة والإعلام الكردية، فإن الدرس الذي ينبغي استخلاصه من التجربة التاريخية لهذه العلاقة هو غياب الثقة انطلاقا من قاعدة التضحية بالكرد حين يأتي وقت المصالح مع الدول المعنية.

مرحلة جديدة

مع بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، بدا أن غزلا روسيا يتدفق باتجاه كرد سوريا خاصة بعد أن أصبحوا رقما صعبا ومهما في شمال سوريا وشرقها، ولاسيما بعد معركة كوباني/عين العرب والتي نجح الكرد فيها بإلحاق أول هزيمة عسكرية بـ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

فـ روسيا باتت مدركة لأهمية دور الكرد ليس على صعيد محاربة داعش فحسب بل في مجمل الأزمة السورية، إذ تريد استمالتهم للقول للأطراف الأخرى إن روسيا أصبحت مركز الحل للأزمة من جهة، ومن جهة ثانية لاستخدامهم في البعد الإقليمي للصراع وتحديدا مع تركيا التي أعلنت مرارا رفضها إقامة أي كيان كردي في شمال سوريا.

لكن مشكلة روسيا في الوصول إلى مركز الثقل في الحركة الكردية السورية، وتحديدا حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعد الفرع السوري لـ حزب العمال الكردستاني، تكمن في أن واشنطن سبقتها إليه بكثير، إذ نسجت الأخيرة مع الحزب تحالفا أمنيا وعسكريا على الأرض، فالمعارك التي تخوضها وحدات حماية الشعب تجري في ظل غطاء جوي أميركي، كما تقدم واشنطن أسلحة للمقاتلين الكرد وخبراء لتدريبهم، وهو ما يصعب من مهمة موسكو في إقامة تحالف عسكري مع الكرد رغم الانفتاح الكبير الذي أبدته تجاههم في المرحلة الأخيرة.

وعليه فإن مشهد الانفتاح الأميركي الروسي على الكرد يبدو وكأنه يسير في سباق محموم على كسب ولاء الكرد، ليبقى السؤال هنا: كيف سيدير الكرد معركة التنافس الأميركي الروسي على كسبهم في الصراع الجاري؟ وهل سينجحون في نقل العلاقة بهم من العامل الأمني إلى السياسي؟

بمعنى آخر: هل ينجحون في جعل هذه العلاقة سياسية تصب في صالح الاعتراف بقضيتهم في المنطقة بدلا من التعامل معهم كورقة أمنية تستخدم في هذه الظروف أو تلك، قبل أن تتم التضحية بهم ويصبحون كبش فداء على مذبح المصالح بين الدول الكبرى؟

من الواضح أن الكرد يعطون حتى الآن الأولوية لتحالفهم مع واشنطن، ويبدو أن روسيا تدرك هذا الأمر، لذا تستمر في تقديم المزيد من الخطوات للفوز بهم، إذ استقبلت خلال الأشهر القليلة الماضية العديد من الوفود الكردية، وافتتحت رسميا مكتبا لحزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو وسط حديث عن إمكانية فتح موسكو ممثلية لها بمناطق الإدارة الذاتية.

بل إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشاد وللمرة الأولى بوحدات حماية الشعب الكردية خلال كلمته على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأن روسيا لن تتوانى في مرحلة ما بعد إسقاط طائرتها إلى اللجوء للورقة الكردية كورقة موجعة لتركيا ما لم تقدم الأخيرة على تنازلات لروسيا في الأزمة السورية التي أصبحت قضية حياة أو موت للسياسة الروسية في الشرق الأوسط.

معادلة القيصر والسلطان

مع استمرار التوتر بين روسيا وتركيا، واحتمال التصعيد بين الجانبين أكثر، في ظل الردود الروسية المتدرجة على إسقاط طائراتها، حضرت قضية استخدام الورقة الكردية في هذا الصراع بقوة في موسكو، فقد أعلنت الأخيرة رفضها وصف حزب العمال الكردستاني بالإرهاب كما هو مصنف أميركيا وأوروبيا وتركيا.

بل طرح لأول مرة بمجلس الدوما قضية تسليح “العمال الكردستاني” بأسلحة متطورة وفق ما ورد بالصحافة الروسية التي تعطي اهتماما كبيرا للحديث عن الكرد وحقوقهم في تركيا هذه الأيام، وكذلك الحديث عن أهمية العلاقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا ودعمه.

ويبدو أن الحديث الروسي على هذا النحو أثار الاعتقاد لدى الحزب الكردي بأن هناك لحظة تاريخية في الموقف الروسي ينبغي اغتنامها على أمل بناء إقليم كردي، وعليه صرح زعيم الحزب صالح مسلم مؤخرا أكثر من مرة “سنقاتل جنبا إلى جنب مع كل من يحارب داعش” في إشارة ربما إلى الاستعداد لإقامة تحالف مع روسيا، لكن السؤال هنا: ماذا تريد روسيا من الكرد في هذه المرحلة المعقدة والصعبة من الأزمة السورية؟ دون شك على الأجندة الروسية جملة من الأهداف الملحة:

1- محاولة ضم وحدات حماية الشعب الكردية إلى تحالف روسيا والنظام لتحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها حسم معركة الشمال السوري وتحديدا حلب لصالح هذا التحالف، فالكرد، وبحكم موقعهم الجغرافي وتوزع مناطقهم وخبرتهم القتالية، سيكون لهم دور بارز في هذه المعركة، فحي شيخ مقصود في حلب باتت له أهمية حيوية لجهة قطع الطريق بين حلب وتركيا والوصول إلى إعزاز، بما يعني الوصول إلى عفرين.

2- حصول السيناريو السابق يعني توجبه ضربتين قويتين إلى تركيا. الأولى: الحيلولة دون إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا تحدثت تركيا عن قرب إقامتها. الثانية: ربط الكرد منطقة كوباني/عين العرب مع عفرين، وهو ما يعني اكتمال القوس الكردي الممتد من جبال قنديل وصولا إلى المتوسط، بمعنى أن تركيا ستجد بعد اليوم حدودها مع كيان كردي على طول حدودها الجنوبية مع سوريا، وهو ما يعني انتقالا كبيرا للتداعيات إلى الداخل التركي.

3- إن حصول ما سبق، لا يمكن أن يكون دون تنسيق كامل مع قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل، ومثل هذا التطور قد يكون مدخلا لتسليح موسكو لحزب العمال إذا استمر التصعيد الروسي التركي، خاصة إذا اعتقدت موسكو أن هذه الخطوة ستوجه ضربة مؤلمة لتركيا، وأنها ستجعل منها صاحبة اليد العليا في سوريا وتجبر الجميع على التعامل مع إستراتيجيتها العسكرية والسياسية.

منطق “القيصر” هذا، يقابله منطق “السلطان” في تركيا، فأردوغان “العثماني” حذر مرارا بوتين من اللعب بالنار، وأن الصبر له حدود، وأن في يد تركيا أوراقا قوية قادرة أن تؤلم القيصر ليس من خلال تزويد الفصائل السورية المسلحة بأسلحة متطورة لإغراق روسيا في المستنقع السوري، على أمل تكرار ما حصل في أفغانستان، وإنما في القول أيضا إن مفتاح البوسفور بيدها، وإن اللعب بالورقة الكردية لن تزيد سوى اشتعال النار فوق النار.

ويبقى السؤال هنا: هل سينال الكرد الدولة الكردية من روسيا إذا نجحت الأخيرة في توجيه ضربة قوية لتركيا؟ أم أن الكرد سيجدون أنفسهم من جديد أمام الدرس التاريخي وسيفقدون الانتصارات التي حققوها على الأرض في لعبة المصالح الكبرى عندما تجلس الدول للتفاوض؟

الجزيرة نت

 

 

 

مصير المنطقة الآمنة شمال سورية/ حسين عبدالعزيز

لم يمضِ يوم واحد على سيطرة الجبهة الشامية على بلدة دلحة وسيطرة لواء السلطان مراد على قرية حرجلة في ريف حلب الشمالي، حتى كشفت مصادر تركية أن المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا لإقامتها في الشمال السوري ستقام خلال أسبوع (من جرابلس إلى شنكال في أقصى الشمال الغربي على الحدود التركية، مروراً بدير حافر وتل رفعت وبلبل) مع تلميحات إلى مشاركة فرنسية في عمليات الدعم الجوي.

لا يشكل هذا التسريب مفاجأة، حيث لوحظ منذ نحو شهر تزايد الخطاب السياسي التركي في الحديث عن المنطقة الآمنة، وكان آخرها في العاشر من الشهر الماضي حين أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن حلفاء لتركيا في المعركة ضد تنظيم «داعش» يقتربون من فكرة إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري.

لكن حتى الآن لا يبدو واضحاً ما هي طبيعة هذه المنطقة، هل ستكون كما كانت تطالب أنقرة منذ نحو عامين، بحيث تشكل قاعدة عسكرية للانطلاق منها نحو جبهات أخرى؟ أم هي مجرد منطقة آمنة تكون مأوى للنازحين وقاعدة للحكومة الموقتة التابعة للائتلاف؟

ما هو واضح حتى الآن أن الحاجة إلى هذه المنطقة أصبحت ضرورية بعد أحداث باريس، ما يرجح أن تكون لهدف إنساني وعسكري دفاعي لإخراج «داعش» منها، أي أنها لن تكون منطلقاً لعمليات عسكرية، وستكون تحت حماية فصائل المعارضة المعتدلة المدعومة من تركيا ودول إقليمية أخرى كـ «الجيش الحر» ولواء السلطان مراد التركماني، و «الجبهة الشامية» التي تضم أهم القوى العسكرية (أحرار الشام، جيش المجاهدين، حركة نور الدين الزنكي، الجبهة الإسلامية، جيش الإسلام، أنصار الشام، لواء التوحيد، فيلق الشام، وغيرها).

على المستوى الأوروبي، تخفف المنطقة الآمنة من عبء اللجوء إلى أوروبا، فمن شأنها أن تتحول إلى مكان للنازحين من داخل سورية واللاجئين من خارجها، وكانت الحكومة التركية قد أعلنت قبل أشهر أن مئات آلاف اللاجئين السوريين في تركيا سيستقرون في المنطقة الآمنة عندما تتم إقامتها.

وعلى المستوى التركي، تشكل هذه المنطقة عازلاً في وجه الحكم الذاتي الذي يسعى الأكراد إلى إقامته على كامل الحدود التركية – السورية، وربما هذا ما يفسر غياب العنصر الكردي في العملية العسكرية التركية – الأميركية، ووجود العنصر التركماني.

وربما استخدام لفظ المنطقة الآمنة بدلاً من المنطقة العازلة له دلالته، فالأخيرة تعني عزل منطقتين عن بعضهما البعض بينهما نزاع عسكري، أما المنطقة الآمنة التي تم التوافق عليها بين الأتراك والأميركيين منذ نهاية تموز (يوليو) الماضي، فهي المنطقة الخالية من التهديدات الإرهابية وتكفل الأمن لساكنيها، ولا تتطلب تدخلاً عسكرياً برياً ولا حظراً جوياً، وهما أمران تضع موسكو عليهما الفيتو.

وخلال الأسابيع الماضية ركز النظام السوري على محورين في ريف اللاذقية الشمالي، الأول تلال جب الأحمر (غرب) تمهيداً للسيطرة على بلدة السرمانية في سهل الغاب بمحافظة حماة شرقاً ومن ثم تكوين منطقة محصنة تضم أيضاً معسكر جورين لتكون قاعدة عسكرية للجيش السوري للانطلاق نحو ريف إدلب الجنوبي وخصوصاً نحو مدينة جسر الشغور، والمحور الثاني بلدة غمام وجبل الأكراد.

ولكن خلال الأيام الماضية، بدأ النظام العمل على محور ثالث، يتمثل بجبل التركمان في الشمال الغربي لريف اللاذقية من أجل السيطرة على نبع المر وقرية عفريت وتلة العزر، وترافقت عمليات هذا المحور مع هجوم جوي عنيف شنته الطائرات الروسية.

يشكل المحور الثالث (جبل التركمان) هدفاً استراتيجياً مهماً للجيش السوري من ناحيتين:

1- تطويق الساحل من الناحيتين الشرقية والشمالية قبيل وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في اجتماع فيينا، وبالتالي إخراج الساحل من ساحة الصراع.

2- العمل على وأد إمكانية إقامة منطقة آمنة شمالي سورية، ومن شأن السيطرة على جبل التركمان أن تعيد خلط الأوراق في الشمال، حيث سيضطر المقاتلون التركمان في لواء السلطان مراد إلى ترك العملية العسكرية التركية – الأميركية والعودة للدفاع عن جبلهم.

غير أن التطور الأهم الذي أعاق على ما يبدو إقامة المنطقة الآمنة هو إسقاط تركيا الطائرة الروسية، وبدا واضحاً أن الروس سيردون على تركيا في سورية، عبر منع إقامة هذه المنطقة.

ولعل تركيز الطيران الروسي على جبلي الأكراد والتركمان، ومن ثم نشر صواريخ «أس 400» في اللاذقية، مؤشر واضح في هذا الاتجاه، وهو ما أدركته أنقرة التي أوقفت مشاركة طيرانها في عمليات التحالف الدولي خشية رد روسي مماثل، وبالتالي دخول البلدين مرحلة المواجهة المباشرة.

* إعلامي وكاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

موسكو- أنقرة: منازلة مفتوحة/ بشير البكر

لن يكون حادث إسقاط تركيا الطائرة المقاتلة الروسية، صباح 24 من الشهر الماضي، فوق الأراضي السورية، سوى المدخل لنزاع مفتوح بين البلدين، صاحبي الحضور الأكبر في الشأن السوري، فمنذ ذلك اليوم، والتوتر على أشده بين موسكو وأنقرة، وبدأت تتجمع سحب سوداء في سماء المنطقة، بما ينذر بعاصفة هوجاء. وعلى الرغم من مساعٍ ومحاولات دولية عديدة، من أجل التهدئة وتصفية الأجواء بين البلدين، فإن روسيا لا تزال غاضبة ورافضة أي صيغة تسوية، أو حديث مباشر مع تركيا، وكان آخر جهود الوساطة تلك التي قامت بها أطراف إقليمية ودولية، من أجل عقد لقاء بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، على هامش قمة المناخ في باريس يوم الإثنين، لكنها فشلت بسبب الرفض الروسي الذي تجاوز قواعد اللياقة الديبلوماسية، ذلك أن المسؤولين الروس استمروا في إصدار ردود فعل عدوانية وتهديدات متواصلة، تتركز على عدم التنازل عن حق الرد على الحادث، وتوجيه اتهامات لأنقرة بأنها أسقطت الطائرة عن سابق عمد وإصرار، وأنها ترعى إرهاب داعش، الأمر الذي أثار استهجان الأطراف الدولية التي سجلت، منذ البداية، أن تصرف تركيا كان ضمن حدود القواعد العسكرية المتعارف عليها في الدفاع عن النفس وحفظ السيادة، بعد أن تأكد اختراق الطائرة الروسية الأجواء التركية، ورفضها الاستجابة للتحذيرات التركية.

قد يكون حادث إسقاط الطائرة الروسية قد سرّع في المواجهة بين أنقرة وموسكو، ولو لم يقع هذا الاشتباك غير المحسوب، لكان حصل أمر مشابه، على الدرجة نفسها من الخطورة، وكانت المعطيات كافة تؤكد على أن الموقف سيصل إلى ما هو عليه اليوم من احتدام وتشنج، ولم تكن تنقصه سوى الشرارة التي ستشعل السهل. صحيحٌ أن تركيا لم تصل، قبل حادث الطائرة، إلى حد الإعلان المباشر عن أنها لا تقبل بالوجود العسكري الروسي في سورية، لكن تحركاتها وردود أفعالها كافة كانت تقول ذلك، وتعبر عنه من دون مواربة، هذا في الوقت الذي دخلت فيه روسيا إلى الأجواء السورية من دون إقامة أي اعتبار لتركيا، وكان غاية في الاستفزاز والتعالي أن تنسق روسيا، أولاً، مع إسرائيل، ومن ثم الولايات المتحدة، ولم تعر تركيا اهتماما، على الرغم من أنها أكثر بلد على صلة مباشرة بتداعيات الوضع السوري السياسية والاجتماعية. وفوق ذلك، شرعت مباشرة باستهداف القوى السورية المعتدلة، ولم توجه نيرانها نحو داعش، وحين بقيت تركيا في موقع امتصاص الصدمات، انتقل القصف الجوي الروسي، ليطاول جبل التركمان، من دون تفريق بين مدنيين وعسكريين، الأمر الذي أسفر عن موجة نزوح كبيرة إلى تركيا، وأحدثَ حالة غضب تركية داخلية، لكون التركمان خطا أحمر بالنسبة لتركيا، وهذا ما يفسر أن الطائرة سقطت في جبل التركمان.

على العموم، ستتخذ روسيا من مسألة الطائرة ورقة ابتزاز لتركيا في سورية، وسيشكل تطور هذا الموضوع أرضية التفاهم أو النزاع حول الموقف في سورية، ومن المرجح أن الاحتمال الثاني هو الذي سيحكم العلاقات الروسية التركية، فلدى كل طرف من الطرفين أجندة خاصة، وهما أجندتان متعارضتان ومتصادمتان. جاءت روسيا من أجل تثبيت بشار الأسد، وتركيا تعمل منذ أربع سنوات على إسقاطه، وعلى الرغم من استمرار مسار فيينا السياسي، فإن عقدة بشار الأسد ستبقى على حالها، وقد رفض بوتين أي مساومة بصددها، وعلى الأرجح، يكمن سبب تصلبه في أن وجود الأسد هو المبرر الوحيد للوجود الروسي في المنطقة، وإذا رحل فما على الروس إلا أن يرحلوا بدورهم.

جاء الروس إلى سورية ليبقوا، ولن يتراجعوا إلا في أحد حالين، أن يصبح تدخلهم مكلفاً، أو أن يقبضوا ثمن جلد الأسد.

العربي الجديد

 

 

 

انكسار الحلم العثماني؟/ حسان القالش

انكسرت هيبة العثمانيّة الجديدة في أوّل مواجهة علنيّة ومفتوحة مع روسيا، خصمها التاريخي اللّدود. فالخطاب الواثق، المليء بالقوّة والصلابة الذي ظهر في الأيام الأولى التي تلت إسقاط الأتراك المقاتلة الروسية، لم يتمكّن من الصمود، إذ بدّده أردوغان عندما لجأ أخيراً إلى خطاب تهدئة مفاجئ، يتجاوز في دلالاته مجرّد السّعي إلى التهدئة. فالّلهجة التي استخدمها كانت صادمة وجديدة بالنسبة إلى متابعيه ومريديه، ولا تشبه تلك التي استخدمها مثلاً غداة حادثة العبّارة التركية التي استهدفتها إسرائيل، والتي حقّقت في النهاية النتيجة الرمزية التي سعى إليها والمتمثّلة بالاعتذار الإسرائيلي عن الحادثة. إلى هذا، يُلاحظ وجود شيء من الخوف، أو ربما الخشية التركية من التصعيد مع روسيا والسّير نحو مواجهة مفتوحة.

بيد أنّ ما جرى يكشف واحدة من أعمق أزمات تركيا الحاليّة وأخطرها، والمتمثّلة بسياسة الرئيس التركي وشخصه. ذاك أنّ أردوغان الذي كان يمتلك مشروعاً مزج فيه بين الطموح العثماني وبناء دولة تتجاوز الإرث الأتاتوركي الخانق، كان نجح فقط في تخليص الدولة التركية من سيطرة الجيش والقيام بما يمكن تسميته «قتل الأب» المتمثّل بكمال أتاتورك. في المقابل، تبدو الأيديولوجيا العثمانيّة التي يعتنقها أردوغان وجماعته، في وضع حرج. فبعدما كانت الأمور تسير في شكل جيّد ومستقر، ظهرت الثورة السورية التي وضعت وتيرة الطموح التركي على المحكّ. هذا إضافة إلى التحول الذي شهدته شخصية أردوغان نفسه، إذ أدّى غروره وثقته المفرطة بنفسه إلى إحداث شقاق بين رفاقه، تسبّب بتهميش البعض كعبدالله غل، وإفساد البعض الآخر بالمشاحنات والأطماع الشخصيّة وعلى رأسهم أحمد داود أوغلو، أحد كبار منظّري الحلم العثماني، والذي كانت الصحافة الغربية تصفه بـ «كيسنجر السياسة التركيّة».

بيد أنّ الخطر الأكبر كان في الانقلاب على فتح الله غولن والقضاء على نفوذه. ذاك أنّ الأخير كان يمثّل الحامل الاجتماعي الأبرز لسياسة إسلامية، وبخسارته سيكون من الصعب على تركيا تجاوز دول وسط آسيا ذات الأصول التركيّة والتواصل مع الشعوب الإسلاميّة المحيطة بروسيا وخلق رابطة عثمانية – إسلاميّة تقوّي من خلالها حلمها الإمبراطوري، الأمر الذي بإمكانه أن يشكّل عامل ضغط أساسياً على روسيا. وربّما كان أردوغان، بغروره المتعاظم، يتخيّل أنّه يمتلك أوراق «الديموغرافيا العثمانية» تلك، والتي تبقى مجرّد احتمالات، إذ لم تستطع الصمود أمام القوّة الروسيّة المتوحّشة التي تبدو اليوم كأنّها أقوى الأوراق في مواجهة العالم أجمع.

* كاتب وصحافي سوري

الحياة

 

 

 

 

قصة طائرتين/ د. عماد بوظو

قصّة طائرتين جمعهما مصير أسود.. الطائرة الأولى هي البوينغ 777 التابعة للخطوط الماليزيّة، الّتي تحطّمت في يوليو 2014 وقتل كل من كان على متنها وعددهم 298 شخصا،من مختلف الجنسيات. كان ارتفاع الطائرة عندما فقد الاتّصال بها 10000 متر، وكانت تطير في شرق أوكرانيا قرب الحدود الروسيّة، ولم يبلّغ طاقم الطائرة عن أي مشكلة أثناء تحليقها، وكذلك صندوقها الأسود. في اليوم التالي أعلن الرئيس أوباما أنّ صاروخ أرض جو انطلق من المناطق الّتي يسيطر عليها الانفصاليّون الموالون لروسيا تسبب بإسقاط الطائرة. كما أعلن مسؤول مخابرات أوكراني أنّ الفريق الّذي شغّل نظام الصاروخ الّذي أسقط الطائرة هو فريق روسي استنادا إلى أدلّة قاطعة حسب تصريحه. في البداية ادعى الإعلام الروسي أنّ الصاروخ أطلقه الجيش الأوكراني مستهدفا طائرة الرئيس بوتين، الّتي مرّت قرب هذه المنطقة قبل 35 دقيقة، وفيما بعد قال الإعلام نفسه إنّ طائرة أوكرانيّة حربيّة أسقطت الطائرة الماليزيّة بصاروخ. تأخّر سماح السلطات الروسيّة للمحققّين بالوصول لمكان الحطام، حرصا على سلامتهم، بضعة أيام، ثمّ تم تشكيل فريق هولّندي للتحقيق بالحادثة باعتبار أن 196 من الضحايا هولنديون، استغرق التحقيق 15 شهرا ووصل إلى نتيجة أنّ صاروخا روسيّا من طراز BUK 38 M انفجر على مسافة قريبة جدّا من قمرة القيادة، وإنّ شظايا من هذا الصاروخ وجدت داخلها. بعد صدور نتيجة التحقيق أحالت هولنّدا الموضوع لمجلس الأمن، وطلبت تشكيل محكمة خاصّة لمحاكمة المسؤولين عن هذه الكارثة، واتّصل رئيس الوزراء الهولّندي ببوتين طالبا منه المساعدة بإحقاق العدالة. وفي يوليو 2015 استخدمت روسيا حقّ النقض ضد مشروع القرار الماليزي لتشكيل هذه المحكمة وامتنعت الصين وأنغولا وفنزويلا عن التصويت. وأعربت المندوبة الأمريكيّة سامنثا باور عن صدمتها لرؤية روسيا تحاول عرقلة العدالة للضحايا، واقتصرت تصريحات المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي على: «ما زلنا نصلّي من أجل الضحايا وعائلاتهم».

الطائرة الثانية هي ايرباص 321 التي سقطت في أكتوبر 2015 بعد 23 دقيقة من إقلاعها من مطار شرم الشيخ متوجّهة إلى سان بطرسبرغ في روسيا، وعلى متنها 224 راكبا من روسيا الاتّحاديّة قضوا جميعا بالحادث. مثل سابقتها كانت الطائرة على ارتفاع 10000 متر عندما فقد الاتّصال بها، ولم يبلّغ طاقم الطائرة عن أي مشكلة أثناء تحليقها وكذلك صندوقها الأسود.

أعلن «داعش» مسؤوليّته عن العمليّة انتقاما لما تقوم به روسيا في سوريا. أعلن بوتين الحداد وشكّل مع المصريّين لجنة للتحقيق بالحادث، أعلن المسؤولون الروس والمصريّون أنّ التحقيق قد يستغرق أشهرا، ثم صرح رئيس المخابرات الأمريكيّة أنه لا يستبعد إسقاط داعش للطائرة. وذكرت تقارير غربيّة أنّ صور الأقمار الصناعيّة أظهرت ومضة حراريّة في منطقة تحليق الطائرة. أما أوباما فصرح بأن قنبلة قد تكون سبب سقوط الطائرة.

في الوقت نفسه فإن وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون صرّح بأنّ متشدّدين أسقطوا الطائرة الروسيّة عن طريق قنبلة على متنها، وهذا ما قاله فيليب هاموند وزير الخارجيّة البريطاني. كما أنّ الصندوق الأسود سجّل في الثانية الأخيرة صوت انفجار. خلال العشرة أيّام الّتي تلت الحادثة لم يظهر بوتين على الإعلام إلّا مرّة واحدة معزّيا الضحايا وهذا غير مألوف بالنسبة لبوتين كثير الظهور إعلاميّا. كما صرّح رئيس الوكالة الروسيّة للطيران المدني أنّ التحقيق قد يستمر شهورا.. ورغم أنّه تمّ إيقاف الرحلات الروسيّة للمطارات المصريّة وتمّت إعادة السياح الروس لبلدهم، ومنعت طائرات مصر للطيران من التحليق إلى روسيا، لكنّه تمّ التأكيد عدّة مرّات على أنّ هذه الإجراءات لا تعني أبدا أنّ سبب سقوط الطائرة الروسيّة هو عمل إرهابي. أخيرا جاء الإنقاذ لبوتين بعد ستّة عشر يوما من المكابرة، عند وقوع العمليّات الإرهابيّة في باريس، حيث تمّ الإعلان رسميّا من قبل موسكو بعد ثلاثة أيّام من هجوم باريس أنّ الطائرة الروسيّة تمّ إسقاطها بقنبلة وضعت على متنها أي أنّ روسيا مستهدفة من قبل الإرهابيين مثل غيرها، ولا علاقة للحادث بما تقوم به موسكو في سوريا.

بين هاتين الحادثتين الكثير من النقاط المشتركة مثل الارتفاع والاختفاء المفاجئ عن الرادار والصندوق الأسود، الّذي لا يحوي الكثير والسقوط بفعل فاعل، والنقطة المشتركة الأهم هي روسيا بوتين، الّتي تقوم بكلتا الحالتين بتأخير التحقيق ومحاولة التأثير على شفافيتّه.

في الحالة الأولى كان الروس متّهمين ومن مصلحتهم عرقلة التحقيق، بينما في الحالة الثانية رغم أنّهم الضحايا فقد قاموا بتأخير الإعلان عن مجريات التحقيق لأسباب سياسيّة بحته، حتّى لا تعتبر الحادثة مرتبطة بالتدخّل العسكري الروسي في سوريا، مّا يفتح الباب لنقاشات داخليّة لا تريدها القيادة الروسيّة. وفي كلتا الحالتين فإنّ الحياة البشريّة ليست ذات أولويّة عند هذه القيادة حتّى لو كانوا مواطنين روسا.

وبما أنّنا نتحدّث عن روسيا وحوادث الطيران فلن نستطيع تجاهل حادث آخر في 2010 عندما تحطّمت طائرة توبوليف عند اقترابها من مطار سمولنيسك في روسيا وكان على متنها 96 شخصا، بينهم رئيس بولندا ليخ كاتشينسكي وزوجته ورئيس أركانه، وقائد القوات الجويّة البولنديّة وكبار ضباط الجيش، وحاكم البنك المركزي و15 نائبا في البرلمان البولندي، قتلوا جميعا، وكان هذا الوفد الرئاسي البولندي، يقوم بزيارة غير رسمية، إلى بلدة كاتيان الروسية لإحياء الذكرى السبعين للمجزرة الّتي أعدم فيها الجنود السوفييت، أيّام ستالين 20 ألف جندي بولندي أسير. شكّلت روسيا لجنة تحقيق أصدرت تقريرها في يناير 2011 قالت فيه إنّ سبب الحادث عدم كفاءة طاقم الطائرة، وإنّ قائد القوة الجويّة البولندي كان في قمرة القيادة ممّا شكّل ضغطا نفسيّا على الطاقم، كما أنّ هناك نسبة كحول عالية بدم الطيارين رفض رئيس وزراء بولندا مسودّة التقرير وقال إنّه غير مقبول، وقالت لجنة التحقيق البولنديّة إنّ مسؤولي منطقة الهبوط الروس أعطوا معلومات خاطئة لأفراد الطاقم بالطائرة المنكوبة وانهم متأكدين من أن الطيارين لم يقوموا بأي عمل خاطئ، كما أنّ الإضاءة في مطار سمولنسك كانت ضعيفة وغير كافية. ورفعت الحكومة البولنديّة دعوى قضائية بحق مسؤولي برج المراقبة الروس.. ثلاث حوادث تحطم طائرات ومقتل كل ركابها، مع لجان تحقيق روسية مشكوك بمصداقيّتها في ظل قيادة بوتين في فترة زمنيّة قصيرة، مع اختلاف ظروف كل منها، إلا أنها تبقى مصادفات غريبة.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

أردوغان… بوتين… أوباما… من يناور ضد من؟/ بدرالدين عرودكي

بدرالدين عرودكي

ما كان بوسع أردوغان أن يتأخر عن إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت خلال سبع عشرة ثانية المجال الجوي التركي. فعلها الطيران الروسي مرات عدّة قبل ذلك منذ أن زج بأسطوله الجوي لدعم نظام الأسد تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب، كما لو أنه كان يقول رسالة بكلمتين: نحن هنا. أي أن على الأتراك أن يتصرفوا من الآن فصاعداً بناء على وانطلاقاً من هذا الواقع الجديد.

للوهلة الأولى بدا التنسيق بين قوات التحالف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وروسيا كما لو كان تنفيذاً لاتفاق غير معلن بين الطرفيْن حول سوريا يهدف إلى موازنة القوى بين النظام والمعارضة لإمكان الوصول إلى حل سياسي يرضي الجميع. أما نقطة الخلاف الوحيدة فقد تركزت على كيفية وموعد رحيل الأسد.

لكن روسيا وإيران تقاسمتا الأدوار جواً وأرضاً لتحقيق هدف لم ينكره أحدهما، هو دعم الأسد ونظامه «في وجه الإرهاب»، إرهابٌ تمثله «داعش» بوصفها تعني في مفهومهما كل قوة أو منظمة حملت السلاح بهدف إسقاط النظام الأسدي ورموزه، لا «دولة التنظيم» المعلنة في العراق وسوريا بالمعنى الدقيق للكلمة.

في الوقت نفسه كان أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» يكسبان جولة الانتخابات الأخيرة التي بات بوسعه إثر نتيجتها تأليف حكومة تدعمها الأكثرية الجديدة في البرلمان، ويستعد بالتالي لاستئناف ما اضطر إلى تأجيله منذ فشله في انتخابات حزيران/يونيو الماضي بعد انضمامه إلى قوات التحالف ضد تنظيم «الدولة» التي باتت تستطيع الانطلاق من القواعد العسكرية في تركيا: أي رسم حدود المنطقة الآمنة على طول الحدود السورية التركية التي كان أشد الداعين لها والمدافعين عن ضرورتها لتحقيق هدفين: حل مشكلة اللاجئين السوريين الذين بلغ عددهم في تركيا قرابة المليونين، والحيلولة دون قيام أي كيان كردي مستقل ضمن الحدود السورية.

وكأنما كان هذا الهدف، حسب التصريحات الأمريكية وسواها في حلف «الناتو» بصرف النظر عن التوصيفات، قد بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق. رأى أردوغان في ذلك ضوءاً أخضر يستطيع معه أن ينتقل إلى حيز الإنجاز في الوقت الذي بدأت فيه روسيا السيطرة كلياً على الأجواء السورية، بل وأن يكف عن السكوت على الاختراقات الجوية التي ارتكبتها الطائرات الروسية. وحين قال ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الأطلسي في العاشر من تشرين الأول/اكتوبر الماضي، «إن روسيا تقوم بتصعيد عسكري مقلق» مشيراً إلى الاختراقات الجوية للمجال التركي، قال أيضاً جواباً عن سؤال يتناول جاهزية الناتو لتوسيع مهماته: إن «الحلف الأطلسي قادر وجاهز للدفاع عن جميع حلفائه بمن فيهم تركيا».

«بمن فيهم تركيا»، كما لو أن تركيا ليست عضواً كامل العضوية في الحلف! كان ذلك ضوءاً أخضر بالتأكيد لكنه ضوءٌ رجراجٌ يقول أكثر من رسالة كلٌّ منها ينطوي على قدر من الغموض.

فحين أسقطت الطائرات التركية الطائرة الروسية بعد عشرة إنذارات خلال سبع عشرة ثانية، بادر جميع الحلفاء كما فعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما وأمين حلف الناتو ستولتنبرغ، إلى دعم حق تركيا «في الدفاع عن سيادتها»، داعييْن كلاهما مباشرة تركيا وروسيا إلى الحوار.

هل كان إسقاط الطائرة الذي يبدو أنه نال الضوء الأخضر مسبقاً من واشنطن ينطوي على رسالة ما؟ وإلى من كانت موجهة؟ إلى بوتين؟ أم، بصورة ما، إلى أردوغان نفسه؟ أم إلى سواهما من القوى الإقليمية كإيران والسعودية، أم للجميع معاً؟

ذلك أن الفعل لم يكن عادياً بما أنها المرة الأولى التي تقوم فيها دولة عضو في حلف الناتو بإسقاط طائرة لقوة كبرى هي روسيا منذ أكثر من نصف قرن! وما كان بوسع هذا الفعل أن يمر مرور الكرام والجميع يعلم علم اليقين ما ينطوي عليه من استفزازٍ وتحد للكبرياء البوتينية!

وعلى أنها القوة العسكرية العاشرة في العالم، لا تستطيع تركيا، لوحدها، أن تواجه القوة الروسية. فهل اتخذ القرار دون الانتباه إلى أن الضوء الأخضر كان رجراجاً بما فيه الكفاية؟

ربما يسعنا العثور على بعض الإجابات في النتائج التي تمخض عنها هذا الحادث وما سيتمخض عنه خلال الأيام والأسابيع القادمة.

من الواضح أن الآثار تطال الطرفين، وفيما وراء ما أطلق عليه بوتين «العواقب الوخيمة» في أول تصريح له بعد الحادث والتي ظهر جلياً أنها ستكون ذات طابع اقتصادي خصوصاً. لكن مثل هذه العواقب، أياً كان الطرف الذي سيتخذ إجراءاتها، ستنعكس لا محالة على الجانبيْن، وربما على روسيا أكثر من تركيا. ولعلّ العواقب الحقيقية ستكون في مجال آخر. فلابد أن بوتين قد رأى أنه لن يُتركَ وحيداً على الساحة السورية وأن دعمه لنظام الأسد بالتعاون مع إيران لن يكون نزهة ممتعة. فها هي صواريخ «تاو» التي سمحت أخيراً الولايات المتحدة بتسليمها إلى الثوار السوريين تحول دون تقدم قوات النظام وميليشيات إيران وحزب الله في أي مكان جنوباً ووسطاً وشمالا بل وأن تسقط الطائرة الثانية بعد إسقاط الأولى على أيدي الأتراك. ولابد أن أردوغان قد أدرك ـ في الوقت نفسه ـ أن عليه أن يؤجل مشروع المنطقة الآمنة إلى أجل غير مسمى.

لن تكون فرنسا، هي الأخرى، وهي الحليفة الغربية الأقوى مع ذلك، بعيدة عن ميدان هذه المعركة. إذ هي الدولة الوحيدة من بين الدول الغربية جميعا التي بقيت تلح على ضرورة الجمع بين تنظيم «الدولة» والأسد وعدم الفصل بينهما.

أكان لابد من الحدِّ من غلواء هذه السياسة التي تقف على النقيض من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وحلفائها الأقربين في أوروبا؟ إذ إثر عملية 13 تشرين الثاني/نوفمبر الإرهابية بباريس، حدث منعطف واضح في السياسة الخارجية الفرنسية لابد أن نشهد نتائجه قريباً يمكن تلخيصه على النحو التالي: «داعش عدونا، وبشار الأسد عدو شعبه»، كما جاء على لسان أحد المسؤولين الفرنسيين.

أول هذه النتائج عزم الرئيس الفرنسي على العمل مع روسيا على الأرض السورية إلى جانب قوات التحالف تحت القيادة الأمريكية. لكن إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا بدا كما لو أنه كان يضع عقبة حقيقية أمام جهود الرئيس الفرنسي لتوحيد الجميع في معركته ضد تنظيم الدولة.

هل هي الصدفة التي أدت إلى كل هذه النتائج؟

لا صدفة في السياسة. طبعاً. لاسيما وأن ما يجري يطال مصائر الجميع ومصالحهم، كباراً وصغاراً، وأياً كانت صلة القربى التي تربط كلاً منهم بالمشهد السوري.

سوى أن حادث إسقاط الطائرة الروسية وعواقبه يعكس ضروب المصالح المتناقضة التي باتت تسم المشهد السوري، وذلك منذ أن قرر نظام الأسد استخدام تنظيم «الدولة» بوصفه تجسيد الإرهاب بديلاً عنه كي يرغم الغرب على إعادة تأهيله مجدداً بعد أن حكم عليه بعدم الصلاحية. وهو الجهد الذي لم تكف روسيا عن العمل لترويجه بعد تبنيه بلا أي تحفظ، بحيث بدا وكأنه الحقيقة السياسية الوحيدة المطروحة لا في الإعلام الغربي فحسب بل كذلك في أوساط اليسار السياسي الأوروبي عموماً وبعض ممثلي اليمين المتطرف بوجه خاص.

تناقض المصالح العميق هذا يؤدي إلى ضروب من التعقيد لابدّ من متابعة تفاصيلها ومنمنماتها من أجل تفكيكها ورسم خارطة دهاليزها بقدر الإمكان. لا من أجل التأويل أو التفسير، بل من أجل محاولة الفهم، بكل بساطة، لما يجري على الساحة أمام أعيننا ويبدو كما لو كان مجموعة من الألغاز لا قبل لنا بحلها.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 تصعيد حرج: تداعيات إسقاط المقاتلة على العلاقات التركية-الروسية

مركز الجزيرة للدراسات

ملخص

لم يكن إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية إلا تعبيرًا عن الخلافات العميقة بين البلدين في الساحة السورية، حيث تعتقد موسكو أن حماية حليفها، النظام السوري، لن يتحقق إلا بضرب مصادر قوة المعارضة السورية المسلحة وقطع إمداداتها، والتضييق على حركتها، أما تركيا فإنها تعتقد أن من مصلحتها إسقاط نظام الأسد من خلال تعزيز قوة المعارضة المسلحة، والتواصل معها بالإمدادات، ومنحها عمقًا حيويا.

يحُول انتماء تركيا إلى الحلف الأطلسي وارتباطها مع روسيا بعلاقات تجارية واقتصادية وطيدة دون التصعيد، لكن الخلافات الاستراتيجية بينهما قد تؤدي إلى الوقوع في دائرة العنف والعنف المضاد إذا لم يتعاضد الطرفان للتوصل إلى حل سياسي يؤمن مصالحهما معًا.

مقدمة

بعد قليل من التاسعة، صباح الثلاثاء 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بتوقيت تركيا المحلي، أطلقت طائرتان تركيتان من طراز (إف 16) صواريخهما على طائرة روسية من طراز (سوخوي إس يو 24)، فأسقطتها في الحال. طبقًا لرواية قيادة الأركان التركية، وجَّه الجانب العسكري التركي عشرة إنذارات للطائرة الروسية بالابتعاد عن المجال الجوي التركي، خلال خمسة دقائق، ولم تقم الطائرات التركية بإسقاط الطائرة الروسية إلا بعد أن أصرَّت على انتهاك المجال الجوي التركي. وطبقًا للجانب التركي، أيضًا، لم تكن هذه الحادثة الأولى لانتهاك المجال الجوي لتركيا منذ بدأت العملية العسكرية الروسية الجوية في سوريا في 30 سبتمبر/أيلول؛ مما دفع المسؤولين الأتراك لإبلاغ نظرائهم الروس بأن الجيش التركي سيتبع قواعد الاشتباك بصرامة مع أية طائرة تنتهك السيادة الجوية التركية.

الروس، من جهتهم، أصرُّوا على أن الطائرة التي أسقطها الأتراك كانت تحلِّق بعيدًا عن الحدود التركية بمسافة كافية، وأن انتشار حطامها المدمَّر فوق الأراضي السورية، لا التركية، دليل على أنها لم تنتهك السيادة الجوية التركية.

أثار إسقاط الطائرة الروسية أصداء على مستوى الإقليم والعالم، وأعاد التوكيد على التعقيد الذي بات يحيط بالأزمة السورية والمخاطر المترتبة عنها على الأمن الإقليمي والعالمي. هذه أول طائرة روسية تُسقطها نيران دولة عضو في حلف الناتو منذ الحرب الكورية في مطلع الخمسينات. وقد جاء إسقاط الطائرة في وقت بدا أن روسيا تستعرض عضلاتها في الشرق الأوسط لإعادة التوازن إلى علاقاتها مع الغرب الأطلسي. هذه صفعة ثقيلة لكبرياء روسيا ومخططات إدارة بوتين الجيوسياسية. ولذا، فيجب ألا يكون هناك شك في غضب موسكو وعزمها على الرد.

أين تقع جذور هذه الأزمة في العلاقات الروسية-التركية؟ وإلى أية درجة ستؤثِّر على مستقبل هذه العلاقات، التي نمت بصورة مطَّردة في السنوات العشر الماضية، سيما في جانبيها التجاري والاقتصادي، بالرغم من خلافات سياسية متكررة؟

جذور الأزمة

كما كل الدول المؤيدة للمعارضة السورية، لم تكن تركيا سعيدة بالتدخل الروسي العسكري المباشر في الأزمة السورية في نهاية سبتمبر/أيلول 2015؛ وكما معظم هذه الدول، بدت تركيا وكأنها فوجئت بحجمه ودرجته. ولكن قلق تركيا من الخطوة الروسية كان من نوع آخر؛ فالحدود التركية مع سوريا تمتد إلى أكثر من 900 كيلومتر؛ وتركيا، كما السعودية وقطر، تلعب دورًا رئيسًا في دعم المعارضة السورية المسلحة والسياسية، على السواء. إضافة إلى ذلك كله، تستضيف تركيا ما يزيد على مليون من اللاجئين السوريين، الذين لم يكن هناك شك في أنقره أن التدخل الروسي سيضيف إليهم عشرات آلاف آخرين. ومجمل القول: إن المسؤولين الأتراك يرون التدخل الروسي مجرد استخدام سافر للمأساة السورية لخدمة أهداف أخرى لصراع موسكو مع الغرب.

بيد أن العلاقات التركية-الروسية وصلت حدًّا بالغ التعقيد والتداخل خلال السنوات العشر الأخيرة؛ مما جعل ردود فعل أنقرة على الخطوة الروسية غير مباشرة. تحاشت تركيا أي صدام مباشر مع الروس في سوريا، ولكنهم، إلى جانب السعودية وقطر، لم يترددوا في رفع وتيرة دعم قوى المعارضة السورية المسلحة، لمساعدتها على مواجهة العامل الروسي الجديد في موازين القوى. بيد أن العملية الروسية في سوريا كانت تتطور بصورة بالغة الاستفزاز لتركيا والدول المؤيدة للمعارضة السورية.

أعلن الروس في بداية تدخلهم الجوي أن هدفهم الرئيس في سوريا هو مواجهة “الإرهاب”، سيما تنظيم الدولة الإسلامية ومن التحق بالجماعات “الإرهابية” السورية من مواطنين مسلمين روس. ولكن ما اتضح طوال ما يقارب الشهرين أن الغارات الروسية الجوية استهدفت كتائب الجيش الحر وقوى المعارضة السورية الأخرى بصورة أساسية، ولم يُخصِّص الطيران الروسي سوى نسبة قليلة من العمليات ضد تنظيم الدولة. ومنذ بداية النصف الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ الطيران الروسي سلسلة غارات على جبل التركمان، شمال اللاذقية، الملاصق للحدود مع تركيا والذي تقطنه أغلبية تركمانية سورية.

قبل ثلاثة أيام من حادثة إسقاط الطائرة الروسية، عقد رئيس الحكومة التركية أحمد داوود أغلو اجتماعًا عسكريًّا-أمنيًّا رفيع المستوى لمناقشة التصعيد الروسي ضد التركمان السوريين، الذين تربطهم وتركيا وشائج إثنيَّة وثقافية. والمعروف أن ليس ثمة وجود لتنظيم الدولة الإسلامية في جبل التركمان، ولا في كل منطقة المرتفعات الريفية شمال اللاذقية. المؤكد، أن اتصال وزير الخارجية التركي بنظيره الروسي للاحتجاج على استهداف الطيران الروسي للتركمان والتحذير من انتهاكات الطيران الروسي المتكررة للمجال الجوي التركي كان أحد نتائج هذا الاجتماع. ما لا يمكن توكيده، ولكن ما يجب عدم استبعاده، أن القيادة التركية أطلقت يد رئاسة أركان القوات المسلحة في التعامل بما يتطلبه الموقف من حزم للردِّ على أي انتهاك للسيادة الجوية للبلاد.

تداعيات إسقاط الطائرة

أصاب إسقاط الطائرة موسكو بما يشبه الصدمة. هذا هو الحادث الثاني، بعد تفجير تنظيم الدولة الطائرة الروسية في سيناء، الذي يمكن ربطه بالعملية الروسية في سوريا، التي حرص الرئيس الروسي على تقديمها لشعبه باعتبارها عملية نظيفة، مدروسة، وتتعلق بحماية روسيا ومصالحها وشعبها من “الإرهاب المحتمل”. وما فاقم من الموقف أن المعارضة السورية المسلحة نجحت بعد حادثة إسقاط الطائرة في تدمير طائرة مروحية روسية وقتل أحد أفراد طاقمها، أثناء قيام المروحية بالبحث عن طياري الطائرة التي أسقطتها الطائرات التركية. لم يُخْفِ بوتين صدمته في أول تعليق له على الحادث، بعد ساعات قليلة على إسقاط الطائرة، حيث قال: إن بلاده تلقت طعنة في الظهر في حربها على “الإرهاب”، ووصف تركيا بأنها متورطة في دعم تنظيم الدولة الإسلامية، وأن إسقاط الطائرة الروسية لن يمر بدون رد.

في اليومين التاليين، توالت التصريحات الروسية الغاضبة، التي انتقلت من التنديد بالتصرفات إلى التهجم على القيادات التركية، مثل قول الرئيس الروسي بوتين: إن العالم كله يعرف أن أردوغان يرعى مشروعًا لأسلمة تركيا. ولكن وزير الخارجية الروسي، الذي لم يُخفِ هو الآخر غضبه، وأعلن عن إلغاء زيارة مقررة مسبقًا لأنقرة، قال بوضوح في 25 نوفمبر/تشرين الثاني: إن روسيا لا تعتزم خوض حرب مع تركيا.

الجانب التركي، من جهته، وبالرغم من تظاهرات مجموعات قومية تركية في مدينتي إسطنبول وأنقرة، حاول احتواء الأزمة. بعد ساعات من إسقاط الطائرة، حاول الرئيس التركي أردوغان إجراء مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، ولكن الأخير لم يًجب. في اليوم التالي، أجرى وزير الخارجية التركية مكالمة مع نظيره الروسي استمرت ساعة كاملة، ولكن لافروف رفض -كما يبدو- طلب جاووش أغلو ترتيب لقاء مباشر بينهما. وبالرغم من إعراب مسؤولين في مكتب الرئيس التركي عن رغبة الأخير لقاء بوتين في باريس، على هامش قمة المناخ الدولية، إلا أن إشارة لم تصدر عن موسكو بالموافقة على لقاء الرئيسين. والواضح بصورة عامة أن الموقف التركي من الأزمة، الذي عبَّرت عنه تصريحات الرئيس أردوغان ورئيس الحكومة داوود أغلو ووزير الخارجية جاووش أغلو، دار حول المسائل التالية:

أن استهداف الطائرة لم يكن استهدافًا لروسيا، بل إن الطيارين الأتراك لم يعرفوا مسبقًا أن الطائرة التي أسقطوها كانت طائرة روسية. ما جرى كان مجرد التزام تركي، أُوضِح مسبقًا لكافة الأطراف المعنية، بقواعد الاشتباك المتعلقة بحماية سيادة الدولة.

أن تركيا ترفض الطلب الروسي بالاعتذار عن إسقاط الطائرة، لأن الطرف الذي انتهك المجال الجوي التركي هو المطالَب بالاعتذار.

أن تركيا لا ترغب في تصعيد الأزمة، وأنها لم تزل تنظر إلى روسيا باعتبارها دولة جارة وصديقة، تربطها بتركيا روابط عميقة ومتراكمة.

أن تركيا، بالرغم من ذلك، لا تجد تفسيرًا مقنعًا لسياسة روسيا في سوريا، سيما استهداف الطائرات الروسية لمناطق الأقلية التركمانية، كما للمدنيين السوريين وقوى المعارضة المعتدلة.

وربما يمكن القول: إن مسعى تركيا لاحتواء الأزمة جاء انعكاسًا لموقف الدول الرئيسية في حلف الناتو. قامت أنقرة، بعد ساعات قليلة من حادثة الطائرة، بإطلاع سفراء الدول الغربية الرئيسية في العاصمة التركية على خلفية الحادث وتفاصيله. وطلبت تركيا في اليوم نفسه عقد جلسة طارئة لحلف الناتو، قدَّم فيه الجانب التركي الأدلة على انتهاك الطائرة للمجال الجوي التركي وعلى التحذيرات المتتالية التي صدرت للطائرة قبل إسقاطها. في نهاية الاجتماع الطاريء لمجلس الناتو، خرج سكرتير عام الحلف، جنس ستولنبرغ، ليعلن تأييده للموقف التركي واعتبار تركيا قامت بما يتوجب عليها من إجراء قبل إسقاطها للطائرة. في مساء اليوم، 24 نوفمبر/تشرين الثاني، لم يتردد الرئيس الأميركي أوباما، في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي الزائر، عن إعلان تأييده هو الآخر للموقف التركي وإدانته للهجمات الجوية الروسية على مواقع المعارضة السورية.

بيد أن الملاحَظ في موقف حلفاء الناتو، سيما في الجانب الأوروبي، توكيدهم في الوقت نفسه على ضرورة ضبط النفس والابتعاد عن التصعيد. وبدا في التصريحات البريطانية والألمانية والفرنسية، على وجه الخصوص، الرغبة في تجنُّب الدخول في مواجهة جديدة مع روسيا، أو تأزيم العلاقات معها. كانت الهجمات المسلحة في باريس قبل حادثة الطائرة بعشرة أيام صنعت مناخًا مختلفًا في العواصم الأوروبية الرئيسية، ووضعت مسألة مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية على رأس أولويات الأوروبيين الخارجية. ويرى الأوروبيون أن بالإمكان، ربما، إقناع الروس بالتركيز في هجماتهم الجوية على تنظيم الدولة ومواقعه، والمساهمة بالتالي في الجهد الدولي لاقتلاع تنظيم الدولة من سوريا.

حدود العقوبات الروسية

ليس من الواضح لماذا تكررت انتهاكات الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي منذ بدء العملية الروسية في سوريا في نهاية سبتمبر/أيلول. أحد الدوافع، ربما، هو استعراض القوة؛ أو مجرد استهتار روسي بالدور التركي في سوريا. ولكن يجب أيضًا عدم استبعاد التداخل المعقَّد للحدود التركية-السورية في منطقة الساحل الغربية. مهما كان الأمر، فالواضح أن موسكو لم تتوقع على الإطلاق أن يأتي رد الفعل التركي يومًا كما جاء عليه في 24 نوفمبر/تشرين الثاني. وكان واضحًا من تصريحات كبار المسؤولين الروس أن موسكو سترد الصفعة بصورة أو أخرى، عاجلًا أو آجلًا. الاحتمال الأول الذي جرى تداوله كان تصاعد الأزمة إلى مستوى الاشتباك العسكري، وليس بالضرورة الحرب الشاملة، سيما أن القوات الروسية في سوريا سارعت في الأيام التالية إلى زيادة معدل الغارات الجوية على منطقة جبل التركمان.

بيد أن هذا الاحتمال مستبعد؛ فتركيا، مهما كان موقف حلفائها في الناتو من حادثة الطائرة، هي عضو فاعل وبالغ الأهمية في الحلف. وبالنظر إلى أن الأوروبيين يواجهون أزمة لاجئين متفاقمة، وأن هناك توجهًا أوروبيًّا متسارعًا للانخراط في عمل عسكري ضد تنظيم الدولة في سوريا، فإن حاجتهم لتركيا أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة. بمعنى، أن موسكو تدرك أن الاشتباك العسكري مع تركيا سيؤدي في النهاية إلى اشتباك مع حلف الناتو، وأن أحدًا ليس بإمكانه في حال الاشتباك مع الناتو توقع العواقب والتداعيات. ولا ينبغي المبالغة في قراءة نشر روسيا لنظام إس 400 المضاد للطائرات في شمال سوريا، أو رسوِّ حاملة الصواريخ المضادة للطائرات موسكوفا أمام ساحل اللاذقية؛ فالخطوتان قُرِّرتا قبل حادث إسقاط الطارة الروسية، على أية حال.

الاحتمال الثاني لما يمكن أن تتخذه روسيا من إجراءات يتعلق بالمجال الاقتصادي والتجاري؛ وهو مجال كبير ومتسع بالفعل. يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 35 مليار دولار، يميل بصورة هائلة لصالح روسيا. تستورد تركيا ما يقترب من نصف حاجاتها من الغاز من روسيا، ومن المفترض أن تبدأ روسيا قريبًا أعمال بناء محطة نووية لتوليد الطاقة على ساحل ولاية مرسين التركية. تستقبل تركيا سنويًّا زهاء ثلاثة ملايين سائح روسي. من جهة أخرى، تُعتبر روسيا سوقًا مواتية لشركات المقاولات والإنشاءات التركية. وقد وصل حجم الصادرات التركية لروسيا، التي هي في معظمها من المنتجات الزراعية، في النصف الأول من 2014 خمسة مليارات دولار. ولكن هذا الرقم انخفض إلى ثلاثة ونصف مليارات من الدولارات في النصف الأول من 2015، نظرًا لضعف الاقتصاد الروسي، وتراجع الليرة التركية أمام الدولار. عمومًا، جاء تحول روسيا إلى سوق معتبرة للصادرات الزراعية التركية بعد أن لجأت روسيا لتركيا لتعويض المقاطعة الأوروبية للسوق الروسية بفعل العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية على روسيا بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية.

خلال الأيام الأولى لأزمة إسقاط الطائرة وجَّه وزير الخارجية الروسي نداء لمواطنيه بالامتناع عن السياحة في تركيا. ولكن عددًا من شركات السياحة الروسية أعلن عن استمرار الرحلات إلى المنتجعات التركية، وعدم الرغبة في مقاطعة تركيا. كما أصدر رئيس الحكومة الروسية توجيهات لوزارات حكومته المختلفة لإعداد جملة إجراءات عقابية ضد تركيا، وأعلن عن قرار روسي بالعودة إلى فرض نظام فيزا الدخول على المواطنين الأتراك. في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، وقَّع الرئيس بوتين على جملة إجراءات عقابية ضد تركيا، بما في ذلك التوقف عن جلب العمالة التركية، ووقف إصدار تذاكر سفر إلى تركيا، بداية من 2016، وحظر استيراد منتجات تركية أخرى. ستكون هناك بلا شك عقوبات إضافية إن استمرت الأزمة بدون احتواء، مثل أن تلجأ روسيا لزيادة الضرائب الجمركية على الواردات من تركيا، إضافة إلى تعطيل حركة وسائل النقل التركية. هذه عقوبات ستترك أثرًا سلبيًّا على الاقتصاد التركي بلا شك، ولكنها تظل محدودة. مثلًا، أكَّدت غاز بروم الروسية أن إمدادات الغاز لتركيا ستستمر؛ كما أن من الصعب تصور مقاطعة شاملة للمنتجات التركية الزراعية، التي تمثِّل حاجة روسيَّة ضرورية. ولكن، إن استمرت الأزمة في التصاعد فليس مستبعدًا أن تطول العقوبات الروسية مجال الطاقة؛ بالرغم من أن العقوبات الاقتصادية والتجارية تضر بروسيا كما تضر بتركيا.

بيد أن هذا ليس كل شيء. بإمكان روسيا في المستقبل ربما إسقاط إحدى الطائرات التركية، وتبرير ذلك بخطأ ما أو بتحرش الطائرات التركية بطائرات روسية. كما يُتوقَّع أن تعزِّز روسيا علاقاتها العسكرية بوحدات حماية المجتمع (PYD) الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتبرها تركيا جماعات معادية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني. أمَّا توجه روسيا لتصعيد حملتها الجوية ضد المعارضة السورية المسلحة، المرتبطة بتركيا والسعودية وقطر، فلا يحمل أي جديد. فبعد شهرين من العملية الجوية الروسية في سوريا، يبدو أن صبر الروس يوشك على النفاد بعد أن فشلت قوات النظام السوري وحلفاؤه من الإيرانيين والميليشيات الشيعية في إحداث تغيير ملموس في ميزان القوى أو تغيير خطوط المواجهة.

محاذير التصعيد

تصرَّف الأتراك في حادثة الطائرة ضمن نطاق القانون والقواعد المعلنة لحماية سيادة بلادهم، ولكن موسكو لم تَرَ الأمور من هذه الزاوية، واعتبرت إسقاط الطائرة تصرفًا عدوانيًّا مهينًا. أنقرة هي الأخرى سرعان ما أدركت حجم الضربة التي وجَّهتها للكرامة الروسية، والعواقب التجارية والسياسية التي يمكن أن تنجم عن التأزم غير المسبوق في العلاقات الروسية-التركية، على الأقل منذ نهاية الأربعينات. يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني، نشر مساعد رئيس الجمهورية التركية والناطق باسم الرئاسة، إبراهيم كالن، مقالة في النسخة الإنجليزية من صحيفة صباح اليومية، قال فيها: إن الطائرة الروسية هي ضحية أخرى للحرب الدائرة في سوريا، وإن العلاقات التركية-الروسية لها من العمق ما يكفي لتجاوز الأزمة بين البلدين. بهذه اللغة وهذه المقاربة، تحاول تركيا احتواء الأزمة.

بيد أن من الصعب تصور انفراج سريع للأزمة. الدليل الأول على بداية الاحتواء سيكون على الأرجح موافقة موسكو على لقاء عالي المستوى في الأيام المقبلة بين مسؤولي البلدين. وليس ثمة ما يشير بعدُ إلى أن مثل هذا اللقاء سيحدث قريبًا. روسيا وتركيا لا تسيران نحو حرب بين البلدين، بالطبع، ولكن روسيا لن تبتلع إهانة إسقاط الطائرة بدون فرض عقوبات على تركيا، تجارية واقتصادية، على الأقل لتوكيد انطباع القدرة على الردِّ لدى الرأي العام الروسي. ساحة المواجهة الرئيسة بين أنقرة وموسكو ستظل هي الساحة السورية. في سوريا، ستصبح تركيا أكثر التزامًا بدعم قوى المعارضة، ومساعدتها على مواجهة الدعم الروسي المتصاعد لنظام الأسد. وفي سوريا، ستحاول روسيا إيقاع أذى ملموس بحلفاء تركيا، وتعزيز نفوذ خصومها؛ بما في ذلك التصدي لأي جهد لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري.

في النهاية، ما يجب رؤيته هو أن استمرار الأزمة سيضر بكلا طرفيها؛ فمهما بلغ الضرر الذي ستُوقِعه العقوبات الروسية التجارية والاقتصادية على تركيا، فإن الضرر الذي سيقع بروسيا لن يكون أقل بكثير. وفي الوقت الذي يبدو فيه التدخل الروسي المباشر في سوريا عاجزًا عن إحراز مكاسب ملموسة لنظام الأسد، لم يعد ثمة شك في أن الحل السياسي للأزمة السورية الطاحنة سيوفِّر مخرجًا لكافة الأطراف، بما في ذلك روسيا. المزيد من التعقيد للأزمة السورية، وتراجع حظوظ المسار السياسي، ليس في مصلحة روسيا ولا تركيا، تمامًا كما أنه ليس في مصلحة سوريا وشعبها.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

 

 

 

 

شيء عن المواجهة الروسية التركية في سورية/ عزمي بشارة

لم تعد روسيا تكتفي بدور الدولة الإقليمية الكبرى التي تحافظ على مناطق نفوذ، وتعدّت ذلك إلى محاولة استعادة دور الدولة العظمى، من دون مقومات اقتصادية، ومن دون مشروع عالمي فعلي، فشوفينية الدولة العظمى، بحد ذاتها، ليست مشروعاً عالمياً. والمشكلة أن هذا المسعى الروسي يمر عبر مواجهة انتشار الديمقراطية، ومحاولة إجهاض ما يهدد (أو يبشر) أن يصبح موجة جديدة منها. وفي عقلية روسيا القرون الماضية، التي يغذّي نظام فلاديمير بوتين الحنين إلى أمجادها ما قبل الشيوعية، تُعتبر الديمقراطية تمدداً للنفوذ الغربي.

ولا دخل لهذا كله بموضوع الإرهاب من قريب أو بعيد، فقد تعاملت روسيا مع الثورات العربية بمنطقها نفسه، المشكك بالقوى التي قبعت، برأيها، خلف “الثورات الملونة”، كما تسمى في روسيا الانتفاضات في دول الاتحاد السوفييتي السابق، ولا سيما في العقد الأخير، أي بعد أن استعادت روسيا الاتحادية توازنها، وبدأت في ترميم بعض من مناطق النفوذ في أوكرانيا وجورجيا وبعض دول آسيا الوسطى.

من هذا المنطلق، اتخذت الحكومة الروسية موقفاً سلبياً من ثورة يناير المصرية، ومتوجساً منهاً، حتى حين كان العالم كله متحمساً لها، ومندهشاً من سلميتها ومدنيتها. لم يكن موضوع الإرهاب، في حينه، مطروحاً على الإطلاق. يضاف إلى ذلك الخوف الروسي الدائم من تسييس التديّن الإسلامي بأشكاله كافة، لأسبابٍ متعلّقة بتصوّرها للتحالف الروسي مع الشعوب المسلمة القاطنة جنوبها، بما فيها بعض شعوب القفقاز وآسيا الوسطى.

سنحت فرصة التدخل في سورية نتيجة الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي، بعد فشل احتلالها العراق. ويخطط صانع القرار الروسي أن تكون سورية جسره إلى استعادة دور الدولة العظمى، بحيث لا تتكرّر مسألة فرض عقوبات على روسيا، كما حصل بعد أزمة أوكرانيا. ففرض العقوبات على دولة عظمى من المحرّمات، وروسيا يجب أن تكون فوق القانون، مثل الولايات المتحدة.

هذه المرّة، توجد قضية إرهاب حقيقية، فقد تحوّلت الثورة السورية إلى ما يشبه الحرب الأهلية، بفعل خيار النظام السوري المعروف: “لا للإصلاح، أنا كما أنا، أو أحرق البلد”. وقد بدأ فعلاً بحرق البلد وتهجير سكانه، مرتكباً جرائم إبادة جماعية. وخلف ستار دموية القمع، تسللت إلى سورية تنظيماتٌ لا علاقة بها بالثورة السورية، ومنطلقاتها ومبادئها، ولعبت دوراً مركزياً في دورة العنف والعنف المضاد، وتنافست مع النظام في صنوف التنكيل بمعارضيها.

جاء التدخل الروسي في مرحلة تحول فيها تنظيم الدولة الإسلامية إلى هاجس حقيقي، أو حتى

“الإرهاب لا يُهزم، إلا إذا فقد الحاضنة الاجتماعية، وانقلبت عليه المجتمعات المحلية، وهذه لن تفعل ذلك، لكي تنتصر لمليشيات طائفية في العراق، أو للاستبداد الدموي في سورية”

هوس في الغرب (وربما في الشرق أيضاً). ست وستون دولة (والحبل على الجرار) في تحالف اسمي تألف لمحاربته. فالعضوية في هذا التحالف مرغوبة رمزياً، لإثبات الانضمام إلى النادي الأميركي المسمى “الإجماع الدولي”. ولكن التحالف لا يحارب التنظيم فعلاً، فمحاربته لا تحتاج إلى ست وستين دولة؛ بل تشارك مجموعة صغيرة من الدول في قصفِ ما يُظَن أنها مواقع للتنظيم بالقصف من الجو. والقصف الجوي هو الفعل الذي كلّت تقارير المنظمات المهتمة بهذه الموضوعات، من دون أن تمل، من تأكيد أنه لا ينتصر في معركة، ويسبب أضراراً، ليس أقلها احتمال أن ينتج هو، بحد ذاته، إرهابيين بالجملة. ست وستون دولة، ليس منها دولة واحدة منخرطة فعلاً في مكافحة التنظيم. القوى الوحيدة التي تغلبت عليه في حالات معنية هي التنظيمات السورية المسلحة، حين توحدت لمحاربته خلال فترات قصيرة في مناطق بعينها، بعد أن هدّدها بالإبادة فرادى، وهي المصابة بداء التشظي الذي يميز أمراء الحرب، وتتوحد فقط في بعض حالات خطر الإبادة، وليس كلها.

لقد أصبح واضحاً أن الإرهاب لا يُهزم، إلا إذا فقد الحاضنة الاجتماعية، وانقلبت عليه المجتمعات المحلية، وهذه لن تفعل ذلك، لكي تنتصر لمليشيات طائفية في العراق، أو للاستبداد الدموي في سورية. وسوف تفعل ذلك جزءاً من عملية تضمن لها حقوقها. وهذا ما لا تفهمه دول التحالف. الحل الشامل العادل في دول الاستبداد التي أصيبت، أيضاً، بلوثة الطائفية والإرهاب، هو أيضاً الحل الوحيد.

لقد وصل الإلغاء الذاتي للقوى الدولية غير المستعدة، حتى لحماية مدنيي الشعب السوري، إلى أنها لم تعد تسأل عن جرائم النظام نفسه، بل إذا ما كان هذا النظام مفيداً في الحرب ضد الإرهاب، وإذا لم تكن مقاطعته مضرّة بهذه الحرب. على هذه الخلفية، تدخلت روسيا. وهذا مصدر ما أصابها بمس من سكرة القوة. وهو أيضاً سبب الصدمة من إسقاط الطائرة الحربية، والذي لم يحسب له حساب بموجب النماذج السلوكية التي قدمتها الدول الغربية في سورية حتى الآن.

بعد الصحوة من سكرة القوة الروسية بإسقاط الطائرة الروسية، أصبح التدخل الروسي في مأزق، ولكن مقاربة تركيا للأزمة السورية دخلت، أيضاً، طور الأزمة، بتعقد رهانها الكلي على منطقة آمنة، لا تحل المشكلة أصلاً. وهي متعثّرة بحد ذاتها، بسبب التدخل الروسي. وقد عبّر عن أزمة الموقف التركي أنه لم يستخدم حجةً علنيةً لإسقاط الطائرة الروسية سوى حماية التركمان، وهي حجة عجيبة. وكانت الحكومة التركية، حتى الماضي القريب، أكثر استعداداً لقول شيء ما عن حماية الشعب السوري ككل.

الجميع في مأزق، والجميع بحاجة إلى حل سياسي في سورية يحفظ البلد، ويعيد لاجئيه. ومن لم يدرك ذلك من منطلق العدالة للشعب السوري، سيكون عليه أن يدرك ذلك، من منطلق الحل الفعلي لقضية الإرهاب. وهذا ممكن فقط بأفق واضحٍ لانتقال السلطة إلى حكومة وحدةٍ وطنيةٍ لمرحلة انتقالية، وإلزام النظام بها، والتزام الجميع، بما في ذلك قوى المعارضة السورية المسلحة، بالمبادئ التي من أجلها خرج السوريون للتظاهر والاحتجاج السلمي عام 2011، قبل أن يحصدهم رصاص النظام، أو تفرّقهم السجون والمنافي

العربي الجديد

 

 

روسيا تستثمر حادثة الطائرة في توسيع ساحة العداء مع الدولة التركية/ زاهد جول

إن المتابع للردود الروسية على إسقاط الطائرة الروسية سوخوي 24 يوم 24/11/2015 من قبل الطائرات التركية ف16 يدرك أن روسيا تعمل على استثمار هذه الحادثة في توسيع ساحة العداء مع الدولة التركية، وهو ما يرجح ان بوتين والمخابرات الروسية العسكرية افتعلت هذه الحادثة عن طريق تكرار انتهاك الأجواء التركية من الطائرات الروسية منذ بداية الغزو الروسي لسوريا بتاريخ 30/9/2015 بتعمد عدم الالتفات إلى التحذيرات العلنية التركية للحكومة الروسية، ودون التقيد بالتحذيرات الرسمية العسكرية التركية من قبل قيادة الأركان التركية لقيادة الأركان الروسية، التي تمت في اجتماعات عسكرية بين قيادات الأركان التركية والروسية قبل شهر من تاريخ إسقاط الطائرة الروسية.

فقد أعلمت قيادة الأركان التركية قيادة الأركان الروسية أن قواعد الاشتباك على الحدود التركية السورية تختلف عن غيرها من الحدود، مثل حدود تركيا مع روسيا في البحر الأسود أو غيرها من الأماكن، لأن هذه الحدود تشهد حالة حرب منذ خمس سنوات، ولأن النظام السوري قام بإسقاط طائرة حربية تركية في ايلول/سبتمبر 2012 عن طريق الدفاعات الجوية الروسية في ذلك الوقت، ولذلك ومنذ عام 2012 أعلنت قيادة الأركان التركية أن قواعد الاشتباك الجوية قد تغيرت في شمال سوريا، وان على الطيران الروسي ان يأخذ ذلك بعين الاعتبار هذه القواعد التي أعلنها الأتراك علانية ومن خلال الاجتماعات الرسمية مع قيادة الأركان الروسية.

إن إصرار الطائرات الروسية على انتهاك الأجواء التركية بعد كل هذه التحذيرات هو دليل على ان روسيا تريد من تركيا ان تسكت على تحركاتها العسكرية في شمال سوريا وعلى الحدود التركية السورية دون اعتراض، وهو ما لم توافق عليه تركيا، وهدف الروس من ذلك ان تصل رسالة إلى الأتراك مفادها انه لا يحق لتركيا بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا في الحديث عن منطقة آمنة في شمال سوريا، ولا حتى الحديث عن حل سياسي إلا في المحافل الدولية بشكل دبلوماسي فقط، وغير مؤثر إطلاقاً. فبوتين لا يريد تدخل تركيا في سوريا، أما قرار الحل في السلم والحرب فقد جاءت روسيا إلى سوريا لأخذه من إيران ومن خامنئي ومن أمريكا ومن أوباما ومن كل الدول العربية وقادتها، وأيضاً من تركيا ومن أردوغان، هذه الرسالة لم توافق عليها كل الدول المذكورة، ولذلك أرادت روسيا ان توجه رسالة إلى هذه الدول بالتحدي الروسي لتركيا، وهي تهدف تحقيق أحد الهدفين أو كلاهما، وهما إما أن تسكت تركيا عن انتهاك أجوائها، أي أن تسكت على التحركات العسكرية الروسية في المنطقة، أو أن تدخل تركيا في صراع وخسائر وندم في حالة تحديها للإرادة الروسية في سوريا.

وفي ظن روسيا أن تركيا سوف تندم وتذهب صاغرة معتذرة إلى القيادة الروسية على إسقاط الطائرة، ولذلك تعمد بوتين رفع درجة العداء للقيادة التركية ومحاولة تحميلها المسؤولية أمام الشعب التركي وأمام الشعب الروسي والعالم، حتى لا تكرر تركيا اعتراضها على الطائرات الروسية، وأرسلت منظومة صواريخ س400، المضادة للطائرات، حتى تفرض منطقة هيمنة جوية ضد تركيا وغيرها من الدول التي قد تقف ضد المشروع الروسي في سوريا.

إن روسيا تريد أن توصل هذه الرسالة ليس لتركيا فقط وإنما لكل الدول التي قد تعارضها في سوريا، ولذلك رفض بوتين لقاء أردوغان بعد الحادثة مباشرة، لأنه يريد أن يأخذ مدة زمنية كافية لإيصال هذه الرسالة، فإذا نجح في إخافة تركيا من تكرار الحادثة أو تعلن تركيا اعتذارها لبوتين فإنه يكون قد أخذ مراده من التهديدات ومن إسكات السياسة التركية في سوريا.

ولكن الرؤية التركية غير ذلك ولا توافق على هذه الخطة الروسية، فتركيا لا ترى نفسها الدولة المتسببة بالأزمة وإنما روسيا، وترى أن من حقها المطالبة بالاعتذار الروسي لتركيا وليس العكس، لأن روسيا هي من تسببت باسقاط الطائرة.

ما يؤكد صحة هذا التحليل أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخذ فور اسقاط الطائرة بإصدار تصريحات وأفعال تصعيدية تزيد من حالة العداء مع الشعب التركي، وضد الدولة التركية ورئيسها وحكومتها وحزبها الحاكم، وقد كان يمكن اعتبار تصريحات اليوم الأول للرئيس الروسي والتي كانت بعد ساعات من إسقاط الطائرة صادرة عن موقف غاضب ومنفعل وعاطفي، وأنه سوف يتراجع عن تلك التصريحات العدائية ضد تركيا باتهامها انها وجهت طعنة في الظهر لروسيا، وان هذه الطعنة جاءت من جهات داعمة للإرهابيين، فهذه التصريحات على رعونتها إلا انها ردود أفعال غير محسوبة، وقد لا تتخذها الدولة التركية على جديتها ولا تصدر نحوها قرارات محاسبة، ولكن التصريحات الروسية اللاحقة وفي اليوم نفسه لإسقاط الطائرة طالبت الحكومة الروسية من الشعب الروسي بعدم الذهاب إلى تركيا، ومطالبة الروس الموجودين في تركيا بالعودة إلى روسيا باعتبار تركيا دولة غير آمنة، ومن الدول التي يمكن أن يكون فيها تهديدات إرهابية، كل ذلك يدلل على ان هناك خطوات وإجراءات روسية تريد ان تدفع بالخلاف الروسي التركي إلى الامام وإلى التصعيد، وان من يقف على رأس هذه السياسة الروسية هو فلاديمير بوتين، وان كادر دولته السياسي والإعلامي يسير وراءه في خطة العداء لتركيا، وذريعتهم العلنية الأولى إسقاط الطائرة التركية التي ادعوا انها اسقطت وهي فوق الأراضي السورية، بخلاف الادعاء التركي بانها كانت في الأجواء التركية عندما أسقطت.

جاء اليوم التالي فإذا بالرئيس الروسي بوتين قد خرج بأحلام جديدة اكتشف خلالها ان أردوغان يقوم ومنذ سنوات بسياسة أسلمة في تركيا، وان بوتين يطالب العالم بالتنبه إلى خطورة هذا الرجل، وكانه لم يكن يعرفه من قبل وهو القائل في حقه:»إن أردوغان رجل دولة صادق ويثق به وبشجاعته»، وقد دعاه قبل شهر واحد لمشاركته في افتتاح مسجد موسكو الكبير بتاريخ 23/9/2015، أي قبل أسبوع واحد من شن الحرب الروسية على سوريا، وهكذا وجد بوتين نفسه في حالة تناقض واضطراب في سياسته العدوانية ضد تركيا، وبالأخص في القرارات الاقتصادية التي يظن أنه يعاقب بها الاقتصاد التركي، بينما هو يعاقب بها نفسه وشعبه أكثر من عقوبته لتركيا وشعبها، ولذلك يخرج بوتين كل يوم بقرارات جديدة ويتوعد بتهديدات جديدة كما فعل في خطابه أمام المجلس الفيدرالي الروسي أثناء كلمته السنوية بتاريخ 3/12/2015، فقد جاء بأقوال تنم عن غير وعي بما يتخذه من تهديدات وقرارات، بادعائه أن خلافه مع القيادة التركية وليس ضد الشعب التركي.

وكأن بوتين وطاقمه السياسي وعلى رأسهم رئيس وزرائه ميدفيدف الذي تبادل معه ديمقراطية السيرك الروسي، بان يكون أحدهما رئيس الدولة والآخر رئيس الوزراء لأربع سنوات، ثم يبادلان أدوارهما فيكون رئيس الوزراء رئيس جمهورية ورئيس الجمهورية رئيس وزراء للتحايل على الدستور الروسي، واستغفال واضح للشعب الروسي، في حركة انتقال السلطة بطريقة تشبه دول العالم الثالث، التي تدعي الديمقراطية فتغير دستورها خلال ساعات من أجل شخص الرئيس.

إن الخاسر الأكبر من العقوبات الاقتصادية هي روسيا وشعبها، فهو فضلاً عن خسارته العسكرية والمالية والبشرية في سوريا، يريد أن يصرف الأنظار في روسيا إلى خسائر أخرى مع تركيا لتحميلها مسؤولية الحرب الروسية في سوريا، وما سوف ينتج عنها من دمار.

لقد أعلن بوتين في خطابه الفيدرالي أنه لن يقوم بعمل عسكري يستعرض فيه عضلاته، أي انه يريد ان يستعرض عضلاته الاقتصادية والتهديدات السياسية لأردوغان بالندم، ولكن نفيه للخطوات العسكرية ليست لأنه لا يريد القيام بذلك بل لعجزه عن أي فعل عسكري ضد تركيا، بعد ان استبقت الإدارة الأمريكية بوزارة الخارجية والدفاع البنتاغون تكذيب المزاعم الروسية بان طائراتها لم تنتهك الأجواء التركية، فأكدت واشنطن ان الرواية التركية أصدق من الرواية الروسية اولاً، ووصف بيان للبنتاغون بتاريخ 2/12/2015 أن المزاعم الروسية بوجود علاقة تعاون بين الحكومة التركية وتنظيم الدولة في مسألة بيع النفط السوري والعراق هي تهم كاذبة أولاً، وسخيفة ثانياً، وخرقاء ثالثة، وفي ذلك أن الحجة الروسية لمحاربة الدولة التركية باطلة، وبالتالي فإن حلف الناتو لن يقبل الأكاذيب الروسية حول تعاون الحكومة التركية مع تنظيم الدولة، ولن تقبل ما يمكن ان يترتب عليها من مزاعم روسية، بادعاء ضرورة محاربة الدول التي تدعي محاربة الإرهاب بينما هي داعمة له، وبذلك فإن أمريكا والناتو يقفون إلى جانب الموقف الروسي، ويطالبون بضرورة حل الخلاف الروسي التركي بالطرق الدبلوماسية، وهو الطريق الذي تحاول القيادة الروسية تاخيره وهي بحاجة له أكثر من الأتراك، بهدف استثمار الحادثة لأكبر مدى ممكن لتضليل الرأي العام الروسي عن فشل الخطة العسكرية في سوريا عسكريا، وبالأخص في انها عجزت عن تركيع المعارضة السورية المعتدلة والجيش السوري الحر، الذي أسرع القصف الروسي باستهدافه دون تحقيق أهدافه في فرض الحل السياسي عليه في مؤتمر فيينا، الذي أوشك على الفشل أيضاً، فبوتين سوف يفرغ غضب فشله في سوريا على ما لا يستطيع رده، فإذا فشل مع الأتراك فلن يجد غير الإيرانيين للانتقام منهم، وقد يكون العديد من الجنرالات الإيرانيين القتلى في الأشهر الأخيرة من أوائل ضحاياه، بمن فيهم قاسم سليماني الذي ذهب إلى بوتين شخصياً وأقنعه بالمهمة السهلة في سوريا!!

القدس العربي

 

 

 

 

تركيا لديها حلفاء وفصائل عسكرية في الداخل السوري: التداعيات الأقليمية لأزمة اسقاط “سو 24″/ صادق الطائي

منذ ما يزيد على الأربع سنوات والصراع في سوريا يتخذ شكل صراع اقليمي متصاعد، إذ أصبح واضحا للقاصي والداني ان هنالك حرب إقليمية يخوضها محوران، محور النظام تدعمه إيران والحكومة العراقية وحزب الله مقابل فصائل مسلحة مدعومة من تركيا ودول الخليج والمعارضة العراقية، وقد ابتدأ اختلاط أوراق اللعبة عندما تدخل التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بضرب المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة» حيث رأى بعض المراقبين ان هذا الأمر سيمثل بطريقة غير مباشرة دعما للنظام السوري، الذي كان قد بدأ يترنح تحت ضربات الفصائل المسلحة وفقد العديد من المناطق لصالح المعارضة المسلحة حتى بات لا يسيطر فعليا على أكثر من نصف البلاد، لكن وبالرغم من مرور أكثر من عام على بدء غارات التحالف على مواقع التنظيم إلا ان المعطيات على الأرض لم تشهد تغيرا ملموسا حتى تحول الموقف الروسي في نهاية ايلول/سبتمبر الماضي من الدعم السياسي واللوجستي والمعنوي إلى الدخول الكاسح لساحة الصراع السوري.

في تصريح سابق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعيد بدء الغارات الروسية، تساءل في مؤتمر صحافي قائلاً:»يتحدثون عن الجيش السوري الحر، لكنه هيكلية وهمية، وأنا طلبت من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تسليمنا معلومات عن مكان وماهية هذا الجيش ومن يقوده، ونحن مستعدون حتى للتعاون معه إذا كان من المعارضة السورية المعتدلة؟». ويتضح من صيغة السؤال الاستنكاري ان روسيا مصممة على ضرب كل من يرفع السلاح في وجه النظام معتبرة الجميع إرهابيين. من هذا التصريح تتضح المشكلة التي أوصلت الأزمة السورية إلى مديات كارثية تهدد المنطقة بأسرها بتوسع ساحات القتال، فبينما يرى الغرب ان هنالك فصائل معتدلة يجب دعمها وفي الوقت نفسه توجيه ضربات لتنظيم الدولة الإرهابي (فقط) وان الرئيس الأسد يجب ان لا يكون له مكان في المستقبل السوري لانه جزء من المشكلة، ترى روسيا والجهات الداعمة للنظام ان كل الفصائل المسلحة إرهابية (باستثناء الأكراد) ويجب ان يكون للأسد دور في مستقبل سوريا الذي يجب ان يبنى على أسس التفاهمات السياسية والحلول القائمة على الخيار الديمقراطي للشعب السوري وهو فقط صاحب الرأي في بقاء أو رحيل الأسد.

باتت الساحة الإقليمية أكثر توترا بعد أزمة اسقاط الطائرة الروسية سو 24 من قبل مقاتلات تركية، فالمحور الإيراني بدا فرحا بزخم الهجوم الروسي في الساحة السورية، أما العراق فان موقفه منقسم نتيجة الصراع الحاصل بين نخبه السياسية، كما انه يعاني من إحتلال تنظيم «الدولة» لمساحات واسعة من أراضيه، لكن حكومته لحد الآن لم تجرؤ على طلب الدعم الروسي حرصاً على الدعم الأمريكي والغربي المقدم الآن من عدد من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، أما حكومة إقليم كردستان فإن موقفها يتسم بالترقب، إذ ان روسيا تدعم وحدات حماية الشعب الكردي، وهي ميليشيا كردية تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني السوري القريب من حزب العمال الكردستاني التركي PKK العدو التاريخي للحكومة التركية، وبالتالي فان حكومة اقليم كردستان تحاول ان تصل إلى توازن تحافظ فيه على الدعم الروسي للأكراد دون ان تغضب الأتراك، خوفا من أعمال إنتقامية قد تقدم عليها تركيا بحجة ضرب قواعد الـ PKK في كردستان العراق. من جانبها التقت حكومة موسكو (صالح مسلم) القيادي الكردي السوري وفتحت معه حوارا وطرحت عليه امكانية فتح ممثلية في موسكو مما أزعج الأتراك ودق ناقوس الخطر، وما زاد الطين بلة، الضربات التي وجهها الطيران الروسي لمناطق جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي القريب من الحدود التركية الذي تسيطر عليه ميليشيات إسلامية تركمانية راديكالية مدعومة من الحكومة التركية، حيث تشهد منطقة جبل التركمان حضورا لميليشيات تركمانية مطعمة بوجود عناصر من دول الاتحاد الروسي الحالي (كالشيشان والقوقاز وبعض جمهوريات آسيا الوسطى) وبوتين ونظامه لم ينسوا ما تعرضت له روسيا من هجمات انتقامية قبل عشر سنوات، على أيدى المقاتلين الشيشان الذين دمر الجيش الروسي مدينة غروزني عاصمة بلادهم، إذ طالت هجماتهم المدارس والطائرات وأحد المسارح وخطوط المترو في موسكو. هذه الخلفية تثير مخاوف سلطات موسكو من تداعيات استنفار هؤلاء المقاتلين في صفوف هذه الميليشيات وإمكانية عودتهم للعمل المسلح في الأراضي الروسية، وكانت صحيفة «حياة» التركية أكدت في تقرير نشرته في ايلول/سبتمبر الماضي (قبل بدء العمليات الروسية بأسبوع) مشاركة العديد من المقاتلين الإسلاميين الاتراك في المعارك ضد الدولة السورية، ضمن ميليشيا «السلطان عبد الحميد» وميليشيا «المنتصر بالله» وميليشيا «السلطان مراد» وهذا ما اعتبرته تركيا أحد أسباب اسقاط المقاتلة الروسية لأنها تركز ضرباتها على حلفاء تركيا في الداخل السوري، فقد وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاتهامات لروسيا، الأربعاء 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بعد يوم واحد من إسقاط الطائرة الروسية، قائلا في اجتماع اللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في مدينة إسطنبول «تثار أقاويل عن أن تلك الطائرات كانت موجودة لقتال تنظيم «الدولة»، لكن لا وجود للتنظيم في اللاذقية وريفها الشمالي، الذي يسكنه التركمان، فلا داعي لأن يحاول البعض خداع الآخرين».

أما الموقف الأكثر توترا على الصعيد الإقليمي فهو الموقف الخليجي، فبعد ان كان هنالك تقارب واضح في وجهات النظر التركية الخليجية حول وجوب رحيل الأسد كمطلب أساسي لحل الأزمة السورية، بات اليوم موقف دول الخليج متشظيا وغير واضح المعالم، فالموقف الإماراتي يبدو متماهيا مع الموقف الروسي حيث أعلن وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد آل نهيان في ختام اجتماعات اللجنة الإماراتية الروسية المشتركة في أبو ظبي «استنكار الإمارات للأعمال الإرهابية التي شهدتها كثير من الدول في الآونة الأخيرة وخاصة الطائرة الروسية التي سقطت فوق سيناء، وحادثة إسقاط المقاتلة العسكرية الروسية في سوريا، إلى ذلك، يسود التوتر في العلاقات بين الإمارات والحكومة التركية، حيث تتهم أبو ظبي الحزب الحاكم في تركيا بأنه فرع لجماعة الإخوان المسلمين، فيما تتهم أنقرة سلطات أبو ظبي بدعم مجموعات معارضة في تركيا تستهدف الإخلال بالأمن في البلاد، في المقابل، تشهد العلاقات الإماراتية الروسية تقاربا كبيرا، حيث قام ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان بزيارة موسكو الأحد 11 تشرين الاول/أكتوبر الماضي، والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب بدء الضربات الجوية الروسية على سوريا بـ10 أيام، كما قدمت الإمارات مجموعة مشروعات استثمارية في الأراضي الروسية بقيمة 7 مليارات دولار.

وفي محاولة من السعودية لايجاد حل للأزمة أو تعاط يتسم بالتعقل، فإنها دعت الطرفين الروسي والتركي إلى التهدئة، كما دعت إلى عقد مؤتمر للمعارضة السورية في الرياض بدعم من حلف الناتو حيث وجهت دعوة رسمية إلى 65 شخصية سورية معارضة لحضور المؤتمر المزمع عقده في الرياض في الفترة الممتدة بين 11 و13 كانون الاول/ديسمبر في محاولة لتشكيل وفد من 25 شخصية لمحاورة النظام وخلق قوة حقيقية للمعارضة على أرض الواقع، من جانب آخر يرى السعوديون ان التصعيد الروسي قد خدم الإيرانيين وحلفائهم وهم الأعداء التقليديين للسعودية، إذ مثل الزخم الروسي المتمثل في قاعدتيين جويتين ونشر منظومة دفاع جوي من صواريخ S400 تقوية للنظام واخراجا للإيرانيين من المستنقع السوري، بينما كان السعوديون يسعون من خلال دعم حلفائهم في المعارضة السورية إلى توجيه الضربة المناسبة للإيرانيين ردا على دعمهم لقوات الرئيس صالح والحوثيين في اليمن. بينما ما زال الموقف اللبناني على حاله من الإنقسام والشلل السياسي، حيث يعيش اللبنانيون جوا مشحونا بالتوتر والخوف نتيجة تدخل حزب الله وحلفائه في دعم النظام السوري بينما يقف تيار المستقبل وحلفائه مع المعارضة السورية ضد النظام والنتيجة توترات لبنانية داخلية تنفجر بين الحين والآخر على شكل أعمال إرهابية تطال الحدود اللبنانية وقد تتعداها إلى الداخل كما حصل في عدد من السيارات المفخخة التي ضربت بيروت وعددا من المدن، ويبدو ان الأزمة اللبنانية مرتبطة ارتباطا لا فكاك منه مع الأزمة السورية ولا يمكن الوصول إلى حلول لبنانية خالصة لعدم إمكانية فك الارتباط بين مواقف القوى السياسية اللبنانية من الأزمة السورية.

أما الموقف المصري الرسمي المعروف عنه عدم مطالبته بتنحي الأسد كشرط لحل النزاع السوري وإنما مطالبته كل الأطراف بالوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، فهو يبدو متماهيا مع الموقف الروسي في أزمة اسقاط الطائرة سو 24، وذلك على خلفية الاتهامات المصرية لنظام اردوغان بدعم حركة الإخوان المسلمين وفتح أبواب تركيا وأثيرها لقنوات تلفزيونية تهاجم نظام السيسي الذي تعتبره حركة الإخوان المسلمين نظاما غير شرعي أطاح بانقلاب عسكري حكومة الإخوان الشرعية، في المقابل تسعى مصر للحصول على الدعم الذي وعدتها به روسيا للمساعدة في إنشاء محطة «الضبعة» النووية لتوليد الطاقة الكهربائية في مصر، كذلك تحاول الحكومة المصرية ان تتجاوز الحرج الذي شعرت به إبان حادثة اسقاط طائرة الركاب الروسية ومقتل أكثر من 200 سائح روسي فيها في سيناء الشهر الماضي، حيث أوقفت روسيا رحلات الطيران من وإلى مصر على خلفية الحادث، ووجهت لوما للحكومة المصرية مفاده عدم توفر معايير الأمن الكافية في المطارات المصرية، كما ان المراقبين يلاحظون تزايد الجفوة السعودية المصرية منذ امتناع مصر عن المشاركة في التحالف الذي تقوده السعودية في حربها في اليمن مقابل ازدياد عمق العلاقات المصرية الإمارتية على خلفية العداء المشترك لحركة الإخوان الذي يجمع البلدين.

القدس العربي

 

 

 

 

قطر وأذربيجان وكردستان مثلث بدائل الغاز الروسي.. هل أفشلت تركيا عقوبات بوتين الاقتصادية؟/ إسماعيل جمال

إسطنبول ـ «القدس العربي»:في غضون أيام معدودة كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوقع اتفاقية كبيرة لاستيراد الغاز الطبيعي من قطر، في الوقت الذي كان فيه رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو يوقع اتفاقية مماثلة في أذربيجان، بالتزامن مع إعلان حكومة إقليم كردستان العراق استعدادها لتلبية احتياجات أنقرة من الغاز الطبيعي، في خطوات اقتصادية متسارعة بنكهة سياسية أفشلت الزخم الذي روجته روسيا لعقوباتها الاقتصادية ضد تركيا.

ويعتبر الغاز الطبيعي أبرز أوراق التهديد الاقتصادي من روسيا لتركيا، حيث تستورد الأخيرة منها أكثر من 55٪ من احتياجاتها من الغاز، ويستفيد الاقتصاد التركي من 5 مليون سائح روسي سنوياً، وتبادل تجاري بعشرات المليارات يجمع المحللون أن استخدامه هو «سلاح ذو حدين» سيعود بالضرر على الاقتصاد الروسي الواقع تحت العقوبات الدولية بالدرجة نفسها التي سيعود بها على الاقتصاد التركي الذي يعمل على احتواء تبعات الأزمة بكافة جوانبها.

وفي الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر أسقطت طائرات حربية تركية مقاتلة روسية من طراز سوخوي على الحدود مع سوريا، وعلى أثر ذلك أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سلسلة من العقوبات الاقتصادية على تركيا في أزمة تعتبر الأكبر بين البلدين.

وفي مؤشر جديد على نجاح أنقرة في احتواء الأزمة الاقتصادية المتوقعة، وإفراغ التهديدات الروسية من محتواها، شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من نبرته تجاه تركيا، معتبراً أنه «إذا ظن أحد أن رد روسيا على إسقاط تركيا لطائرتنا سيقتصر على العقوبات التجارية فهو مخطئ بشدة»، مهدداً بأن «الأتراك سيندمون على فعلتهم».

وتربط أنقرة وموسكو علاقات اقتصادية كبيرة، حيث بلغ حجم التبادل بين البلدين خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، نحو 18.5 مليار دولار أمريكي، وتقوم تركيا بتصدير المواد النسيجية والمنتجات المعدنية، بالإضافة إلى الخضار والفواكه.

تستهلك تركيا سنوياً قرابة 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وتحصل على احتياجاتها منه من إيران وروسيا وأذربيجان عبر خطوط الأنابيب، ومن الجزائر ونيجيريا تحصل عليه مسالاً، لكن تبقي الحصة الأكبر (55٪ ) تأتي من روسيا، ومن ثم إيران، وباقي الدول هي كميات قليلة.

وعلى الرغم من عدم تلويح روسيا المباشر بقطع إمدادات الغاز الطبيعي، إلا أن المستوى السياسي في تركيا تعامل مع الأمر بجدية عالية وتحرك كبار المسئولين الأتراك على كافة الأصعدة في محاولة لاحتواء التهديد وبعث رسائل قوة لبوتين ورسائل طمأنة للمواطنين الأتراك الذين بدا عليهم الكثير من القلق من هذا التهديد.

الوجهة الأولى لتركيا كانت قطر الحليف القوي لها في المنطقة، حيث وقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في الدوحة، الأربعاء، على 15 اتفاقية مشتركة تتضمن مذكرة تفاهم بين شركة خطوط أنابيب نقل البترول التركية (بوتاش)، وشركة النفط الوطنية القطرية، لاستيراد تركيا الغاز الطبيعي المسال من قطر على المدى الطويل وبشكل منتظم.

وبدأ الجانبان بالإعداد من أجل تشكيل أرضية للاتفاق الأساسي، حيث من المنتظر أن يتم التوقيع على الاتفاق الذي يحتوي على تفاصيل مدة الاتفاق وكمية الغاز الطبيعي المسال المزمع استيراده من قطر، خلال وقت قريب، وعن ذلك قال أردوغان: «شركة البترول القطرية كانت لديها نية بالاستثمار في هذا المجال بتركيا، وقد تباحثنا حول الخطوات التي من الممكن أن نقدم عليها في هذا الخصوص، كما أبلغنا الجانب القطري عن إمكانية امتلاك تركيا لبنية تحتية تمكنها من تخزين الغاز الطبيعي».

ولدى تركيا مخزون من الغاز الطبيعي يكفيها لـ14 يوماً فقط، حيث تم إنشاء أول مصنع احتياطي للغاز الطبيعي في تركيا، في منطقة «سيليفري» في عام 2007، ويتم تشغيل المصنع من قبل الشركة التركية للبترول، وتبلغ سعة المخزن 2.6 مليار متر مكعب، وتصل السعة القصوى للإنتاج في اليوم الواحد إلى 20 مليون متر مكعب، يذكر أن الاستهلاك اليومي من الغاز الطبيعي في تركيا يصل خلال أيام الشتاء إلى 230 مليون متر مكعب.

خيارات حاسمة

رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أعلن، الخميس، أن بلاده توصلت إلى اتفاق من أجل إنجاز مشروع «تاناب» (خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول، والذي ينقل الغاز الأذري إلى أوروبا عبر تركيا) قبل عام 2018 وهو التاريخ المحدد للانتهاء من المشروع.

وأوضح داود أوغلو في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس أذربيجان إلهام علييف، في العاصمة الأذرية باكو أنهم سيعملون ليل نهار من أجل إنجاز المشروع، مضيفاً «سيتم القيام بما يترتب من أجل مشروع تاناب داخل الحدود التركية والأمر ذاته ساري على أذربيجان».

من جهته، قال رئيس لجنة الطاقة في برلمان إقليم شمال العراق، شركو جودت، إن الإقليم يمكنه تلبية احتياجات أوروبا وتركيا من الغاز الطبيعي، مشيرًا إلى أن الإقليم غني بمكامن البترول والغاز، التي لم يتم الاستفادة منها حتى الآن، وقال: «الإقليم وتركيا وقعا اتفاقًا استراتيجيًا، بشأن نقل غاز الإقليم إلى أوروبا عبر تركيا، يدخل حيز التنفيذ عام 2017»، لافتًا إلى أن «الإقليم يمكنه سد حاجة أوروبا بعد انقطاع الغاز الروسي عنها».

كما أكد رئيس الطاقة العامة في الإقليم طوني هايوارد أنه سيتم استخراج ما يقارب 5 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي في المنطقة، وهذا المقدار يكفي لتلبية احتياجات تركيا للغاز الطبيعي لخمسين عاما.

في السياق ذاته، توقع نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشيك أن الجانب الروسي لن يقوم بقطع تصدير الغاز الطبيعي إلى تركيا، و»في حال فعل ذلك فإن تركيا ستقوم برفع حجم وارداتها من الغاز من إيران وأذربيجان والجزائر وقطر» على حد تعبيره، مشيراً إلى أن «تركيا لديها مخططات لاستبدال الغاز الطبيعي بوسائل بديلة لتوليد الطاقة».

العقوبات الروسية شملت منع استيراد جزء كبير من الفواكه والخضراوات والبضائع التركية، وتكدست مئات الشاحنات على المعابر الحدودية بعد أن منعت السلطات الروسية دخولها، بالإضافة إلى أوامر بوتين بوقف تصدير السياحة إلى تركيا حيث كان قرابة 5 مليون سائح يصلون تركيا سنوياً ويدخلون الملايين لخزينة الدولة.

لكن داود أوغلو طمأن المصدرين الأتراك من أن الصادرات التركية لن تتأثر بالأزمة الروسية، مشيرا إلى أن الحكومة ستقوم بكل التدابير اللازمة من أجل دعم المصدرين، وكلف نائبه محمد شيمشيك بتكوين لجنة خاصة لمتابعة تداعيات الأزمة مع روسيا على الاقتصاد التركي، حيث أكدت الحكومة أنها مستعدة لتوفير البدائل المترتبة عن انقطاع العلاقات الاقتصادية مع روسيا.

وأشار داود أوغلو إلى أن الحكومة ستتحرك بسرعة لحل أزمة الشاحنات العالقة والتي أعادتها السلطات الروسية وهي محملة بالخضار والفواكه قبل أن تتعرض للتلف، مؤكداً أن الحكومة التركية أن لديها خطط بديلة في حال قررت روسيا تنفيذ تهديداتها بالمقاطعة.

من جهته، أكد شيمشيك أن الحكومة لديها خطة بديلة في حال قام الجانب الروسي بتنفيذ تهديداته، لافتاً إلى أنه فيما يتعلق بالصادرات التركية إلى روسيا «هناك أسواقًا بديلة للبضائع التركية في الشرق الأقصى وفي الأسواق الأوروبية، وستعمل الحكومة التركية على فتح تلك الأسواق للبضائع التركية» أما فيما يتعلق بالسياحة «فسيتم عمل حملات ترويجية للسياحة في تركيا بأسعار تفضيلية بحيث تنتعش السياحة التركية وتسد العجز الذي قد ينتج عن المقاطعة الروسية» بحسب المسؤول التركي.

ومن المتوقع أن تنخفض أسعار الكثير من المنتجات التي كانت تصدر إلى روسيا في السوق التركي، حيث تقدر أوساط اقتصادية انخفاض أسعار الطماطم إلى النصف، وانخفاض في أسعار العديد من أصناف الخضراوات والفواكه بنسب تصل إلى 30٪ ، وبنسب تصل إلى 50٪ في حال تواصلت الأزمة خلال الفترة المقبلة.

الحكومة التركية من جانبها وبعد اجتماع مطول للجنة خاصة شكلتها في لهذا الأمر، اتفقت على مسودة قرار يضع روسيا في إطار ما يسمّى «الخط الأحمر»، ومن المتوقع أن يتم تقديم المسودة إلى رئيس الوزراء التركي «أحمد داود أوغلو»، لتصديقها.

وتتضمن الخطة إعادة الخضار والفواكه التي تم إيقافها عمدا في الجمارك الروسية، والتواصل مع المصدّرين لإيجاد سوق بديلة لتقييم المواد الغذائية التي ستعاد من الجمارك، ووضع المنتجات الروسية في إطار ما يسمّى «الخط الأحمر» بحيث يتم عد المنتجات كلها التي تأتي من روسيا، وفحصها بشكل دقيق.

كما تنص المسودة على دعم الملابس الجاهزة، بحيث سيتم التوجّه إلى أسواق أخرى لتسويق الملابس الجاهزة، إلى جانب الأجهزة الكهربائية، والمواد الكيميائية، والبحث عن بدائل فيما يتعلق الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وخصوصا فيما يتعلق التعهدات، والغاز الطبيعي.

وطالبت المسودة بإبطاء عمل وسائل النقل التي تحمل اللوحة الروسية، والتي تستخدم تركيا كمعبر، وتخفيفها، وفحص المواد المحملة على متن الشاحنات بشكل دقيق، بالإضافة إلى إعادة النظر في اتفاقيات السوق الحرة بين البلدين، وتبطيء الاتفاقيات المتعلقة بهذا الشأن، ومعاملة رجال الأعمال الروس بالمثل، إذ سيتم سؤالهم عن تذكرة العودة، وذلك ردا على طـــريقــة معاملتهم لرجال الأعمال الأتراك.

وكانت العقوبات الروسية قد تضمت «منع المؤسسات والمنشآت التركية من ممارسة نشاطات في روسيا، ووقف استيراد بعض السلع ذات المنشأ التركي مؤقتًا أو منع استيرادها بالكامل»، ومنع كافة الشركات العاملة في روسيا، من توظيف مواطنين أتراك، وتعليق السفر بدون تأشيرة بين روسيا وتركيا من طرف واحد، فضلًا عن منع الشركات السياحية من تنظيم رحلات إلى تركيا، ووقف رحلات الطائرات المستأجرة من قبل الشركات (شارتر)، بين البلدين، وتشديد الرقابة على شركات الشحن التركية الناشطة في روسيا، والناقلات البحرية التركية في البحر الأسود وبحر آزوف.

القدس العربي

 

 

الأزمة الروسية التركية هل تنتهي إلى حل في سوريا؟/ فيكتوريا سيميوشينا

رغم مضي أكثر من أسبوع على إسقاط القاذفة الروسية من قبل مقاتلة «إف 16» التركية في الأجواء السورية، إلا أن الملف التركي لا يزال يحتل صدارة إهتمامات وسائل الإعلام الروسية والعالمية.

فعلى الصعيد الداخلي في روسيا، احتاجت موسكو لبضعة أيام فقط من أجل قطع الكثير من علاقاتها مع تركيا فعلى سبيل المثال: فرض العقوبات الاقتصادية، منع الرحلات المستأجرة، وقف نظام التأشيرات المفتوحة، إلغاء إحتفالية عام الثقافة والسياحة التركية في روسيا، إغلاق مركز الثقافة التركية في موسكو، تجميد المشاريع الاستثمارية والتعليمية، إيقاف التعاون التقني بين روسيا وتركيا، كل هذا يجعل الصورة تبدو وكأنها حرب ولكن دون إعلان عنها.

«يمكننا تحديد سيناريوهين لتطوير العلاقات الثنائية في المستقبل: أولهما سيئ والثاني أسوأ. حيث يوجد في روسيا نظام السلطة بملامح أوتوريتارية تماما مثل النظام في تركيا والذي لن يتغير في المستقبل القريب، إذن، فلن تكون هناك تغييرات في العلاقات بين البلدين. وفق السيناريو السيئ، ستتراجع الهستيريا في وسائل الإعلام الروسية وقد تلغي الحكومة العقوبات ضد تركيا. ولكن مع ملاحظة أنها لن تكون بالمستوى السابق. حيث ستسيطر الشكوك على علاقات البلدين ببعضمها. أما وفق السيناريو الأسوأ: فسترد تركيا على العقوبات الروسية بالمثل ومن بينها العقوبات الاقتصادية، تقوم بتحريض وتأجيج مزاج الرأي العام المعادي لروسيا بين تتار القرم والجمهوريات التركية للاتحاد السوفييتي» تقول إيكاتيرينا تشولكوفسكايا، الخبيرة في الشؤون التركية في معهد الشرق الأقصى في موسكو.

خارجيا، لا تتوقف تصريحات الشخصيات الروسية البارزة الذين يتهمون تركيا في اتصالاتها مع الإرهابيين.

بل وأكثر من هذا، وخلال قمة الأمم المتحدة للمناخ في باريس اتهم الرئيس فلاديمير بوتين بنفسه وبصراحة وقوة، أنقرة بالمساهمة في دعم الإرهاب حيث قال إجابة عن أسئلة الصحافيين، ان تمويل الإرهابيين في تركيا ما زال مستمرا وأنه لدى روسيا أسس للإعتقاد بأن الرغبة في حماية خطوط إمدادات النفط إلى الأراضي التركية كانت سببا وراء إسقاط الطائرة الروسية. وأظهرت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية يوم 2 كانون الاول/ديسمبر صور صهاريج محملة بالنفط على الحدود السورية التركية.

ووصف أردوغان اتهامات وزارة الدفاع الروسية بأنها كاذبة مضيفا أنه لا يرغب في تدهور العلاقات مع موسكو أكثر وحذر روسيا من أن بلاده قد تضطر إلى إتخاذ إجراءات للرد في حال مواصلة روسيا اتهاماتها. ويعتبر ليونيد إيسايف، وهو مستشرق ومحاضر في قسم العلوم السياسية العامة في المدرسة العليا للاقتصاد في مقابلة مع «القدس العربي» أن الحكومة التركية تعمل ما في وسعها من أجل عدم تصعيد الأزمة.

وأضاف: «أعتقد ان الأتراك يحاولون أن يعملوا كل شيء من أجل عدم انهيار العلاقات بشكل نهائي. لان التدمير أسهل من البناء. وهنا تعتمد تركيا على العقل أكثر من روسيا التي تتصرف بشكل عاطفي الآن. نعم، لقد كان الحدث رهيبا. ولكن علاقاتنا شهدت مراحل أصعب بكثير من هذا. كانت هناك حروب سقط فيها ضحايا كثيرون. لا أعتقد أن هذا الحادث سيؤدي إلى نقطة اللاعودة في العلاقات. أنا أفضل القول ان العلاقات الشخصية بين بوتين وأردوغان قد تدهورت وليس البلدين».

ويضيف الخبير أن السؤال في الوقت الحالي هو عن المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا التراجع؟ ويضيف قائلا:»الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على الشخصيات الرئيسية والقيادية. حيث مرت العلاقات بين البلدين بمراحل صعبة. وكانت لدى تركيا وروسيا آراء متناقضة خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية. ولكن، لوحظ أن تركيا إستطاعت أن تضبط نفسها في مسائل لم تكن تعتبرها تشكل أولوية بالنسبة لها مثل موضوع أوكرانيا أو أسيتيا الجنوبية. أما في الوضع الحالي، فيبدو أن تركيا كانت تعول على عدم تدخل روسيا في مصالحها في سوريا. ولكن وبعد تدخل روسيا العسكري في سوريا، يبدو أن تركيا شعرت بأن روسيا هي من قام بـ»الطعن في الظهر».

ويتفق فلاديمير احمدوف، عضو في مركز دراسة المشاكل العامة للشرق المعاصر في معهد الدراسات الشرقية ان رد الفعل التركي على التدخل الروسي في الملف السوري هو مسألة وقت.

ويقول: «تبادلت تركيا وإيران السلطة في المنطقة منذ القرن 15. وكان من الصعب لديهما قبول تدخل الدول العالمية الكبرى في سوريا حيث شعرتا أن هذا التدخل يضعهما في المقام الثاني. بينما شارك هذان البلدان في النزاع السوري من البداية. وكنتيجة يعيش على الأراضي التركية الآن حوالي 2.5 مليون لاجئ سوري إلا أن هذا ليس مبررا لتركيا للقيام «بطعن روسيا في الظهر» . وبدلا من حل النزاع السوري، يلتفت العالم عن سوريا وينشغل بحل الأزمة الروسية التركية «.

يذكر أن الخلافات السياسية بين روسيا وتركيا ليست وليدة اليوم، أو حادثة الطائرة فقط، بل إن لدى موسكو وأنقرة مواقف متناقضة وشائكة حول سوريا والقرم وإبادة الأرمن. ولكن حتى يومنا هذا يتم لجم وإخماد هذه الخلافات بفضل المصالح الاقتصادية. وبعد حادثة إسقاط «سو ـ 24» تفجرت المشاكل القديمة مرة واحدة، وكأنها الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وأدت فيما أدت إلى تدمير عقود التعاون الثنائي، ولم تعد المصالح الاقتصادية قادرة على وقف هذه المواجهة حتى الآن.

وترى يكاتيرينا تشولكوفسكايا أن العلاقات (الكيمياء) الشخصية بين الرئيسين تلعب دورا هاما في هذا النزاع وتضيف قائلة :

«بالنسبة لبوتين، هذه الأزمة في العلاقات مع تركيا هي في المقام الأول، استياء شخصي من خيانة أردوغان الذي كان بوتين يعتبره صديقا. نذكر أن تركيا لم تنضم إلى العقوبات الغربية ضد روسيا بعد انضمام القرم إلى روسيا وعلى العكس فقد بدأت بملء الفراغ الذي سببته الشركات الأوروبية. وتعامل بوتين مع تركيا كبديل عن أوروبا التي تدهورت العلاقات معها بعد الازمة الأوكرانية. وربما أن التعبيرالذي إستخدمه الرئيس بوتين «الطعن في الظهر» في اعتقادي انه طعنا في الظهر له شخصيا من قبل صديقه أردوغان، الأمر الذي يفسر رد الفعل الروسي القاسي بهذه الدرجة».

في سياق متصل، اتخذت الحكومة الروسية قرارا بنشر منظومة «إس 400» في سوريا بعد الحادث. كما تم إرسال كتائب وجنود روس إضافيين إلى القاعدة الروسية في سوريا، وذلك بهدف حماية القواعد الروسية، وتحقيق سيطرة جوية أوسع، وسيطرة أقوى برا.

ويرى فلاديمير أحمدوف، أن روسيا أظهرت حتى الآن إمكانيات جديدة وفريدة من نوعها لتسوية النزاع في سوريا بنفسها دون أي مساعدة من الخارج.

«لدينا الآن موقف فريد في سوريا. في إمكاننا ان نحل هذا النزاع بأنفسنا خاصة بعد نشر منظومة «إس 400» إلى سوريا حيث نسيطر على الأوضاع برا وجوا. وإذا استخدمت روسيا الفرصة، فسيعزز دورها كدولة عالمية عظمى في المنطقة. من أجل ذلك لا بد لنا ان نحل مشكلة أخيرة عالقة تتمثل في شخص (بشار الأسد). وحين نحل هذه المشكلة، ستصبح روسيا منقذ سوريا. وفسوف نتجاوز كل شيء».

ويتفق المستشار في معهد الدراسات الاستراتيجية في موسكو فلاديمير كوزين مع هذا الرأي ويؤكد ان روسيا حصلت على تفويض مطلق في سوريا.

« يمكن القول بانه في المستقبل القريب سيفهم عدد كبير من الشخصيات السياسية والاجتماعية في العالم، أولئك الذين يتعاملون وينظرون إلى روسيا بشكل سلبي، سيفهمون ان روسيا وحلفاءها فقط هم القادرون على توفير السلام والعدالة والاستقرار في العالم. وإذا أحبت دول أخرى أن تنضم لروسيا وحلفائها، بالطبع ستتعزز هذه الجهود، وسيتم تحقيق هذا الهدف مبكرا وبما فيه مصلحة الجميع».

ويضيف كوزين، أن الأزمة في العلاقات التركية الروسية ستؤدي بعد إنقشاع غبارها، إلى استقرار الوضع في المنطقة وتدمير ما يسمى بـ «الدولة الإسلامية» الأمر الذي سيؤدي إلى تعزيز قوة روسيا وسمعتها في العالم.

القدس العربي

 

 

 

 

 

حادث إسقاط الطائرة: تصفية حسابات القيصر والسلطان على الأرض السورية/ إبراهيم درويش

لم تتوقف دعوات الإنتقام التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد تركيا بعد إسقاط الأخيرة مقاتلة سوخوي 24 دخلت لمدة قصيرة الأجواء التركية. فبعد إعلانه حزمة من العقوبات الاقتصادية وتحذيره السياح الروس من السفر إلى تركيا ووقف معظم أشكال التعاون العلمي والتواصل الثقافي بين البلدين تكون مرحلة «ذهبية» وإن كانت قصيرة في العلاقات بين البلدين قد انتهت.

فقد اعتبر بوتين التصرف التركي «طعنة في الظهر» ورفض مقابلة الرئيس طيب رجب أردوغان في مؤتمر المناخ الذي عقد الأسبوع الماضي في العاصمة الفرنسية باريس. واتهم بوتين أردوغان وعائلته بحماية تجارة النفط التي يسيطر عليها تنظيم الدولة في العراق وسوريا وهي اتهامات قوبلت في أنقرة بالسخرية وعدم التصديق. وكما تقول مجلة «إيكونوميست» (5/12/2015) «ففي ثوان قليلة خرب صاروخ أطلقته طائرة تركية سنوات من الدبلوماسية، فحتى ذلك الحادث تعامل الكرملين مع تركيا كشريك استراتيجي». ورأى الروس العاديون في تركيا مكانا رخيصا للسياحة وانتعشت التجارة المشتركة بين البلدين خاصة في مجال الطاقة وساهمت شركات البناء التركية ببناء مدينة سوتشي التي استقبلت الألعاب الأولمبية الشتوية 2014. وفي العام الماضي مدح بوتين أردوغان ووصفه بالزعيم «القوي» لدعمه العلاقات مع روسيا في وقت أدار الغرب ظهره له بعد النزاع في أوكرانيا. ولكن تركيا اليوم أصبحت كما تقول المجلة العدو الرئيسي لروسيا. وبحسب الدعائي ومقدم برنامج تلفزيوني ينطق عن الكرملين ديمتري كيسليف «فتركيا اليوم خطيرة». ولم تقتصر الدعوة للمقاطعة التركية على التجارة والسياحة بل ودعا وزير الرياضة نوادي كرة القدم الروسية بعدم شراء اللاعبين الأتراك في موسم انتقال اللاعبين. وقررت عشرات الجامعات الروسية قطع علاقاتها مع نظيراتها التركية وتم استدعاء التلاميذ الروس من برامج التبادل التعليمي في المدارس التركية. ووجد سائقو الشاحنات التركية أنفسهم ينتظرون لساعات طويلة على الحدود الروسية فيما تقدم محامون في روسيا بشكاوى نيابة عن أتراك تعرضوا للتحرش في روسيا ونقلت المجلة عن مراد موساييف، المحامي المقيم في موسكو إن عمليات التحرش «تحدث في كل مكان من فلاديفستوك إلى كالينغراد».

خسائر

وستلقي الأزمة بظلالها على الدولتين اللتين ستخسران من المواجهة بطرق متباينة. ويقول بعض المحللين إن الآثار لن تتجاوز الوخزة بقدر ما هي طعنة. ففي الجانب التركي قد تتضرر بعض الشركات من قرار الحظر على الطعام والسياحة ولكن العائدات التركية السنوية من التبادل التجاري مع روسيا لا تتجاوز 1٪ بحسب فاطمة ميليك الاقتصادية في «أقبانك» بل ومن المتوقع أن تكون الخسائر أقل. أما بالنسبة لروسيا فستكون أكبر حيث ستزيد من نسبة التضخم بنسبة ما بين 1٪ ـ 1.5٪ حسب ناتاليا أورلوفا الاقتصادية في بنك «ألفا» الروسي. وتقول المجلة إن الحظر صمم ليبدو جيدا على التلفاز أفضل منه في الواقع. مثلا لم تشمل قائمة الحظر الليمون التركي الذي يشكل 90٪ من الذي يباع في متاجر روسيا. ولم تمس القائمة الغاز الطبيعي الذي يعتبر عماد العلاقات الروسية ـ التركية. إلا أن العقوبات صممت لكي يتم التراجع عنها ولكن هذا لا يعني تحسن العلاقات بين البلدين في أي وقت قريب.

سوريا

وكشف إسقاط الطائرة عن الخلافات المرة بين البلدين حول سوريا. وأجبر النزاع مع روسيا الأتراك إلى إعادة النظر في علاقاتهم مع الغرب وكما يقول سوات كينكلي أوغلو مدير معهد الإتصالات الاستراتيجية فقد فهم المسؤولون الأتراك أن «مصالح تركيا الأمنية مرتبطة بالغرب». ويرى بافيل شيلكوف في مقال نشره موقع مركز «كارنيغي» (25/11/2015) أن عودة سوريا كموضوع رئيسي للنزاع بين البلدين جاءت في وقت حاولت فيها كل من روسيا وتركيا عبر العلاقات التجارية والتبادل الاقتصادي تجاوز الخلافات بينهما المتعلقة بسوريا إلا أن التدخل العسكري الروسي في نهاية شهر إيلول/سبتمبر أثار مخاوف أنقرة التي شعرت بالإحباط ليس لأن التدخل عزز موقف الرئيس السوري بشار الأسد بل ولأنه ساعد الأكراد الذين ترى فيهم تركيا خطرا قوميا. كما أن الأجواء التي سادت في مرحلة ما بعد هجمات باريس زادت من فرص التعاون الغربي مع روسيا وهو ما أثار مخاوف تركيا على مصالحها في سوريا. ويرى شيلكوف الذي يعمل محللا في معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في موسكو أن دعوة تركيا الناتو لمساعدتها هي محاولة لاستعادة تأثيرها في سوريا. وعليه صورت تركيا دخول الطائرة الروسية الأجواء التركية كتحد للناتو. ويعتقد شيلكوف أن كل العلاقات التجارية والسياسية التي بنتها أنقرة وموسكو خلال السنين لم تعن الكثير عندما تعلق الأمر بالصدام بينهما على الساحة السورية. ولكن الخلافات تؤشر لأزمة الرئيس بوتين نفسه الذي يبحث عن مخرج.

فتصعيد بوتين للهجته ضد تركيا خاصة في خطابه الذي ألقاه في 3 كانون الأول/ديسمبر بأنها استحضار للنبرة القومية ضد تركيا وبالتأكيد سيجد الرئيس ردا من قطاعات شعبية كما قالت «الغارديان» في افتتاحيتها (4/12/2015) حيث وصفت أداءه بالمثير للفضول، ومن رجل أدهش وأقلق العالم بسياساته الجريئة والمتعمدة من ضم القرم وحربه في شرق أوكرانيا وتدخله العسكري في سوريا. وترى أن بوتين في لهجته المتشددة حاول التغطية على ثمن تدخلاته العسكرية من خلال الهجوم على تركيا، فالقرم تعيش في الظلام منذ قيام التتار وحلفائهم الأوكرانيين بتدمير خطوط الكهرباء التي تزودها بالنور. كما أن وكلاء روسيا في أوكرانيا أصبحوا خارج السيطرة ويطالبون بأكثر مما تستطيع روسيا تقديمه. ولهذا تفكر موسكو بتسوية مع أوروبا التي رعت اتفاقية بين البلدين تقوم على التعاون مع أوروبا في الملف السوري مقابل تسوية مع أوكرانيا ورفع العقوبات الأوروبية. وفي سوريا نجح التدخل الروسي بدعم النظام السوري لكنه لم يحقق تقدما حيث صد مقاتلو المعارضة الهجمات الأولى بعد حصولهم على صواريخ مضادة للدبابات من دول الخليج. كما واكتشفت روسيا مثل أمريكا قبلها أن القصف الجوي ليس الجرعة السحرية. وبالسياق نفسه فالحل الدبلوماسي شائك خاصة أن التحالف الروسي ـ الإيراني ـ العراقي الضعيف في مجال تبادل المعلومات الأمنية يمكن أن يتداعى في أي لحظة بسبب الشكوك الإيرانية والخلافات حول مستقبل الأسد حيث تخشى طهران من تخلي موسكو عن الرئيس السوري. ولهذا فالتوتر التركي ـ الروسي يضيف من التعقيدات التي تواجهها موسكو في سوريا. إلا أن بوتين تعلم من المواجهة مع تركيا أن بناء صداقة يحتاج وقتا طويلا لكن يمكن خسارتها في يوم واحد. وترى الصحيفة أن قيام بوتين بقصف التركمان السوريين إخوة الأتراك لم يكن تحركا ذكيا مهما كان التفسير للفعل التركي تجاه الطائرة ولم يؤد التصرف هذا إلا زيادة كارثة على كارثة، وتأثر بالتالي هدفه لتغيير الوضع في سوريا نتيجة للمواجهة مع أنقرة.

ثقل التاريخ

ولا يمكن فصل التلاسن الكلامي والتهديدات الروسية والإتهامات التركية عن الإرث التاريخي بين البلدين وهو إرث حروب وهزائم. فروسيا هي عدوة الدولة العثمانية حيث خسرت كل الحروب التي خاضتها مع موسكو. ويرى أكين أونفير، الأستاذ بجامعة قادر خاص في اسطنبول في مقال نشرته الدورية الأمريكية «فورين أفيرز» (29/11/2015) أن مسار العلاقات الروسية ـ التركية تحدد في عام 1783 عندما احتلت قوات القيصر الروسي القرم التي كانت أول مرة يخسر فيها العثمانيون منطقة إسلامية تابعة لهم. وقد قادت صدمة الهزيمة العثمانيين للبحث عن مصادر القوة ومعالم الحداثة في أوروبا. وجاءت نتائج الحداثة في التحالف الفرنسي ـ البريطاني ـ العثماني في حرب القرم (1853 ـ 1856) حيث حاولت هذه القوى هزيمة روسيا في القرم. ولكن الروس عززوا من قوتهم في البحر الأسود وهو ما قاد لخسائر عثمانية على مدار أكثر من قرن ليس في القوقاز ولكن بمنطقة البلقان. ويعتقد الكاتب أن السياسة الخارجية التركية غالبا ما استندت على التجربة التاريخية. فاتفاق تجاري مع إيران مثلا يمكن أن يقوم بناء على معاهدة «زوهاب» عام 1639 والتي أنهت الحروب بين العثمانيين والصفويين. ولهذا السبب فقد اعتبرت أنقرة أن الملف النووي الإيراني لن يهددها نظرا للهدوء الذي ساد الحدود التركية ـ الإيرانية منذ تلك المعاهدة. وفي السياق نفسفه معاهدة مع فرنسا ربما تمت بناء على نظام الإمتيازات الذي منحه السلطان سليمان القانوني للتجار الفرنسيين. وليست تركيا وحدها هي التي تستند على التجربة التاريخية، فروسيا استعادت عام 1783 1856 عندما ضمت القرم عام 2014. ولهذا أعلن أردوغان أنه لن يعترف بهذا الضم أبدا. وبناء على هذا الإرث يمكن لنا أن نفهم ما جرى الشهر الماضي باعتباره نتاجا لخروقات روسية مستمرة. ويشير الكاتب هنا للخروق التي قامت بها الطائرات الروسية والتحركات العسكرية البحرية التي قامت بها حتى قبل أن تتدخل في سوريا هذا الخريف بحيث أصبحت تركيا محاصرة بالجيش الروسي. وهو ما قاد رئيس هيئة الأركان التركي خلوصي أكر للقول إن بلاده أصبحت «داخل دائرة من لهب». وكان الجنرال يعلق على حادث اختراق طائرة روسية للمجال الجوي في 3 تشرين الأول/أكتوبر حيث تصدت لها طائرتان تركيتان ورافقاتها حتى دخلت الأجواء السورية. ورغم مزاعم روسيا بأن الحادث كان بالخطأ إلا أن الطائرات الروسية استمرت في خروقاتها وهو ما دفع تركيا لدعوة الناتو لاجتماع طارئ. وحصلت على دعم من الأمين العام للناتو يانز ستولتنبرغ. واقترحت تركيا في مرحلة لاحقة لوقف الخروقات لجنة تركية ـ روسية للتنسيق إلا أن الروس لم يفهموا الرسالة على ما يبدو أو أنهم كانوا يخترقون المجال الجوي التركي عن قصد. وعليه فالحادث الأخير لم يكن مفاجئا ويجب أن لا يكون مفاجئا خاصة لباحثي الشؤون الدولية المهتمين بتحليل المفهوم والعملية التي أدت للصدام الحالي بين البلدين. ولكن كيف حدث هذا في ظل علاقة قوية بين بلدين يحكمهما رجلان قويان منذ وقت طويل؟ فمهما كانت رؤية كل طرف حول طريقة إسقاط الطائرة فالحرب السورية إن لم يتم وقفها أو إدارتها بشكل جيد فستتحول إلى حرب بالوكالة بين تركيا وروسيا وربما الناتو كما يقول أونفير. فالبنسبة لتركيا فالحصارالعسكري يعبر عن رؤية امبريالية وهو ما سيدفعها لاتخاذ موقف. وأكثر من هذا فاستمرار الخروقات الجوية لا تعتبر مشكلة تركية بل تعتبر تحديا للناتو. أما روسيا فنشاطها الجوي يعبر عن رد على النشاطات الأمريكية في القطب الشمالي والمحيط الهادئ. ويعتقد أونفير أن تركيا وخلال القرون الماضية عانت هزائم بسبب الصعود الروسي، خلال حرب القرم والحرب العالمية الأولى والحرب الباردة حيث حاولت حماية نفسها عبر تحالفات مع الغرب. ولكن يجب أن لا يكون الرد عسكريا دائما بل من خلال تخفيف نشاطات الناتو في القطب الشمالي والمحيط الهادئ ونقل مظاهر القلق التركية لروسيا على مستوى الناتو وهو ما قد يحمي العلاقات الروسية ـ التركية من أشباح الماضي. وفي النهاية تظل سوريا هي الساحة التي يمكن من خلالها تجنب شرور العلاقات الماضية. لكن بوتين على ما يبدو مصمم على حرمان تركيا من القوى المؤيدة لها في سوريا ودعم تلك التي تخشاها أنقرة وهي الأكراد. وهو ما يجعلنا ننتظر في الأيام المقبلة تصعيدا جديدا.

 

 

 

 

إسقاط سوخوي 24: تحول في العلاقات بين موسكو وأنقرة أكثر من روسيا والحلف الأطلسي/ د.حسين مجدوبي

إسقاط سلاح الجوي التركي يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 للطائرة المقاتلة المقنبلة الروسية سوخوي 24 ليس بالحادث البسيط الذي قد ينتهي بتقديم الرئيس التركي طيب رجب أردوغان اعتذارا لنظيره في الكرملين فلاديمير بوتين ويقبل الأخير، وبالتالي يطوى الملف، بقدر ما هو منعطف في التموقع الحربي في الشرق الأوسط. ومن عناوين هذا التطور حاليا ومستقبلا إنزال روسي ضخم في المنطقة والبحث عن فرصة للرد أو «الانتقام».

ورغم أن الحادث لم يكن منتظرا، فهو لم يكن مستبعدا نهائيا لعاملين أساسين وهما:

في المقام الأول، التواجد العسكري لعدد من الدول وأغلبها بأسلحة متطورة للغاية في منطقة ساخنة وهي سوريا، حيث تتوفر الكثير من الدول على سيناريوهات سياسية وعسكرية يمكن تلخيصها في: رغبة مجموعة من الدول وعلى رأسها السعودية وتركيا إسقاط الأسد، ورغبة مجموعة أخرى في المحافظة على استمراره. وهذا يجعل احتمال الاحتكاك العسكري واردا للغاية.

في المقام الثاني، وجود شخصيات سياسية ذات طموح إقليمي ودولي قوي تتفاعل مع الأحداث إلى مستوى ربط ما يمس الوطن يمسها هي في العمق. فمن جهة هناك التدخل الروسي بزعامة فلاديمير بوتين، في وقت يريد هذا الأخير تأكيد قوة روسيا وإعادة انتشارها في مختلف مناطق العالم ومنها البحر الأبيض المتوسط. وينطلق من أسس سياسية ولكن كذلك دينية، فالطائرات التي هاجمت تنظيم الدولة جرى رشها ببخور الكنيسة الأرثودوكسية علاوة على تصريح بوتين بأن الله يعاقب زعيم تركيا. وهو تصريح ديني مثير للغاية من زعيم الكرملين، في وقت ما زال جزء كبير من الرأي العام العالمي يربط الكرملين بالشيوعية والإلحاد. ومن جهة ثانية، شخصية طيب رجب أردوغان الذي يريد التحول إلى القوة العسكرية والسياسية الرئيسية في الشرق الأوسط إلى جانب إسرائيل، وبدوره في ثوب ديني معلن ولكنه معتدل. فنحن أمام طموحات «قيصرية» و»عثمانية». مباشرة بعد بدء القصف الروسي لتنظيمات المعارضة ومنها المتطرفة مثل تنظيم الدولة في سوريا، وقعت في أوائل تشرين الاول/أكتوبر الماضي حادثتين، وتتجلى في تحرش بين طائرة روسية وأخرى تركيتين في الحدود السورية-التركية. والبيان العسكري التركي أكد تعرض طائرتين تركيتين لعملية الرصد بالرادار الخاص بالتصويب لضرب الهدف من طرف المقاتلة الروسية، وليس فقط الرصد من طرف رادار الإنذار المبكر. وهذا يعني في القاموس العسكري أن المقاتلة الروسية قد شغلت صواريخها لضرب الطائرتين التركيتين ومنحهما مهلة زمنية لتغيير مسارهما والهبوط آلاف الأقدام لتفادي ضربة عسكرية. بينما لم تشغل الطائرتان التركيتان رادارات ضرب الأهداف للرد والتخويف والاستعداد للمواجهة بل انسحبتا. وهذا التصرف في القاموس العسكري يكشف حصول الربابنة الروس على أوامر واضحة بالضرب في حالة عدم استجابة الطرف الآخر والقيام بالانسحاب، بينما لا يتوفر الربابنة الأتراك على أوامر مماثلة بالضرب.

وتكررت عملية المضايقة والتحرش، في الفترة نفسها بقيام أنظمة مضادة للطيران روسية- سورية، صواريخ، بتعمد  رصد الطائرات التركية من نوع أف 16 وجعلها في مربع التصويب والضرب.

يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، قام سلاح الجو التركي، طائرة ف 16، بإسقاط طائرة سوخوي 24 الروسية تحت ذريعة خرقها الأجواء التركية. وتنفي روسيا عملية الاختراق وتتهم أنقرة بتنفيذ مخطط محبوك، ومن ضمن الاتهامات تلك التي وجهها فلاديمير بوتين إلى أردوغان: حماية تجارة النفط مع تنظيم الدولة الإرهابي.

عسكريا، يتولى الحلف الأطلسي مراقبة الأجواء التركية ضمن أجواء الدول الأعضاء إلا أن سلطات أنقرة قد تكون تصرفت لوحدها ولم تعد إليه عندما رصدت اختراق الطائرة المقاتلة الروسية لأجواءها يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر وأسقطتها. وكانت تركيا قد اتصلت بهذه المنظمة العسكرية عندما قالت بخرق طائرات روسية لأجواءها خلال تشرين الاول/أكتوبر الماضي.

ونظرا لعضويتها في منظمة شمال الحلف الأطلسي، تتولى قاعدة الحلف في العاصمة مدريد مراقبة الأجواء التركية، وهي القاعدة المكلفة بمراقبة وحراسة أجواء جنوب أوروبا من جزر الآزور البرتغالية في المحيط الأطلسي إلى الحدود التركية مع سوريا وحتى أوكرانيا، وهي منطقة حساسة للغاية بسبب النزاع السوري والأوكراني والليبي.

ويتولى جنرال اسباني وهو روبن غارسيا سيرفيت مهمة مراقبة أجواء الحلف الجنوبية. وكان هذا الجنرال قد صرح لجريدة «الموندو» خلال كانون الثاني/يناير الماضي أنه «إذا كان يجب إسقاط طائرة عدو، فالذي يتخذ القرار هو أنا، أنا موجود 24 ساعة كل يوم وكذلك المساعدين لي لأننا يجب ان نحمي أجواء دول الحلف».  وكتبت جريدة «إسبانيول» يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بتلقي هذا الجنرال الإسباني شكاية تركيا خلال بداية الشهر الماضي عندما خرقت طائرات مقاتلة روسية الأجواء التركية في بداية تشرين الأول/أكتوبر، وطالب من سلاح الجو التركي اعتراضها دون القصف، لكن يبدو أن هذه المرة تصرفت تركيا بدون اللجوء في البدء إلى الحلف الأطلسي. ويخول قانون الحلف للأعضاء بالتصرف دون العودة إليه في البدء، لكنه ينص دائما على ضرورة الاستشارة. وبرودة الموقف الأطلسي إلى جانب تركيا قد يعود إلى قرار أنقرة إسقاط الطائرة الروسية دون استشارته.

وتثير قضية إسقاط الطائرة نقاشا سياسيا وعسكريا وسط العسكريين سواء داخل الحلف الأطلسي أو ضباط سابقين. ويتجلى التساؤل في: هل يحق لتركيا إسقاط طائرة تدرك مسبقا أنها غير عدوة، بمعنى أنها لم تكن تخطط لضرب الأراضي التركية؟

وتذهب الأجوبة في اتجاهين، الأول ويعتبر التصرف التركي عداء بحكم أن الطائرات الروسية تركز على ضرب تنظيم الدولة وباقي المعارضة ولا تود إلحاق ضرر بتركيا. ويذهب التحليل الثاني إلى اعتبار أن كل دولة من حقها إسقاط أي طائرة أجنبية تحلق في أجوائها بدون ترخيص. مباشرة بعد سقوط طائرات ف 16 التركية لسوخوي 24 الروسية، تعالت الأصوات بتفوق الطائرات الأمريكية، لكن عسكريا لا يمكن نهائيا المقارنة دون الأخذ بعين الاعتبار وضعية سوخوي. وتفيد التحاليل العسكرية سواء في روسيا أو الغرب بأن سوخوي 24 هي طائرة مقنبلة عاجزة عن القيام بمناورات في الجو بقدر ما تلقي حمولتها من الأسلحة وتعود أدراجها إلى القاعدة الجوية، في هذه الحالة قاعدة تميم.

وفي معايير استخدام القاذفات خلال القصف الجوي على العدو، ترافقها طائرات حربية من نوع آخر، وهي الطائرات المقاتلة أو الاعتراضية، لتوكل إليها مهام حماية القاذفات طوال مسار تحليقها منذ الإقلاع، حتى أن تفرغ حمولتها من القنابل على رؤوس العدو ومواقعه وتعود إلى قواعدها.

وعندما تتحدث موسكو عن «طعنة في الظهر»، فهي تقول أن تركيا استغلت وجود سوخوي 24 لوحدها وضربتها بصاروخ جو جو من ف 16. وعسكريا، لو كانت طائرات اعتراضية رفقة سوخوي 24، لكان الرد الروسي في حينه ولوقعت مواجهة مسلحة بين سلاح البلدين لا أحد يعرف أبعادها.

بغض النظر عن الإجراءات الاقتصادية والسياسية، تفادت روسيا الرد المباشر على سلاح الجو التركي بسبب ضعف المضادات للطيران في سوريا. لكنها مباشرة بعد ذلك، قامت بتزويد مختلف الطائرات التي تقصف تنظيم الدولة والمعارضة بصواريخ جو-جو ومرافقة مقاتلات اعتراضية للمقنبلات الروسية من نوع سوخوي 24، وهذا يعني الاستعداد لمواجهة أي طائرة تركية تصوب رادارها من باب التهديد ضد الطائرات الروسية، وفق وزارة الدفاع في موسكو.

وفي الوقت ذاته، قامت في قاعدة حميم السورية بنشر منظومة إس 400 التي تعتبر الأكثر تطورا في العالم في مواجهة الطائرات الحربية والصواريخ المجنحة والباليستية. وهو ما يخلف قلقا حقيقيا لدى الحلف الأطلسي، وطالب البنتاغون من موسكو سحب هذه المنظومة. ومن نتائج نشر هذه المنظومة ابتعاد طائرات تركيا من الحدود السورية، فأنقرة تدرك جيدا أن روسيا تبحث عن الفرصة المناسبة للرد العسكري. في الوقت ذاته، جعلت من إقامة منطقة حظر طيران، كما ترغب تركيا والسعودية، مهمة مستحيلة في أي منطقة سورية.

ورفعت موسكو من سلاحها البحري، حيث تتواجد في المياه السورية بالقرب من التركية عشر سفن حربية من أهم قطع الأساطيل الروسية. ولا تتردد روسيا في توجيه خطابات تهديد إلى تركيا، فأمام سيناريو منع أنقرة مرور سفن عسكرية روسية من معبري الدردنيل والبوسفور، سارعت الكرملين عبر وسائل الإعلام المقربة بنشر سيناريو تلغيم المعبرين بألغام وجعله غير صالح للملاحة.

وأمام كل هذه التطورات، تلتزم تركيا الحذر الشديد، فهي لا تريد أي مواجهة مع روسيا، علما أن تاريخ المواجهات الحربية يعود كله إلى صالح موسكو. ويتخذ الحلف الأطلسي الحذر ويراهن على الحوار. ولهذا، هناك خلاصة مفادها أن حادث إسقاط سوخوي 24 تحول في العلاقات بين تركيا وروسيا أكثر بكثير من العلاقات بين روسيا والحلف الأطلسي.

 

 

 

التوتر الروسي ـ التركي من منظور أمريكي يشكل تحديا لمستقبل حلف الناتو والتوازن الجغرافي السياسي في أوروبا والشرق الأوسط/ رائد صالحة

واشنطن ـ «القدس العربي»:ردد الرئيس الأمريكي باراك أوباما مرارا ان تركيا، شأنها شأن أي بلد آخر، لديها الحق في الدفاع عن أراضيها ومجالها الجوي، وذلك تعليقا على حادث اسقاط المقاتلة الروسية «سو 24 « من قبل طائرة «اف 16» التركية، ووفقا لآراء الخبراء فان أوباما محق تماما في هذا القول ولكن الأمور معقدة أكثر من هذا التصريح لان للروس حجج قانونية قوية قد تبرهن على الخطأ تحديدا في هذه الحالة.

المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تسمح باستخدام القوة في حال وقوع «هجوم مسلح» ولكن محكمة العدل الدولية خلصت في قضية عام 1986 ان مجرد عبور محدود للحدود قد يشكل انتهاكا لميثاق الهيئة الدولية وليس بالضرورة «الحق في استخدام القوة» خاصة في غياب هجوم واسع النطاق. المشكلة هنا، ان الأتراك لم يؤكدوا على تعرضهم لهجوم مسلح أو نية الروس بفعل بذلك بل قالوا في رسالة إلى الأمم المتحدة ان الروس انتهكوا المجال الجوي التركي على عمق لا يزيد طوله عن 17 ثانية رغم تحذيرات متكررة وان الطائرات التركية قصفت وفقا لقواعد الاشتباك وهي حجة غير رابحة وفقا لمتطلبات القانون الدولي لكنه يتطلب، أيضا، قوة في الدفاع متناسبة مع التهديد المحتمل.

الولايات المتحدة اتخذت حتى الآن موقفا مبهما حول مدى معرفتها بالموقع الدقيق للطائرة التي يصر الروس انها لم تدخل أبدا المجال الجوي التركي مع تأكيدات على عدم وجود نوايا عدائية مع حقيقة ان اختراق المجال الجوي لا يمنح بالضرورة الترخيص القانوني لاستخدام القوة، وإضافة إلى ذلك، من الممكن ان الطائرات الروسية اخترقت المجال التركي بسبب سوء فهم من الملاحين ناتج عن سوء نظام التوجيه بالأقمار الصناعية، وبطبيعة الحال، لا يمكن توظيف أخطاء التوجيه الالكتروني كسبب لاستخدام القوة المميتة.

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس شتولتنبيرغ أعلن صراحة بانه «يقف تضامنا مع تركيا» ولكنه كان أكثر حذرا في اطلاق الأحكام قبل معرفة كل الحقائق والتحليل القانوني الكامل بشكل محدد لان المادة 5 من معاهدة الناتو التي تنظم الدفاع عن النفس تتفق تماما مع مسار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والانكى من ذلك كله، ان الجدل القانوني في الساحة الدولية والأمريكية لم يثر فقط بسبب اسقاط الطائرة بل بسبب الهجوم على الطيارين وهم يلوذون بالفرار من الطائرة المنكوبة من قبل عناصر الجيش السوري الحر ناهيك عن مقتل أحد جنود البحرية الروس في محاولة الانقاذ.

ماذا تعني هذه الحقائق بالنسبة للولايات المتحدة؟ تحتل تركيا قيمة عالية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وهي، أيضا، من أهم الأعضاء في التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وعلى الرغم من ضرورة الالتزام بسيادة القانون في الحالات غير المستقرة مثل سوريا إلا انه تم استخدام تفسيرات فضفاضة للحادثة مما يثير تساؤلات قانونية حول حالات اضطراب أخرى للطيران في جميع أنحاء العالم بما في ذلك التحليق في بحر الصين الجنوبي.

بعيدا عن الجدل القانوني والأخلاقي في حادثة اسقاط الطائرة الروسية في ضوء انتهاج سياسة المصالح أولا في العلاقات الدولية وخاصة من المنظور الأمريكي خاصة وانه لا يمكن للغرب أو الولايات المتحدة ترك تركيا بدون حماية ردا على الغضب الروسي لان تقويض أي دور لأنقرة في الوقت الحاضر سيعني بلا محالة تقويضا لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة.

من المرجح ان تتعكر العلاقات التركية ـ الروسية وهناك احتمال واضح بحروب وكالة بين الطرفين في شمال سوريا بدلا من داخل تركيا نفسها ولكن الأمور ستتجه في نهاية المطاف إلى تسوية مؤقتة. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو المتضرر الأول من الفعل التركي وما زال ينظر إلى الغرب كعدو، ووفقا لأقوال العديد من المحللين فهو يشتبه بدور «في الظلام» للولايات المتحدة فيما حدث، وعلى الأغلب، سيواصل جهوده لتقويض الولايات المتحدة، وحسب المنظور الروسي، فان تركيا قد تكون هدفا سهلا لتقويض هذا النفوذ وسط تعقيدات الوضع الجيو سياسي، ولن يتوقف بوتين اللآن عن تحديد مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد رغما عن أنف الولايات المتحدة بل سيعمل على زيادة نفوذ الأكراد وتحديد مستقبل «كردستان» بهدف زيادة نفوذ روسيا في المنطقة. اسقاط الطائرة الروسية وفقا لآراء العديد من المحللين الأمريكيين مشكلة يمكن ان تتحول بسهولة إلى تحد كبير لمستقبل حلف شمال الأطلسي والتوازن الجغرافي في كل من أوروبا والشرق الأوسط. لا أحد يشعر بالارتياح من التوتر بين روسيا وتركيا، العضو في حلف الناتو، ولكن الرغبة في تخفيف حدة سخونة درجة الحرارة بين البلدين لم تتحقق بعد بل برزت خطابات تحريضة من طرف بوتين، ولسنوات، برز بوتين كقائد من القرن التاسع عشر يحترف التكتيك الجيوسياسي تماما، والمغامرة السورية كانت مثالا آخر على المرونة التكتيكية إلى جانب غرزة المقامر في اختيار موعد الضرب ولكن العديد من المراقبين يعتقدون الآن بانه لا يستطيع «المضغ» جيدا بشكل واقعي نظرا للعقوبات المفروضة على موسكو بسبب الأزمة الاوكرانية وانخفاض أسعار النفط.

الرئيس الأمريكي باراك أوباما دعا في وقت سابق تركيا لتخفيف التوتر مع موسكو بعد اسقاط الطائرة الحربية الروسية ولكن هذه الآمال تعرضت لنكسة بعد ان أعلنت موسكو قائمة من العقوبات ضد تركيا مع تهديدات بتجميد العمل في مشروع خط أنابيب للغاز. والتقى أوباما الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في باريس مؤكدا له، أيضا، دعم الولايات المتحدة لأمن حليفتها في حلف الناتو مضيفا انه ناقش كيف يمكن لتركيا وروسيا العمل معا لنزع فتيل التوترات وإيجاد الطريق الدبلوماسي لحل هذه المشكلة. في نهاية المطاف، ترغب إدارة أوباما بالفعل في انهاء التوتر بين تركيا وروسيا لان هذا التوتر يعقد جهود الولايات المتحدة بحث موسكو على توجيه القوة تجاه تنظيم «الدولة الإسلامية» بدلا من جماعات الغرب ناهيك عن مخاوف اللجوء إلى اختبار حقيقي لحلف شمال الأطلسي بسبب ردة الفعل الروسية أو استغلال المشكلة لتحقيق مكاسب سياسية تزيد من نفوذ موسكو في الشرق الأوسط عبر لعب الورقة الكردية.

 

 

 

 

 

هل تنجح روسيا في ما فشلت فيه إيران؟/ عبد الرحمن الراشد

مع أن البداية سيئة، بعد أن أُسقطت لهم طائرتان، الأولى مدنية فجّرت فوق مصر، والثانية قاذفة فوق تركيا، يبدو أن الروس عازمون على الانتقام، وكسب المعركة في سوريا.

الآن نراهم يطبقون خطة ذكية محورها عزل الأتراك، اللاعب الرئيسي ضد نظام بشار الأسد. ولو نجحوا بشكل كامل قد يكونون هم صاحب الكلمة الأخيرة في مستقبل سوريا.

فقد قصفت بعنف المقاتلات والصواريخ الروسية المنافذ الحدودية التركية السورية، والمناطق الداعمة لها داخل الحدود السورية، التي كان يعتبرها الأتراك تحت حمايتهم. ويقول الروس إنهم دمروا معابر المرور للمقاتلين، والتجارة بين البلدين، وأوقفوا شريان الحركة شبه الوحيد الذي يربط المنظمات المسلحة بالعالم. فالأردن سبق وأوقف كل الحركة من حدوده، بعد وصول الإيرانيين إلى الجنوب السوري، وتحديدا في محافظة درعا. وفي لبنان قام الجيش مع ميليشيات حزب الله بإغلاق تام تقريبا للحدود مع سوريا، وكذلك فعل أكراد العراق منذ معركة كوباني. أما الحدود مع الأنبار العراقية المفتوحة فإنها لا تمنح المعارضة السورية البعد الخارجي.

الآن بعد شل قدرات تركيا كفاعل في سوريا، هل نحن أمام نهاية الثورة السورية، ونهاية تنظيمات معارضة مسلحة معتدلة مثل الجيش الحر، وأخرى متطرفة مثل «داعش» و«جبهة النصرة»؟

رأيي، هذه انتكاسة مؤقتة، وأنا لا أتحدث عن الجانب العسكري العملياتي، بل بناء على الدوافع السياسية والاجتماعية المحركة للحرب. فالحاضن الشعبي للانتفاضة السورية هو سوريا البلد، والسوريون الشعب، وليست القوى الخارجية كما يزعم خصومها. نظام الأسد ينتمي إلى حقبة الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة، ومثيلاته سقطت في أنحاء العالم أو تغيرت.

ستستمر المعارضة وسيدوم الرفض، ولن يفلح الروس والإيرانيون وبقايا النظام في إعادة عقارب الساعة. ومن دون حل سياسي يعطي أملا للجميع، لن تتوقف الحرب حتى لو أقفلت كل بوابات الحدود.

إن أراد الروس النجاح فأمامهم فرصة ثمينة، نظرا لأن علاقتهم بمعظم الأطراف الرئيسية إيجابية. يستطيعون تركيب حل يقوم على جمع المعارضة غير الدينية المتطرفة، مع بعض القوى المجتمعية، وبعض رموز الأسد.

ومؤتمر الرياض يمهد لرسم جبهة قادرة على قيادة سوريا الجديدة، وهو من صالح الجميع، دون تطرف أو إقصاء للآخرين.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

كيف آلمت روسيا تركيا؟/ إياد الجعفري

خلافاً لتوقعات الكثيرين من المراقبين، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التضحية بالمصالح الاقتصادية بغية معاقبة تركيا، رغم أن ذلك سيُضر بروسيا أيضاً على المدى البعيد، في حال استقرت تلك العقوبات الاقتصادية.

قد يصعب على الكثيرين فهم كيف أن رئيس دولة يعاني اقتصادها من ضائقة عصيبة، وعقوبات غربية مؤثرة، وتدني ملحوظ في القدرة الشرائية لمواطنيها، ينال من العلاقات الاقتصادية مع واحد من أكبر شركائه التجاريين، بحجم تعاون يصل إلى 44 مليار دولار أمريكي.

وقد يستغلق على فهم البعض، كيف أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي ظهر بمظهر البطل في نظر شرائح واسعة من العرب والأتراك، بعيد إسقاط الطائرة الروسية، يُبدي الحزن حيال الحادثة، ويتمنى لو لم تحدث.

لكن مراجعة “ترومتر” الشعبين الروسي والتركي يُتيح لنا فهم كيف يفكر صناع القرار في العاصمتين الروسية والتركية.

ففي حين تشير استطلاعات رأي ومراكز أبحاث متخصصة، إلى أن أكثر من نصف الروس يُقدّرون فلاديمير بوتين نظراً لنجاحاته في تعزيز قدرات روسيا الدفاعية، وتوطيد مكانتها الدولية، يُجمع المراقبون على أن نجاحات حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا، في المجال الاقتصادي تحديداً، هي العامل الأساس في توطيد شعبيته، وفي نجاحاته الانتخابية.

الروس حساسون لما قد ينال من هيبة بلادهم، إثر تجربة مريرة من التردي بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، وضع فلاديمير بوتين حداً لها منذ اعتلائه كرسي الحكم العام 2000.

مقابل ذلك، يبدو أن الأتراك حساسون لكل ما يمس معيشتهم وازدهارهم الاقتصادي، بعد تردٍ اقتصادي كبير عاشه الأتراك في حقبة التسعينات من القرن الماضي، وضع حزب العدالة والتنمية حداً له منذ اعتلائه لكرسي الحكم في العام 2002، وراكم شعبية مستقرة لا تهتز، كما أثبتت الانتخابات النيابية الأخيرة، بمددٍ من نجاحات اقتصادية متوالية.

لا نعرف إذا كان صنّاع القرار بأنقرة قدّروا إلى أي حدّ قد ينال إسقاط الطائرة الروسية من هيبة بوتين في أوساط الشارع الروسي. هذا الشارع الذي يقدّر غالبيته بوتين، لأنه رجل قويّ أعاد لبلادهم هيبتها العزيزة على قلوبهم منذ عهد الاتحاد السوفيتي.

على ضفة موسكو، كان الروس يدركون جيداً أكثر ما قد يقض مضاجع مسؤولي أنقرة، إنه الاقتصاد، فنالوا منه، غير عابئين بتبعات ذلك على اقتصاد روسيا المُثقل بالتحديات والمشكلات.

بطبيعة الحال، لم ينحصر الرد الروسي على الأتراك بالبعد الاقتصادي، بل أخذ تجليات ميدانية خطيرة أيضاً، لكن البعد الاقتصادي ربما هو أكثر ما سيؤرق أنقرة.

في البعد الميداني، تجلى الرد الروسي على حادثة الطائرة في ثلاثة خطوات، اثنتان منها كانتا متوقعتين، فيما الثالثة، جاء تنفيذها بصورة مغايرة للتوقعات.

الخطوة الأولى، كانت تكثيف النيل من تركمان الساحل السوري، مع العلم أن استهدافهم من جانب الطيران الروسي كان السبب الرئيس في تفاقم استياء أنقرة وصولاً إلى إسقاط الطائرة الروسية.

الخطوة الثانية، نشر منظومة صواريخ اس 400، بما يضمن حماية الطائرات الروسية، ويحرم الطيران التركي من أي قدرة على المناورة على حدود الساحل السوري شمالاً.

الخطوة الثالثة، وهي الأكثر خطورة، والتي جاءت تجلياتها الميدانية مفاجئة نسبياً، تمثلت في الدعم الجوي الروسي لما يسمى بـ “جيش الثوار” المدعوم من وحدات حماية الشعب الكردية، في شمال غرب حلب، لخوض حرب شرسة مع فصائل المعارضة السورية المدعومة تركياً.

ورغم أن المراقبين توقعوا أن يكون تعزيز التعاون الروسي مع فصائل الأكراد، أحد أشكال الرد على تركيا، إلا أن المفاجئ أن هذا التعاون تم تفعيله ميدانياً من غرب البقعة التي كانت تركيا تراهن على إنشاء منطقتها الآمنة فيها، وليس من شرقها، كما كان المُتوقع. مع الإشارة إلى أن تركيا كانت تعد العدّة لمواجهة أي تقدم كردي من الشرق تحديداً، فجاء التحرك الكردي المدعوم بالطيران الروسي من الغرب.

بكل الأحوال، فإن التحرك الكردي الأخير على جبهة شمال حلب، يهدد المنطقة الآمنة المأمولة تركياً، بين جرابلس واعزاز، الأمر الذي سيُضيف عبئاً جديداً على المعارضة المسلحة بحلب، والتي تقاتل الآن على ثلاث جبهات معاً، جبهة النظام والميليشيات اللبنانية والإيرانية المساندة له، وجبهة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وجبهة الفصائل الكردية.

لكن رغم كل ما سبق، يمكن للعارفين بالشارع التركي أن يقولوا لنا بأن أكثر ما سيُؤلم الأتراك هي العقوبات الاقتصادية الروسية، التي ستنال من رفاه هذا الشعب، وبالتالي، ستنال من شعبية حزب العدالة في أوساطه. وقد يكون أبرز ما يخفف من وطأة  الضرر الاقتصادي على مسؤولي حزب العدالة، أن لا استحقاق انتخابياً قريباً، الأمر الذي قد يُتيح لهم هامشاً زمنياً مريحاً لإيجاد بدائل وحلول اقتصادية تعوّض خسائر العلاقات مع روسيا.

أما بالنسبة للروس، لا يبدو أنهم سيشعرون بحجم الضرر الاقتصادي الذي سيطالهم في الأمد القريب، فتركيزهم منصب على كيفية استعادة كرامتهم المهدورة على ضفاف الساحل السوري. لكن على الأمد البعيد، وفي حال لم يتم إصلاح الضرر في العلاقات بين البلدين، ستكون خسائر روسيا الاقتصادية، استراتيجية البُعد، وخطيرة، بصورة سيندم المسؤولون الروس حيالها مستقبلاً.

يبقى التساؤل الآن: هل يتم احتواء التأزم في العلاقات الروسية – التركية في قمة المناخ بباريس غداً؟ خاصة أنه ليس من مصلحة جميع الأطراف الدولية والإقليمية، بما فيها تركيا وروسيا، أن تتصاعد الحرب غير المباشرة في سوريا، من دون أية ضوابط، وأن تصبح حرب “كسر عظم”، كما أوحت به ضربات الروس الميدانية في اليومين الأخيرين.

لننتظر ونرى نتائج قمة المناخ بباريس.

المدن

 

 

 

 

جعجعة روسيا وتركيا..من دون طحين/ عبد القادر عبد اللي

بات الموضوع الوحيد الذي يشغل الصحافة التركية هو “الصراخ والصراخ المضاد” أي “الصراخ التركي، ونقل الصراخ الروسي”. فلم يعد في العاجل من الأخبار سوى تصريحات أردوغان وبوتين، والإجراءات التي يتخذها كل طرف ضد الآخر.

وهذه باقة من التصريحات: “على تركيا أن تعتذر عن إسقاط الطائرة”، “روسيا تقرر وقف استيراد اللحم الأبيض من تركيا اعتباراً من مطلع كانون الثاني/يناير”، “تعليق التعاون العسكري التركي الروسي”، “روسيا تدرس إمكانية تعليق المشاريع العملاقة المشتركة مع تركيا”، “شركات السياحة الروسية توقف الحجوزات المستقبلية”، “تحذير للمواطنين الروس من السفر إلى تركيا”، “توقيف مجموعة من رجال الأعمال الأتراك المشاركين في معرض تجاري في المطار لدخولهم بتأشيرة سياحية”، “بوتين يرفض لقاء أردوغان على هامش قمة المناخ في باريس”، “روسيا تقصف قافلة شاحنات إغاثة في شمال حلب”، “سلاح الجو الروسي يقدم غطاء لوحدات حزب الاتحاد الديموقراطي لتشن هجوماً على الجيش الحر في شمال حلب”. وعاد إلى الساحة من جديد السياسي الروسي الطريف جداً بتصريحاته، رئيس الحزب الليبرالي الروسي “المتطرف قومياً” فلاديمير جيرنوفسكي، ليقول: “ليس صعباً علينا أن نلقي قنبلة ذرية في البوسفور، ونحدث تسونامي يغرق اسطنبول بملايينها التسعة”. يبدو أن جيرنوفسكي الذي يعتبر خبيراً بالشؤون التركية لا يعرف حتى عدد سكان اسطنبول، أو أن عمره بات يخذله في الحسابات.

من جهة أخرى، يرد أردوغان: “لن نعتذر عن إسقاط الطائرة الروسية، وإذا اخترقت أجواءنا أي طائرة أخرى سنسقطها”، وتقول الصحف: “روسيا تنكر قصف قافلة إغاثة تركية في شمال حلب”، “روسيا تعلق التعاون العسكري مع تركيا!” وعلى الرغم من تصريح نائب وزير الطاقة الروسي بأنهم لن يقطعوا الغاز الطبيعي المصدر إلى تركيا، ولكن هناك تخوفاً من تخفيض الكمية. وإزاء هذه الإجراء فقد أعلن وزير الثروات الطبيعية لإقليم كردستان العراق بأنهم على استعداد لتعويض تركيا بنقص الغاز الروسي إن حصل. واحتفت تركيا بهذا التصريح، وهناك تصريحات أخرى مثل: “على روسيا أن تعتذر عن تحطيم زجاج سفارتنا في موسكو، وتعوض الخسائر”، “رداً على التباطؤ المتعمد بإجراءات دخول الشاحنات التركية إلى روسيا، تقرر إجراء إحصاء كامل للبضائع الواردة من روسيا حتى وإن كانت ترانزيت في المعابر البرية والموانئ البحرية”، أي تأخير متعمد أيضاً بمعنى الرد بالمثل، و”رفض زيادة عدد رحلات الطيران المدني الروسي”، “يحق لتركيا بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936 الموقعة بين بلغاريا وفرنسا وبريطانيا العظمى، وأستراليا واليونان واليابان ورومانيا والاتحاد السوفييتي، أن تمنع مرور السفن الحربية من البوسفور في حال التهديد بالحرب”. ولم توفر الصحافة التركية التعريج على قطاع الدعارة، فقد أبرزت الصحف الحجم المالي الهائل الذي ستخسره روسيا من ضرب هذا القطاع المهم جداً والذي تعتبر تركيا أهم ميدان لاستثماراته.

وهناك نوع ثالث من التصريحات تبرز خسائر مشتركة، من قبيل: “البورصة التركية والروسية تتهاوى”، “الليرة التركية والروبل الروسي ينهاران” وبالطبع عجزت عن إيجاد مؤشر للانهيار أو التهاوي، فحركة البورصة “في تركيا على الأقل” طبيعية، وكذلك حركة سعر الليرة فهي أغلقت في نهاية الأسبوع على ليرتين وثلاث وتسعين قرشاً، وكانت قد وصلت قبيل الانتخابات العامة الأخيرة إلى ثلاث ليرات وستة قروش، وترددها حوالي عشرة قروش بين أسبوع وآخر أمر معتاد.

غالبية هذه التصريحات والمواقف غير قابلة للتحقيق أو أنها لن تتحقق على المدى المنظور أو سخيفة. فالمشاريع العملاقة مثل مشروع مد أنبوب الغاز من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود، وفي تركيا إلى اليونان لم يقرر بعد، ومشروع الغاز الآخر الذي يدخل من شرق تركيا إلى غربها هو مصلحة روسية أكثر مما هو مصلحة تركية، لهذا نجد أن التصريحات استخدمت الاحتمالية والتعليق، والتعليق لا يعني الإلغاء، من جهة أخرى فإن التصرفات مع رجال الأعمال والمسافرين هي تصرفات لا تهز دولة، ولا تتسبب بأزمة، أما حول إمكانية قصف البوسفور بقنبلة ذرية، فقد دعا جيرنوفسكي من قبل لإحراق باريس واحتلال برلين وإعلان الإمبراطورية الروسية، وضرب البوسفور بقنبلة ذرية لا يختلف عن تلك التصريحات. وأرسلت روسيا خمس طائرات فقط لنقل السياح الروس الذين يبلغ عددهم مئات الآلاف، ولو كانت جادة في هذا الموضوع لأقامت جسراً جوياً كما فعلت يوم تفجير الطائرة الروسية في سيناء. ومن يسمع بتعليق التعاون العسكري الروسي التركي يعتقد بأن المناورات بين الجيشين تتم بشكل دوري وأن الوفود العسكرية تتنقل بين البلدين، وهناك تبادل للخبرات العسكرية.

تصريحات بغالبيتها تندرج في إطار الشحن الشعبي، فلو كان هناك ما سيحدث لما أطلقت هذه التصريحات كلها.

ثمة مثل عربي تركي مشترك يقول: “الكلب الذي ينبح لا يعض”، ويبدو أن المثل منتشر في العالم كله، ويُستخدم بالإنكليزية أيضاً، فقد كتبه مراسل الغارديان البريطانية من موسكو لوصف التصريحات الروسية. وفي الحقيقة أن هذا المثل يمكن أن يطلقه المراقب من تركيا أيضاً، فالتصريحات التركية لا تختلف عن “شقيقتها” الروسية، فلو كان هناك أي حدث سيحدث أو إجراء سيتخذ، فسيحدث ويتخذ يمكن أن يتخذ القرار فوراً، ولا يُهدد به، أي أننا سنسمع كثيراً من الجعجعة من دون أن نرى طحيناً.

المدن

 

 

 

 

“طبخة البحص” السورية/ محمد ابرهيم

إذا كان الغموض لا يزال يلف واقعة ما إذا كانت الطائرة الروسية اخترقت فعلا الأجواء التركية أم لا، فإن الواضح قبل الحادثة وبعدها، أن الطيران الروسي استهدف مناطق التركمان عند الحدود السورية التركية، أي ما تعتبره انقرة “معارضتها” السورية المعتدلة. ومع إصرار الطيران الروسي على إعادة استهداف المنطقة باعتبارها حيوية لمعركة إعادة بسط سيطرة الجيش السوري شمال اللاذقية، بات على أنقرة أن تجد وسائل أخرى لعرقلة المسعى الروسي، غير ورقة خرق الأجواء التي ستكون موسكو حريصة على مراعاتها.

وفي معرض تعليقه على قصف مناطق التركمان تعهّد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بتزويد المعارضة في تلك المناطق ما يمكّنها من الدفاع عن نفسها، ما يعني أننا قد نكون في المرحلة المقبلة أمام استهداف من نوع جديد للطيران الروسي أداته وسائل دفاعية أرضية، يعود الاختلاط مرّة أخرى بين كونها انطلقت من داخل الأراضي التركية أم من المناطق السورية المستهدفة.

كان باستطاعة الرئيس الروسي ان يتجنّب اتهامه بأن أولويته دعم النظام السوري لو أنه ركز على منح غطاء جوي لهجمات ارضية سورية في مناطق تسيطر عليها “داعش” بدون التباس، لكن يبدو ان الخطر المباشر على مناطق سيطرة النظام الحيوية فرض عليه ان تكون أولويته شمالية، أو ربما تكون لديه اعتبارات شبيهة بتلك التي يتهم بها خصومه في الائتلاف الدولي. وبذلك يكون القاسم المشترك بين المعسكرين تأجيل معركة تصفية “داعش” إلى ما بعد الاطمئنان على مصير النظام، سلبا أو إيجابا.

في مسار فيينا كما في مسار ردود الفعل الدولية على عمليات “داعش” الخارجية، لم تتبدل أولوية الأطراف الأساسية، على رغم كل الضجيج الإعلامي، والحركة الديبلوماسية المسرحية. فما زال الرهان الروسي – الإيراني على ضغط تمارسه “داعش” على أعضاء الائتلاف الدولي بما يعيد تسويق النظام السوري ورئيسه. وما زال الرهان المقابل، أي رهان المطالبين بإزاحة الأسد شرطا لنجاح العملية السياسية، هو على تعذّر تصفية الحساب مع “داعش”، ولائحة المنظمات الإرهابية، قبل الاتفاق على مصير الأسد. وكل تصعيد من معسكر يقابله ابتكار الوسائل الملائمة لإحباطه من المعسكر المقابل.

في الحرب الجوية المفتوحة فوق سوريا لا شك في أن الأفضلية باتت معقودة للروس. فبعدما خذلت واشنطن دعوات أنقرة المبكرة لإقامة منطقة حظر جوي، أقامت موسكو منطقتها الخاصة وعززتها بصواريخ “اس- 400” التي تضع الأجواء السورية كلها في مرماها. لكن عدم القدرة على ترجمة هذه المظلة اكتساحا لمواقع المعارضة يطرح على موسكو مشكلة الكلفة المتصاعدة للتدخل في مدى زمني مفتوح، فيما واشنطن تكثف… التصريحات الصحافية.

النهار

 

 

لماذا طعنتَ القيصر؟/ غسان شربل

الطيار التركي الذي أسقط المقاتلة الروسية بصاروخ أميركي أصاب أيضاً رجلين. جرح هيبة القيصر. واستدرج السلطان إلى مبارزة لا يمكن كسبها على الحلبة السورية الملتهبة.

هيبة القيصر أهم من صواريخ «الجيش الأحمر» وأسعار الغاز. وفلاديمير بوتين مشروع هيبة قبل ان يكون اي مشروع آخر. اوفدته المؤسسة العسكرية والامنية الى الكرملين حاملاً مشروع ثأر من الذين رقصوا فوق الركام السوفياتي. تعبت من اذلال روسيا وأسلحتها من العراق الى يوغوسلافيا ووصولاً الى ليبيا. لهذا يتصرف بوتين كالملاكم. كلما تلقى ضربة يرد بأقوى منها. يدافع عن صورته وصورة بلاده.

صورة السلطان أهم من عائدات السياحة وشركات الإنشاءات. حمل هو الآخر مشروع ثأر من تركيا المهمشة او التابعة. غيّر رجب طيب اردوغان مسار بلاده. ادخلها نادي العشرين وأعطى لصوتها نبرة أعلى في مخاطبة أهل الإقليم والعالم. شرعيته الشعبية كاملة تماماً كشرعية بوتين. وكلاهما يكره المعارضة ويعتبرها خائنة. عامل اردوغان رفيقه اللدود فتح الله غولن كما عامل بوتين البارونات الذين حاولوا حجز مقاعد إلزامية في عهده. وكلاهما يكره الصحافة الحرة ويبرع في ترويضها.

ما أصعب هذه المبارزة. هذا حفيد إيفان الرهيب وذاك حفيد محمد الفاتح. هذا وريث بطرس الأكبر. وذاك وريث سليمان القانوني. خرج الأول من عباءة يوري أندروبوف وخرج الثاني من عباءة نجم الدين أربكان. ُصنع الأول في مختبرات الـ «كي جي بي». ُصنع الثاني في مدرسة في اسطنبول انجبت الكثير من الدعاة. الأول يحب الجودو وإلقاء خصمه ارضاً. والثاني يحب كرة القدم وهزّ شباك الآخرين. الأول جاسوس وأستاذ في إخفاء مشاعره ونواياه. والثاني خطيب أستاذ في فضح مشاعره.

مبارزة بين بلدين جريحين لا يستيقظ التاريخ إلا ليسكب ملحاً في جروحهما. وبين الإمبراطوريتين السابقتين خمسة قرون من المواجهات واثنتا عشر حرباً وإهرامات من الجثث. ملاكمان عنيدان ومجروحان على خط التماس التاريخي بين روسيا الأرثوذكسية وتركيا العثمانية.

يقلّب الملاكم الأول صفحات التاريخ ويرجع ناقماً. تآمر العالم على الإمبراطورية الروسية. قلّم أطرافها وقطّع الأوصال. انتهى القرن الماضي بتفجير الخريطة السوفياتية. فرّت منها دول وشعوب. كان العقاب مريراً.

يقلّب الملاكم الثاني التاريخ ويرجع غاضباً. كانت الإمبرطورية العثمانية مترامية الأطراف. تواطأ الكثيرون ضدها. كانت القرم في عهدة إسطنبول. وكان البحر الأسود بحيرة عثمانية. وذات يوم قدّمت كاترين العظيمة جواهرها لاسترضاء السلطان. لكن العالم تواطأ ضد الدولة العثمانية. وأكثر الطعنات غدراً جاءتها من روسيا. في بدايات القرن الماضي سمّيت تركيا «الرجل المريض». وبعد الحرب العالمية الأولى قُدمت كوليمة لإشباع شراهة المنتصرين.

يلتحق المستشارون بزوجاتهم ويتركون الرئيس وحيداً مع الليل. يتمشّى رجب طيب أردوغان في القصر الشاسع. هذا العالم ظالم. لماذا يحقّ لروسيا البعيدة أن تتدخّل في سورية ولا يحقّ لتركيا المجاورة أن تتدخّل فيها؟ ولماذا يحقّ للجيش الروسي أن يتدخّل في جورجيا وأوسيتيا وأوكرانيا ولا يحق لتركيا أن تتدخّل في حلب؟ ولماذا يحقّ لبوتين أن يدافع عن الأقليات الروسية والناطقين بلغته ولا يحقّ لأردوغان أن يدافع عن التركمان؟ لماذا يحقّ لموسكو إنقاذ النظام السوري ولا يحقّ لأنقرة دعم المعارضين له؟

بعض المعارك يأتي في توقيت خاطئ. ليت الطيار التركي أخطأ الهدف. كان أعفاه من هذا الامتحان. هذه المبارزة مختلفة عن المبارزة مع رئيس سورية. ورئيس وزراء إسرائيل. إنها محفوفة بالعواقب الوخيمة. حلف الناتو غير راغب في مواجهة مع «بوتين الرهيب». وسيد البيت الأبيض غسل يديه باكراً من سورية وأهوالها.

ليت الطيار أخطأ الهدف. كان أعفاه من القول إنه حزين ولا يريد الطلاق بين أنقرة وموسكو. وإنه يتمنى ألاّ يتكرّر ما حدث. قبل يومين حذّر الملاكم الروسي من اللعب بالنار. ثم اكتشف أن تصريحه صبّ الزيت على نار غضب القيصر الذي أمر طائراته بتدمير «المنطقة الآمنة» التي كان أردوغان يحلم بإنشائها.

تعامل بوتين مع إسقاط الطائرة الروسية كأنه فرصة. أقرّ إجراءات عقابية ضد تركيا وأرسل زهرة ترسانته الصاروخية لترابط في الساحل السوري. من يضمن ألاّ يردّ القيصر على «الطعنة في الظهر»؟ وماذا لو أسقطت الصواريخ الروسية غداً طائرة تركية في منطقة الحدود مع سورية أو قربها؟ وماذا سيقول أردوغان عندها للأتراك الذين انتخبوه لأسباب كثيرة بينها أنه عالي النبرة ويتجرّأ على الكبار؟

في أسوأ مناخ بين أنقرة وموسكو تعقد قمة المناخ اليوم في باريس. الملاكمان حاضران. سيسترق كل منهما النظر إلى الآخر. كلاهما يلعب بالنار. لن يستقبل القيصر السلطان إلا إذا تخطى مشاعر الندم إلى ذلّ الاعتذار. صعّد الفريقان عمليات الضرب تحت الحزام. للقّاء في باريس ثمن لا بد أن يدفعه أردوغان. إذا تعذّر اللقاء ستتضاعف حظوظ بشار الأسد في تمديد إقامته. لا يملك أردوغان حليفاً راغباً في زجر سيد الكرملين. باراك أوباما بدأ بجمع أوراقه. يخطّط لكتابة مذكراته وترؤس ناد لكرة السلة. سيقرأ الرئيس التركي في عيون إصدقائه نوعاً من العتب. سيقرأ سؤالاً صعباً «لماذا طعنت القيصر؟».

الحياة

 

 

 

موسكو وأنقرة… ما وراء إسقاط “سوخوي”/ كرم سعيد

دخل المناخ بين موسكو وأنقرة مرحلة الشحن على خلفية إسقاط سلاح الجو التركي طائرة روسية من طراز «سوخوي» اخترقت المجال الجوي التركي لنحو خمس دقائق، ولم تتجاوب مع تحذيرات متكررة. فلاديمير بوتين سعى لتصعيد الأزمة، واعتبر العملية طعنة في ظهر روسيا، وأشار من وراء ستار إلى التعاون بين أنقرة والتنظيمات الراديكالية التي تعبث في سورية. وحاولت أنقرة امتصاص غضب موسكو، لكنها في الوقت ذاته أكدت حقها في الدفاع عن حدودها، وأن ما حدث ليس عدواناً بقدر ما هو دفاع مشروع عن الحدود. والأرجح أن التوتر الحادث بين موسكو وأنقرة لم يكن الأول من نوعه، إذ تأتي هذه الحوادث بعد سلسلة انتهاكات للمجال الجوي التركي من مقاتلات روسية قبل أسابيع، ما سبَّب توتراً بين روسيا التي تدخلت عسكرياً في سورية وتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي. وسبق لتركيا أن أبدت امتعاضها من الانتهاكات الروسية لمجالها الجوي، وتصاعد مشهد الاحتقان مع استدعاء السفير الروسي في أنقرة أكثر من مرة، وعدم تقديمه أي تفسير حقيقي وتسويقه تبريرات واهية عن سوء الأحوال الجوية أو الخطأ البشري الذي ساهم في تضليل خط سير حركة المقاتلات التي تستهدف الجماعات الإرهابية.

غير أن روسيا لم تلتفت إلى تحذيرات أنقرة، أو حلف الناتو الذي دعا على لسان أمينه العام روسيا إلى ضرورة «الاحترام الكامل للمجال الجوي للحلف وتجنب تصعيد التوتر معه».

وبالنظر إلى التطور في العلاقات التركية الروسية طوال الأشهر التي خلت، فإن أنقرة لا تريد ربما تسخين الأزمة مع روسيا رغم تباين الهوة وتعاظم الخلافات إزاء الحل في سورية، إذ إن أنقرة لا تتوافق مع الحل الروسي القائم على فرض بشار الأسد في صدارة المشهد أو ضمن مكوناته، وتصر مع عواصم عربية وغربية، ومنها واشنطن، على ضرورة رحيل النظام السوري. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقد مبكراً الحضور العسكري الروسي في سورية، باعتبار أنه يعقد حلَّ المشكلة السورية بدل حلها، كما استنكر التدخل الروسي، ووصف وجوده بـ «الاحتلال».

الارتباك الروسي إزاء ما حدث في سورية دفع القيادة إلى نشر منظومة الصواريخ «إس-400» المضادة للطائرات في سورية، وهي منظومة تستخدم أنواعاً عدة من الصواريخ التي تستطيع إسقاط وسائل الهجوم الجوي على أنواعها، الطائرات والمروحيات والطائرات من دون طيار والصواريخ الجوالة والصواريخ البالستية التكتيكية التي يمكن أن تصل سرعتها إلى 4800 متر في الثانية.

صحيح أن أنقرة حريصة على كبح جماح الغضب الروسي، ودعت إلى اجتماع مشترك بين وزير خارجيتي الدولتين، إلا أن السياسة التركية صريحة وواضحة ضد التدخل الروسي في سورية، وضد الخروق الجوية الروسية لأراضيها. وكان النظام السياسي التركي أصدر تعليمات مشددة للقادة العسكريين باتخاذ التدابير اللازمة فوراً على الحدود السورية بما يتوجبه الموقف، ومن بينها التعامل وفق قواعد قانون الاشتباك الدولي حال انتهاك حدود البلاد.

مقاصد وتداعيات

ثمة مقاصد وتداعيات تقف وراء حادث الطائرة «سوخوي»، منها أن تركيا أرادت الرد على الرسائل الروسية المتأتية عن القصف الروسي لمواقع التركمان في ريف اللاذقية رغم أن «داعش» و»جبهة النصرة» ليس لديهما أي نفوذ هناك. وربما يبدو الحرص التركي نابعاً من إرادة أردوغان المنتصر في تشريعيات تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي تغذية النزعات التركمانية من أسطنبول إلى شمال الصين واعتبار أنقرة مرجعاً ثقافياً وسياسياً للتركمان.

أيضاً تريد أنقرة مواجهة تنامي النفوذ الإيراني الروسي في المنطقة، ومساعي الدولتين إلى تمرير تقسيم المنطقة على مذبح المصالح والتوازنات الدولية. وثمة هواجس تركية من إنشاء كيان علوي بجوار كيان كردي في الشمال السوري على الحدود التركية.

القصد أن إسقاط «سوخوي» قد يعيد صَوغ المشهد الروسي في سورية، ويلقي بظلاله على العلاقات التركية الروسية وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، إذ تعتبر تركيا سابع أكبر شريك تجاري لروسيا، كما أنها الوجهة الأولى للسياح الروس، وثاني أكبر أسواق التصدير بعد ألمانيا بالنسبة إلى شركة غاز «بروم» الروسية العملاقة.

في المقابل، تأتي روسيا في المركز الثاني بين الشركاء التجاريين الرئيسيين لتركيا، وتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 32 بليون دولار، وكان متوقعاً أن يصل إلى 100 بليون دولار. وتبلغ الاستثمارات التركية في روسيا نحو 1.5 بليون دولار حتى النصف الأول من العام 2015 بينما يتراوح حجم الاستثمارات الروسية في تركيا بين 200 مليون و300 مليون دولار. في المقابل، يتوقع حصول تباطؤ روسي في إنشاء مشروع مفاعل «آكويو» النووي الذي تشيده تركيا في مدينة أضنة جنوب البلاد بخبرات روسية. وراء ذلك، قد تلجأ روسيا إلى دعم أواصر العلاقة أكثر مع طهران التي استقبلت الرئيس فلاديمير بوتين بطقس احتفالي غير مسبوق، إذ تتلاقى مصالح الدولتين عند تقسيم المنطقة، فطهران تطمح إلى بناء جبهة شيعية، بينما تهدف موسكو إلى تسويق ذاتها كشريك في قتال تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» لاختراق المأزق الديبلوماسي الراهن في علاقاتها مع الغرب منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. كما أن قتال «داعش» قد يمنحها فرصة للحضور في المنطقة، وهو ما سجل تراجعاً بعد تداعي نظام الأسد. خلاصة القول، إن العلاقات التركية الروسية ستشهد مزيداً من التوتر على الصعيدين السياسي والاقتصادي، مع استبعاد لجوء روسيا إلى الخيار العسكري، خصوصاً أن بوتين يتعرض لضغوط قطاع معتبر من الرأي العام الروسي الرافض لمشاركة بلاده في الحرب السورية، ناهيك بضعف نجاحات الكرملين منذ دخوله المستنقع السوري. أما تركيا فيبدو أن لديها اقتناعاً بضرورة حماية حدودها مهما كانت التداعيات، بعيداً من الخسائر الاقتصادية المتوقعة مع الجانب الروسي، والتي يمكن لأنقرة تعويضها عبر نوافذها الإقليمية والدولية المتشعبة.

الحياة

 

 

 

السلام الهشّ والحرب

الحديث عن «السلام الهش» اليوم لم يعد من قبيل المجاز. تندلع النزاعات العسكرية بين الدول، حتى بين تلك التي أبرمت أخيراً اتفاقات تعاون، بسرعة. وقد تؤدي الحرب في سورية، والتي يشارك فيها أكثر من 60 بلداً، إلى منعطف يؤذن ببدء المتاعب في العالم، إذا عجز السياسيون والعسكريون عن التوقف في الوقت المناسب.

ورداً على إسقاط تركيا «سو-24» الروسية، بادرت موسكو إلى نشر منظومة «أس-400» الصاروخية في سورية، كما وصل طراد «موسكفا» إلى سواحلها، ونشرت تركيا 20 دبابة إضافية على الحدود. هكذا تحول الأتراك بين ليلة وضحاها، من أشباه حلفاء، إلى خونة ومتواطئين مع الإرهابيين، وفق التلفزيون الروسي. وهكذا تتجه روسيا بخطوات بطيئة لكنها ثابتة نحو حرب لم يكن يتوقعها أحد.

من يستطيع أن يضمن ألا تقع منظومة «أس-400» في أيدي الإرهابيين في سورية، كما حصل أن وقع «بوك» في أيدي الذين أسقطوا طائرة الركاب فوق الدونباس.

نحن أبناء جيل ما بعد الحربين العالميتين، كنّا إلى وقت قريب، نعتقد أن القوة النووية القادرة على تدمير الجيوش المتناحرة والبشرية جمعاء، ستحمينا من الحرب العالمية الثالثة. أيعقل أن نكون على خطأ؟

* إفتتاحية، عن «غازيتا» الروسي، 25/11/2015، إعداد علي شرف الدين.

الحياة

 

 

 

 

مقاطعة الاقتصاد التركي

أمهل رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، يومين لإعداد لائحة من العقوبات «الاقتصادية والإنسانية» ضد تركيا. ولم ينتظر مسؤولون القرار الرسمي وبدأوا بفرض إجراءات ارتجالية، عبر الحظر على المواطنين الروس تناول المأكولات التركية أو الشراب التركي وشراء ملابس تركية والاسترخاء على شواطئ «المتواطئين مع الإرهاب».

وجمدت سلطات القرم المشاريع التركية في شبه الجزيرة، وأوقفت رحلتين بحريتين كانت تنظمهما تركيا (كاسرة الحظر الأوروبي) إلى القرم، وتحمل السلع الى القرم. وأعلن وزير الزراعة الروسي أن الروس لن يشعروا بغياب الخضار التركية التي تشكل 20 في المئة من مجمل السلع المستوردة. أمّا هيئات الرقابة الروسية، فبدأت فجأة تجد شوائب في البضائع التركية، ودعت هيئة السياحة إلى عدم زيارة تركيا. وسرعة اتخاذ هذه القرارات مفاجئة. وهي قرارات تلحق الضرر بقطاع الأعمال الروسي، عوض تطبيق القرار تدريجاً. ويبدو أن السلطات تعيد الأخطاء التي ارتكبتها إثر الحظر الأوروبي. وفي العام الماضي، إثر تبادل العقوبات بين أوروبا وروسيا، اعتبرت المنتجات التركية المصدر الأساسي لاستبدال المنتجات الأوروبية. لكنها اليوم صارت ضارة. وفي سعي لمعاقبة «الآخرين»، يعاقب الروس. ويبدو أن إرهاق الروس هو الحل الوحيد للحفاظ على عظمة روسيا الجيوسياسية والرد على الاعداء، الذي يزداد عددهم مع الوقت. وكان حرياً بنا إجراء تحقيق في الحادث والاتفاق على تدابير وضمانات تحول دون تكرار مثل هذه المآسي.

* افتتاحية، عن موقع «غازيتا» الروسي، 26/11/2015، إعداد علي شرف الدين.

الحياة

 

 

 

 

فهيم طاش غيتيران التركمان ضحيّة مصالح أنقرة وموسكو/

إثر اصطدام قطار «الثورة» الذي تدعمه تركيا في سورية منذ 2011 بالتدخّل الروسي، دار كلام تركيا على إنقاذ التركمان السوريين وإنشاء المناطق الآمنة في شمال سورية. لكن إثر إسقاط الجيش التركي المقاتلة الروسية، اصطدمت هذه المشاريع كلّها بدورها بالتدخّل الروسي. ووجدت تركيا نفسها وجهاً لوجه مع روسيا.

سارعت أنقرة الى الاحتماء بالناتو. لكن حلف شمال الأطلسي لم يتجاوب معها، وسبق أن سعت تركيا الى حمل الناتو على التدخل في المسألة السورية. وحين أسقط السوريون الطائرة التركية على الساحل السوري، رفض الناتو التدخل المباشر، ونشر في الأراضي التركي بطاريات باتريوت من قبيل رفع العتب، وسارع الى سحبها بعد عامين، على رغم أن التهديد الذي أوجب نشرها لم يتبدّد. وعلى رغم أن حلف شمال الأطلسي دعا الى اجتماع عاجل، لم يبادر الى دعمها. وأعلن تأييد حق تركيا في الدفاع عن مجالها الجوي، من جهة، وأنه لا يريد مشكلة مع روسيا، من جهة أخرى. وقال البنتاغون أن المسألة تحلّ بين تركيا وروسيا فحسب. ولا شك في أن موسكو لا ترغب في حرب مع الناتو، وأن الأمور لن تنزلق الى حرب عالمية ثالثة. لكن، هل وصلت الرسالة التركية الى موسكو؟ وصلت لكن أثرها هو خلاف ما اشتهت تركيا. فعوض أن تتجنّب مناطق النفوذ التركي، كثّفت موسكو ضرباتها عليها. والحق يقال، منحت أنقرة بوتين ذريعة جديدة ليرفع مستوى تدخّله في سورية ويوسّع دوره الميداني. وصار الرئيس الروسي يهدّد كل من يدعم المعارضة السورية، إثر إسقاط «داعش» طائرة مدنية روسية في شرم الشيخ. واليوم، يتوعّد غاضباً بضرب المعارضة في سورية من غير رحمة.

وبدأ بوتين يلوّح بورقة أخرى ضد تركيا: بيع «داعش» النفط عبر تركيا. ويتوقع أن يظهر بوتين الوثائق التي تثبت التهمة، إذ لم تتردد بلاده في اجتماع فيينا وقمة مجموعة العشرين، في الحديث عن دعم دولة جارة مالياً ونفطياً «داعش». ووقعت حادثة الطائرة في وقت تروّج أنقرة أخباراً عن ضرب موسكو التركمان والمدنيين في ريف اللاذقية. ومثل هذا الخطاب قد يلقى صدى في الداخل التركي فحسب، وليس في الأوساط الدولية. فعلى خلاف الأتراك، لا يتابع العالم حوادث سورية عبر وكالة الأناضول الإخبارية الرسمية وتصريحات القيادات التركمانية التي تعمل لحساب الاستخبارات التركية.

ولا شك في أن أقلية تركمانية تسلّحت للدفاع عن نفسها في منطقة باير بوجاق، شرق ريف اللاذقية، لكن الضرب الروسي يطاول مناطق الى الغرب، منها يقع في جبال وعرة. وفي هذه الجبال، ينتشر «جيش الفتح» و «النصرة» و «أحرار الشام»، وينشط مقاتلون شيشانيون وقوقازيون ومن الترك الإيغور ممن لم ينضمّوا الى «النصرة» أو «داعش»، لكنهم على اتصال بتنظيم «القاعدة». وفي أوساط التركمان، برز لواء السلطان عبدالحميد الذي يحارب من أجل «الدفاع عن الأراضي العثمانية»، ويعتبر السوريين من غير السنّة كفاراً يحلّ قتلهم، ويقاتل جيش الأسد والأكراد في تلك المنطقة. كما أن لواء السلطان سليم، وهو مؤتلف من قوات تركمانية، داهم قرى علوية في 2012، وقام بمذابح بشعة فيها. وفي 2013، قتل 200 علوي هناك في عملية «أم المؤمنين عائشة»، وفي 2014، احتلّ مع «النصرة» كسب، وشنّ عملية الأنفال على الساحل السوري. وأرسلت «جبهة النصرة» 500 من مقاتليها الى المنطقة أخيراً لمؤازة تلك الألوية في حربها ضد الجيش السوري والميليشيات الشيعية التي تقاتل معه. وسقط هناك عدد كبير من القتلى في صفوف الجانبين والقتال شرس. وعليه، ليست المنطقة منطقة مدنيين آمنين تقصفهم روسيا كما تقول أنقرة، ولا يخفى الأمر الدول الغربية المعنية بالملف السوري.

ولو أن أنقرة تسعى فعلاً الى الدفاع عن التركمان لما التزمت الصمت حين ارتكب «داعش» مجازر بحق التركمان في تلعفر وشمال الموصل على الطريق الى أربيل في 2014. كما أن الحكومة التركية لم تحرك ساكناً للدفاع عن التركمان في طوزخرماتو العراقية وهم يقاتلون «داعش»، الذي قتل منهم المئات. وليس شاغل تركيا التركمان، بل المنطقة الممتدة من جرابلس الى أعزاز وريف حلب الشمالي وريف إدلب، والسؤال هو: من سيسطر على تلك المناطق إذا طرد «داعش» منها على يد التحالف أو الروس؟ ومع الأسف، تستخدم قضية التركمان للتستّر على الهدف الحقيقي من العمليات التركية. ووقع ما كان يخشاه كثر، وأصبحت تركيا أول دولة أطلسية تسقط طائرة حربية روسية منذ الحرب الباردة. فغردت تركيا خارج سرب الناتو، وصارت دولة لا يمكن الوثوق في أفعالها وتبعات سياساتها. واليوم، تركيا على عداء مع أبرز شريك تجاري. وهذا مآل طبيعي لسياسات حكومة العدالة والتنمية.

* كاتب، عن «راديكال» التركية، 27/11/2015، إعداد يوسف الشريف

 

 

هل هي بداية لحرب عالمية ثالثة؟/ عبدالعزيز التويجري

إسقاط الطائرة الحربية الروسية من طرف تركيا، هو تطور خطير في مجريات الصراع على سورية ينذر برد فعل شديد قد يشعل مواجهات مباشرة بين القوات الروسية والقوات التركية مدعومة بحلفائها في الناتو. ويبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين أحس بأن هذا الحادث هو تحد لما يقوم به من عمل حربي في سورية واستفزاز تقف وراءه الولايات المتحدة الأميركية وبعض القوى الغربية، لذلك توعد بعواقب وخيمة له، سيكون المتضرر الأول منها الشعب السوري. وهنا نستحضر صورة الوضع المزري الذي آلت إليه الشيشان، وهي إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، وما ارتكبه بوتين في إقليم القرم وفي المنطقة الشرقية من جمهورية أوكرانيا من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، مما يؤكد أن الإرهاب الذي تمارسه الدولة الروسية في هذه المرحلة في الداخل والخارج، هو إرث متوارث من العهد السوفياتي البائد الذي دمر شعوب آسيا الوسطى، وقتل الملايين من أبناء تلك المناطق، وتم خلال تلك المرحلة الوحشية تهجير الملايين من أبناء تلك الشعوب من مواطنها الأصلية إلى مناطق أخرى نائية.

وإذا كانت الأقوال تتضارب حتى الآن، والادعاءات من الجانبين الروسي والتركي، تتناقض، والصورة الحقيقية لما وقع لم تظهر بعد، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن دولة عضواً في الحلف الأطلسي أسقطت طائرة حربية روسية، بدعوى اختراقها المجال الجوي التركي، وهذا من حقها إذا ثبتت الحجة التي يبدو أن أنقرة عرضتها أمام الاجتماع العاجل الذي عقده حلف الناتو بدعوة منها. ولكن هذا جانب واحد من الأزمة، أما الجوانب الأخرى، فهي أن روسيا وجدت نفسها في مأزق حقيقي ستسعى للخروج منه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. فما دام من المستحيل جداً أن تنتقم روسيا بالهجوم على تركيا، لأسباب متداخلة ولموانع كثيرة، فإن روسيا ستعمد إلى الاضرار بالاقتصاد التركي الذي يعتمد في جوانب كثيرة على المبادلات مع روسيا، كما ستقوم روسيا بتحريك الخيوط التي تمسك بها مع نظام بشار الأسد، للمس بالأمن القومي التركي بأساليب شتى، منها ممارسة الإرهاب داخل التراب التركي من طرف «داعش» أو من قبل حزب العمال الكردي، أو بالتنفيذ المشترك بينهما، خصوصاً أن التفجيرات الإرهابية التي وقعت في أنقرة أياماً قليلة قبل الانتخابات البرلمانية المبكرة، اتهمت أنقرة الجهتين معاً بأنهما كانتا وراءها، هذا إلى جانب التركيز على توجيه الضربات الجوية الروسية إلى المناطق التي يوجد فيها المواطنون السوريون من طائفة التركمان التي تحظى برعاية تركية لا تخفيها أنقرة. ولذلك يتوقع أن تدمر تلك المناطق أكثر مما دمرت من قبل. وسيكون ذلك جريمة تضاف إلى سلسلة الجرائم التي ترتكبها روسيا ونظام بشار الأسد في حق الشعب السوري.

لقد وقفت تركيا مع الشعب السوري في انتفاضته ضد النظام الطائفي القمعي، وما فتئت تؤكد أن عودة السلام إلى سورية مرهونة بإسقاط نظام بشار الأسد. وتلك مواقف انتصرت فيها تركيا لقيم العدالة والسلام ولحقوق الشعب السوري. وما علمنا أن تركيا تخلت عن مبادئها وعدلت عن مواقفها أو تخاذلت عن دعم قوى الثورة السورية. في حين أن روسيا، ومنذ البداية، كانت منحازة لنظام بشار الأسد القمعي الطائفي وناصرته في المحافل الدولية من خلال استخدامها حق النقض في مجلس الأمن مع الصين، للحيلولة دون صدور قرار بإدانة هذا النظام. ثم تطورت بها الحال فنزلت بكل ثقلها في الميدان، وأنشأت قواعد بحرية وجوية وبرية في سورية، ونقلت قواتها إليها، وشرعت في شن الضربات الجوية المدمرة فوق المدن والقرى السورية بدعوى محاربة «داعش»، بينما هذا التنظيم الإرهابي لا وجود له في المناطق التي تضربها الطائرات الروسية. ولا يعرف إلى الآن أن «داعش» تعرض لهجوم مباشر من الطائرات الروسية أسفر عن خسائر في الأرواح والعتاد. فلا يزال هذا التنظيم المتوحش يتحكم في الأراضي التي احتلها داخل سورية والعراق، من دون أن تظهر عليه علامات التراجع والانكماش أو الانسحاب. بل هو لا ينفك يتمدد ويتوسع ويقتل ويبطش بوحشية متناهية ويمارس أبشع الجرائم في حق الإنسان، ويزرع الرعب في النفوس، ويهدد الأمن والسلم الدوليين، وهذا ما يثير الشكوك حول من يدعمه ويمده بالسلاح والمقاتلين.

ومع أننا نستبعد أن يعمد حلف الناتو إلى اتخاذ قرار لمؤازرة الجمهورية التركية الدولة العضو فيه حربياً، ولكن نتوقع أن ما سيصدر عنه لن يتجاوز التأييد اللفظي والدعوة إلى التهدئة واحتواء الأزمة وحصرها في أضيق الحدود، إلا إذا وقع تطور مفاجئ يقلب الأوضاع رأساً على عقب، ويفتح المجال أمام أسوأ الاحتمالات.

المطلوب في ظل هذا الوضع الخطير المهدد للسلم والأمن الدوليين، هو تغليب سياسة الحكمة والتعقل على سياسة التهور والغطرسة التي إذا انتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد تقود إلى نشوب حرب عالمية ثالثة تحرق الأخضر واليابس.

* أكاديمي سعودي

الحياة

 

 

بوتين يتسلّق المدخنة/ ماجد عبد الهادي

قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بنحو سنتين، قُيّض لي أن أشارك ضمن وفد من منظمة التحرير الفلسطينية في زيارة إلى العاصمة الأفغانية، كابول، التي كانت توشك على بلوغ نهاية عهد الدكتور محمد نجيب الله، آخر رؤساء البلاد الشيوعيين الذي آلت به الحال، بعد ما يقرب من أربع سنوات تقريباً، إلى سقوط نظام حكمه، ولجوئه إلى مكتب هيئة الأمم المتحدة، ثم إلقاء حركة طالبان القبض عليه، وإعدامه وأحد أشقائه شنقاً، بشريط معدني، على أحد أعمدة الكهرباء عام 1996.

كنت، حينئذٍ، في مقتبل حياتي المهنية، وقد نشطت على مدى الأيام السبعة التي أمضيتها هناك، في إعداد مواد صحافية متنوّعة عن حال بلاد رزحت سنوات طويلة تحت صراع دموي مدمر بين نظامها الشيوعي المدعوم بتدخل عسكري هائل من الاتحاد السوفييتي و”قوى الجهاد” المدعومة، في المقابل، من الولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها العرب، فأجريت حواراً مع نجيب الله نفسه، وقابلت مسؤولين حكوميين ونقابيين، كما استطلعت آراء طلاب فلسطينيين فوجئت بوجودهم يدرسون في جامعة كابول، بينما لم يكن ممكناً، في ظل تلك الظروف، لقاء أيٍ من ممثلي قوى المعارضة المسلحة.

وعلى الرغم من تراكم غبار النسيان على الكثير من تفاصيل الزيارة، بعدما مر عليها، اليوم، أكثر من ربع قرن، فإن ما لن أنساه أبداً أسلوب هبوط الطائرة الروسية (نعم، الطائرة الروسية) التي نقلتنا من موسكو إلى كابول، ثم طريقة صعودها. ففي نهاية رحلة الذهاب، انتبه الرُكَّاب إلى أن الطائرة تكرّر دورانها في محيط فضائي ضيّق، ولوقت طويل نسبياً، فوق المطار، وحين استوضح بعضهم عمّا يحدث، تهرّب طاقم المضيفين من الجواب، إلى أن حانت لحظة الهبوط بسلام، وجاء مساعد الطيار، فأوضح أن خطر صواريخ “ستينغر” الأميركية الصنع التي يمتلكها “المجاهدون” في محيط العاصمة الأفغانية يحول دون الهبوط التدريجي المعتاد، ويفرض على قائد الطائرة مواصلة التحليق بها على ارتفاع يزيد عن سبعة كيلومترات، إلى أن تصير على مستوى المدرج تماماً، حيث تبدأ بالهبوط وفق طريقة يسمونها “تسلّق المدخنة”، وكذا الأمر أيضاً عند الإقلاع، إذ تصعد لولبياً، كأنها داخل أنبوب دائري، ولا تتجه أفقياً، إلا بعد أن تعلو فوق مدى مضادات الطائرات.

لماذا أروي هذه النتف من الذكريات، الآن؟ هو سؤال ربما لا يحتاج جواباً، أمام تقدّم أخبار الطائرات الروسية لتتصدّر واجهة الأحداث، منذ تحطم واحدة منها، مدنية، فوق صحراء سيناء، في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحتى ما بعد إسقاط أخرى، حربية، بنيران تركية، عند الحدود الشمالية لسورية، في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت. لكن جواباً تلقائياً، كذاك، لا يغني عن القول إن الحادثة الأولى، بما أثارته من تعاطف إنساني مع الضحايا الأبرياء، والثانية بما انطوت عليه من كسر هيبة القوة الروسية، ليستا في منأى عن الدرس الأفغاني القاسي والبليغ. هنا، تأني موسكو بطائراتها وأسلحتها، لتنقذ نظاماً ديكتاتورياً متداعياً، وقتل مئات الألوف من شعبه، مثلما ذهبت، هناك، بجيوش جرارة، لتمنع سقوط نظام حكم عميل لها. هنا، أيضاً يدفع الروس، في أيامنا هذه، عربوناً أوليّاً من ثمن تدخلهم العسكري المباشر في سورية، بعد ثمن باهظ دفعوه، هناك، في ثمانينات القرن الماضي، ليؤدي مع عوامل أخرى، إلى انهيار إحدى أكبر إمبراطورياتهم عبر التاريخ، الاتحاد السوفييتي.

ولن يُغيّر في هذا الدرس شيئاً أن أميركا تحول دون امتلاك المعارضين السوريين صواريخ أرض جو، كما لن تنفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شخصية “بلطجي المجتمع الدولي”، لأن السوريين، ببساطة، بل أهل هذه المنطقة عموماً، لا يقلون اعتداداً بكرامتهم عن الأفغان، وها هي الحرب الضروس تضطره، وطائراته، إلى بدء “تسلّق المدخنة”، إيذاناً بهزيمته في سورية، وترك حليفه بشار الأسد، لمصيرٍ يشبه مصير نجيب الله.

العربي الجديد

 

 

 

أعباء الخزينة الروسية/ مصطفى فحص

منذ اللحظة الأولى لإسقاط طائرة الـ«سوخوي» الروسية، توعد الإعلام الروسي وعدد من كبار المسؤولين الروس برد قاسٍ من الرئيس، فحبس العالم أنفاسه بانتظار أولى خطوات فلاديمير بوتين العقابية بحق الأتراك، خاصة بعدما أشيع عن أن سيد الكرملين مستفز لأبعد الحدود، وهو منكب مع أركان قيادته في التخطيط للرد المناسب على الخطيئة التركية، فليس من السهل على القيادة الروسية وهي في قمة جبروتها، استيعاب صدمة تجرؤ دولة إقليمية على تسديد صفعة لدولة كبرى مثل روسيا تحمل إرث دولة عظمى.

بينما كان الرأي العام الروسي منشغلاً برفض زعيمه الرد على اتصال الرئيس التركي، منتشيًا بإصرار قيادته على الاعتذار أولاً، غامزًا من قناة التصريحات التركية المترددة وغير الراغبة في التصعيد والمتناقضة في حدتها، جاءت حزمة العقوبات التي أمر بوتين حكومته باتخاذها أقل من المتوقع، فقد أعلنت وزارة الطاقة بعد حادثة الـ«سوخوي» أن صادرات الغاز والنفط إلى تركيا «لن تتوقف»، ولم يتم التطرق لمشروع «ترك ستريم» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، ومشروع المحطة النووية للطاقة السلمية التي تبنيها روسيا في تركيا بقيمة بلغت 20 مليار دولار، فالمفاجأة أن العقوبات اقتصرت على إجراءات تجارية تعادل 10 في المائة فقط من حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي تصل قيمته إلى 40 مليار دولار، فاكتفت موسكو مثلا بإعلان قائمة من المنتجات الزراعية التركية التي لا تتطابق مع المعايير الروسية، كما قامت بوقف المعاملة التفضيلية للصادرات التركية على المنافذ الحدودية، وتشديد القيود على رجال الأعمال الأتراك وتقليص حصتهم في المشاريع الإنشائية، وإصدار توصيات للمواطنين الروس بعدم قصد المنتجعات التركية، حيث يشكل السياح الروس نحو 13 في المائة من إجمالي الوافدين إلى تركيا، لكن غاب عن بالها أن هذا الإجراء لن يكون أداة ضغط مباشرة على تركيا، لأنه مرتبط بموسم الاصطياف، مغفلة الأضرار المترتبة على قطاع السياحة الروسي المنهك أصلاً، بسبب تراجع سعر صرف الروبل.

لقد أصبحت موسكو مجبرة على الدفع بمزيد من الرجال والعتاد إلى سوريا، وإدخال سلاحها الاستراتيجي في المعركة، فزودت قواعدها العسكرية في سوريا ببطاريات صواريخ «إس400» وزادت من طلعات قاذفاتها الاستراتيجية، كما قامت بإرسال قطع بحرية إضافية، ولم يعد خفيًا وجود قرابة 10 آلاف عسكري روسي في سوريا، الجزء الأكبر منهم مهمته تأمين القواعد العسكرية، من ضمنهم وحدات خاصة تقاتل إلى جانب ميليشيات الأسد، وهو ما سوف يزيد من أعباء الخزينة الروسية، المثقلة أصلاً بأزمات اقتصادية ومالية.

المفارقة أنه مع كل هذا الوجود والعتاد الروسي، والعمليات الانتقامية التي يتعرض لها الشمال السوري، وضرب قوافل الإمدادات الإنسانية وسقوط آلاف الأبرياء من السوريين، لن تستطيع موسكو الوقوف في وجه المنطقة الآمنة المزمع إنشاؤها قريبًا في شمال سوريا، والتي ستحظى بغطاء جوي من دول أعضاء في التحالف الدولي ضد «داعش»، يمنع تحليق الطائرات الروسية فوقها، مما سوف يؤدي إلى خسارة ميليشيات الأسد الغطاء الجوي الذي منحها والميليشيات الإيرانية تفوقًا ميدانيًا على قوات المعارضة في بعض الجبهات.

جرحت روسيا في سوريا مرتين؛ الأولى عندما لم تنجح في تحقيق انتصار سريع تقوي به موقفها التفاوضي في فيينا، والثانية عندما أسقط الأتراك القاذفة. هذان الأمران كفيلان بزيادة أوجاع روسيا. فبينما تعاني روسيا أوجاعًا ورثتها من إمبراطوريتين، أثبت ورثة الرجل المريض أن بلادهم تعافت كثيرا، وأن باستطاعتهم تغيير قواعد الاشتباك الإقليمي، والدفاع عن مصالح دولتهم الجيو – استراتيجية، حتى تلك المرتبطة بماضيها الإمبراطوري من حلب حتى جبل التركمان، وصولاً إلى الموصل، حيث أصبحت القضية السورية ثابتًا مشتركًا مع محيطهم العربي، جمعتهم في حلف الضرورة دفاعًا عن مصالحهم المشتركة.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

 

روسيا المترددة في معاقبة تركيا/ مصطفى عبد السلام

دعنا من الحرب النفسية الشرسة التي تقودها روسيا ضد تركيا، عقاباً لها على إسقاط المقاتلة الحربية، وتحدي السلطان أردوغان للقيصر بوتين، ودعنا أيضا من إعلان الكرملين، السبت الماضي، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقّع مرسوما تضمّن إجراءات اقتصادية ضد تركيا.

ودعنا ثالثاً من قرار منع السياح الروس من التوجه إلى تركيا، وتلويح رئيس الوزراء الروسي، ديميتري مدفيديف، باستعداد حكومته لتوسيع عقوباتها الاقتصادية ضد تركيا عند الضرورة كما قال أمس.

دعنا من كل ذلك، ومن كل مظاهر التصعيد الروسي الشكلي ضد تركيا، فالجزء المخفي من مشهد الخلافات العنيفة بين البلدين يقول إن موسكو مترددة في اتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية قاسية ضد أنقرة.

والدليل على ذلك أن مرسوم بوتين الخاص بالإجراءات الاقتصادية لم يتضمن قرارات عنيفة مثل حظر تصدير الغاز لتركيا، أو إلغاء مشروعات استراتيجية مشتركة، منها إقامة محطة نووية لتوليد الكهرباء باستثمارات تفوق الـ12 مليار دولار، أو مشروع السيل التركي الضخم الذي سيتم من خلاله تصدير الغاز الروسي للخارج خاصة أوروبا، أو فرض بوتين حظرا شاملا على النقل الجوي التركي المتجه لروسيا.

كل ما فعله القيصر بوتين ورئيس وزرائه مدفيديف ما هو إلا خطوات رمزية شكلية لإرضاء الرأي العام الروسي وحفظ ماء وجه النظام لا غير، ومن بين هذه الخطوات مثلاً، منع استقدام الأيدي العاملة التركية، واستئناف العمل بنظام الفيزا (تأشيرة الدخول) بالنسبة للأتراك الراغبين في زيارة موسكو، وغيرها من الأمور غير الجوهرية في العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين.

موسكو مترددة تجاه معاقبة تركيا اقتصادياً لأسباب عدة، منها الصعوبات الشديدة التي يمر بها الاقتصاد الروسي جراء تهاوى أسعار النفط والتراجع الحاد في صادرات الأسلحة وفرض العقوبات الغربية، كما أن فرض موسكو إجراءات اقتصادية عنيفة ضد أنقرة قد يكلفها الكثير اقتصادياً، فعلى سبيل المثال سيرفع أسعار السلع داخل الأسواق الروسية وسيزيد الخناق على الاقتصاد الروسي خاصة مع استمرار الغرب في فرض عقوباته الاقتصادية والعسكرية.

التردد الروسي يمكن أن نلمسه في تصريحات عدة لكبار المسؤولين الروس، وأحدث تصريح جاء على لسان أركادي دفوركوفيتش، نائب رئيس الوزراء الروسي، الذي أكد أمس أن موسكو قد تؤجل فرض قيود على الواردات الغذائية التركية، مثل المنتجات الزراعية والخضروات والفواكه، وذلك لعدة أسابيع لتخفيف الضغوط التضخمية التي قد يعاني منها السوق الروسي جراء اختفاء السلع التركية من الأسواق.

وسار في هذا الخط أيضا إيغور شوفالوف، النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي، الذي قال إن بلاده ستحجم حالياً عن حظر واردات السلع الصناعية التركية.

وهناك تصريح ثالث صادر عن نائب وزير الطاقة الروسي، أناتولي يانوفسكي، الذي أكد مواصلة تزويد تركيا بالغاز الروسي، بحسب الالتزامات التعاقدية بين الطرفين، علما أن تركيا تستورد 50 مليار متر مكعب من الغاز السائل سنويًا، 55% منها من روسيا والباقي من دول أخرى.

العلاقات بين تركيا وروسيا متجهة للاستقرار والتهدئة وليس التصعيد، حتى لو رفضت أنقرة الاعتذار لروسيا عن إسقاط المقاتلة، كما قال رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، أمس، وكل ما تفعله روسيا حالياً هو حلاوة روح ليس أكثر، والأيام بيننا.

المصدر | العربي الجديد

 

 

 

 

مجالات وحدود المواجهة التركية الروسية/ سعيد الحاج

تغير الموقف التركي

الرد الروسي

التداعيات الإقليمية

حدود الموقف التركي

ما زالت أزمة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية تتفاعل وتتسارع تطوراتها ككرة الثلج، شاملة عدة مجالات ونطاقات، ليس بينها -حتى الآن وفي المدى المنظور- المواجهة العسكرية الشاملة، مما يدفع لضرورة الوقوف على المتغيرات التي أدت إليها، فضلا عن استشراف انعكاساتها على العلاقات الثنائية بين البلدين وعلى مجمل الأزمة السورية التي يختلفان في الرؤية لحلها.

تغير الموقف التركي

منذ اللحظة الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا حاولت موسكو مرارا الاحتكاك بتركيا واخترقت أجوائها مرات عدة، رغبة منها في تحجيم دورها ووأد فكرتها المتعلقة بالمنطقة الآمنة في الشمال السوري وفرض حظر طيران فعلي.

حينها، لم تخرج ردود الفعل التركية عن إطار المناشدة والتنبيه لاختراق أجوائها التي تعتبر حدودا جوية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، تأثرا بحالة الارتباك السياسي في البلاد بعد انتخابات يونيو/حزيران التي لم تفض إلى حكومة مستقرة. لكن بعض المتغيرات المهمة حملت جديدا هذه المرة بخطوة بحجم إسقاط مقاتلة روسية ومقتل الطيار، أهمها:

أولا، انتخابات الإعادة التي أعادت حزب العدالة والتنمية للحكم منفردا، منهية فترة عدم الاستقرار السياسي والتذبذب الاقتصادي والتراجع الأمني، وهو ما قوى موقف أنقرة في السياسة الخارجية.

ثانيا، التقارب مع الولايات المتحدة، بعد أن حملت الفترة الانتقالية في تركيا وما قبلها حالة تراجع في العلاقة مع واشنطن تمثلت بإهمال تحفظات أنقرة على التعاون مع الفصائل الكردية في سوريا، بما في ذلك دعمهم بالسلاح ثم تقديم الغطاء الجوي لهم خلال هجومهم على تل أبيض وتفريغها من العرب والتركمان دون علم أنقرة.

فالانتخابات الأخيرة والتهديد الروسي وتراجعات تركيا التكتيكية (الانخراط الفعلي في التحالف الدولي وإتاحة قاعدة إنجيرليك) دفعت أنقرة مجددا للتقارب مع الموقف الأميركي مما شجعها على اتخاذ مواقف أعلى سقفا من ذي قبل.

ثالثا، رفع موسكو مستوى استفزازها لأنقرة من خلال القصف الجوي المكثف لجبل التركمان قرب الحدود التركية وتقديم الغطاء لقوات الأسد هناك، بما يعني عودة النظام للحدود التركية وتقويض فرص المنطقة الآمنة وتهديد التركمان المحسوبين على تركيا تاريخيا وسياسيا وعرقيا.

رابعا، التواصل التركي الجيد خلال الفترة الأخيرة مع حلف الناتو بشأن الانتهاكات الروسية لأجوائها، وإيصال رسالة واضحة للروس بأن أنقرة ستفعّل “قواعد الاشتباك” إذا انتهكت أي طائرة مجالها الجوي، وهو ما قوى موقفها من الناحية القانونية.

الرد الروسي

نظرا للعلاقة التاريخية المتوترة بين البلدين وشخصية بوتين والتاريخ الروسي الحديث الزاخر بالمغامرات العسكرية المفاجئة من أفغانستان إلى أوكرانيا، فقد توقع البعض نشوب نزاع مسلح بين البلدين، بيد أنه استنتاج متسرع بكل الأحوال. فلا تركيا تريد مواجهة عسكرية مع موسكو، ولا روسيا في وارد تصعيد عسكري قد يضعها بمواجهة مع حلف الناتو تضامنا مع قاعدته الشرقية.

بيد أن المنتظر أن تقصر روسيا رد فعلها العسكري على الداخل السوري، وأن تفعل الردود/العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية على أنقرة لاسيما في مجال الطاقة الذي تملك اليد العليا فيه. فروسيا هي مصدر حوالي 55% من الغاز الطبيعي الذي تستورده تركيا، وهي الشريك التجاري السابع لها، والدولة الثانية من حيث عدد السياح فيها، بينما يبلغ حجم الميزان التجاري بين البلدين 31 مليار دولار ويميل بشكل واضح لمصلحة موسكو.

وفي حين كانت ردة الفعل الروسية الأولية إلغاء زيارة وزير خارجيتها المجدولة مسبقا لأنقرة واستدعاء السفير التركي لإبلاغه باحتجاجها، فقد بدأت موسكو سلسلة إجراءات/عقوبات اقتصادية تمثلت في التالي:

– دعوة الروس لعدم التوجه لتركيا للسياحة باعتبارها غير آمنة.

– مناشدة مواطنيها الموجودين في تركيا مغادرتها “في أقرب وقت”.

– تجميد إجراءات الإعداد لمنطقة التجارة الحرة بين البلدين.

– التهديد بالتراجع عن المشاريع الكبيرة المشتركة بين البلدين، ومنها خط الغاز التركي.

– تجميد وزارة الدفاع الروسية التواصل والتعاون العسكري مع أنقرة.

– التهديد بخفض وتيرة الطيران المدني بين البلدين.

ورغم كل ذلك، ثمة ما يدعونا للاعتقاد بأن خطاب موسكو الحاد متفهم ومتوقع كرسالة للداخل الروسي وحفاظا على ماء وجه المؤسسة العسكرية الروسية باعتبار أن الحادثة لها أبعادها العسكرية المتعلقة بالقوات الجوية الروسية وطائرتها “سوخوي” لإضافة لأبعادها السياسية المتعلقة بتحدي موسكو و”هزيمتها” في هذه الجولة.

من ناحية أخرى، ورغم أن شخصية بوتين التفردية في روسيا وطريقة إدارته لسياسة بلاده الخارجية يوحيان بإمكانية انتهاج سياسة العناد وزيادة العقوبات ضد أنقرة، فإن الملف الاقتصادي بطبيعته سلاح ذو حدين، فروسيا مستفيدة كما تركيا سواء بسواء من التعاون الاقتصادي، وأي تخفيض في مستوى هذا التعاون سيضرها بنفس الدرجة مع أنقرة -ثاني مستوردي الغاز الطبيعي منها- بل ربما أكثر، إذا ما وضعنا في الحسبان العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها، واقتصادها المتراجع، وتهاوي أسعار النفط عالميا، والاستثمارات المتبادلة بين الطرفين وخاصة مشروع المفاعل النووي التركي الذي استثمرت فيه 3 مليارات دولار، فضلا عن تدخلها في كل من أوكرانيا وسوريا وما يمثلانه من عبء مالي عليها.

التداعيات الإقليمية

لا شك أن الخطوة التركية ليست مجرد حدث منفرد متعلق بالسيادة الجوية، بل ستكون لها انعكاسات يمكن وصفها بالإستراتيجية، منها:

– تحدي الوجود الروسي العسكري وخاصة الجوي في سوريا، وانتفاء حالة الردع التي حاولت موسكو تأسيسها.

– إعادة حالة الاستقطاب ولو جزئيا بين روسيا والدول الغربية، بعد أن قرّبت هجمات باريس من مواقفها بالتركيز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية بغض النظر عن مستقبل الأسد.

– إعادة الروح لفكرة المنطقة الآمنة وحظر الطيران في الشمال السوري، خصوصا أن الحادثة كان قد سبقها غطاء جوي تركي أميركي للمعارضة السورية استعادت بفضله قريتين من تنظيم الدولة، فضلا عن التصريحات الأميركية المادحة لتركمان سوريا واعتبارهم “لاعبا محليا” يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التنظيم.

– خلط الأوراق وإعادة توزيعها على طاولة التفاوض قبيل بدء المرحلة الانتقالية المتفق عليها بين موسكو وواشنطن.

كما أن موقف تركيا القانوني والتسجيلات التي بثتها لإثبات انتهاك مجالها الجوي وحقها فيما أقدمت عليه، فضلا عن الدعم اللفظي -الخجول نوعا ما- من دول حلف الناتو، صعّب من موقف موسكو السياسي والقانوني وخفض من سقف رد فعلها المباشر والسريع.

لكن ذلك لا يعني أن ما أقدم عليه الأتراك سيمر دون رد فعل يحفظ الكبرياء الروسي، ويمنع تدحرج الأحداث بما يضر بموقفها ورؤيتها في سوريا، بل يحاول استثمار الحدث بالقدر الممكن. حيث يتوقع أن يكون الرد الروسي على الرقعة السورية استهدافا للتركمان، وللشمال السوري، ولفصائل المعارضة “المعتدلة” المحسوبة على أنقرة بدرجة أو بأخرى. وهو ما كان، حيث كثفت المقاتلات الروسية من طلعاتها وقصفها على تلال جبل التركمان تحديدا وعلى امتداد الشمال السوري في إعزاز وغيرها بطريقة مضاعفة كمّا ونوعا، كما استهدفت قافلة إغاثية يشارك فيها أتراك بادعاء أنها تحمل النفط الذي يصدّره تنظيم الدولة.

من جهة ثانية يمكن لروسيا لعب دور داعم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكرية “قوات حماية الشعب” في سوريا، المصنفين على قائمة الإرهاب التركية، واللذين أبديا رغبة مسبقة في التعاون مع موسكو في “محاربة الإرهاب”، وغني عن الإسهاب القول إن الملف الكردي برمته -لاسيما في جزئية إقامة أي كيان سياسي لهم على الحدود التركية- من الخطوط الحمر للأمن القومي التركي.

في حين لا يمكن استبعاد إمكانية لجوء موسكو لتحريك بعض الجهات الداخلية ضد أنقرة بشكل حاسم، وخاصة المجموعات اليسارية والكردية الراديكالية.

أخيرا، لا يمكن تقييم الموقف الروسي بعيدا عن تحالفات موسكو، وهي ليست مقتصرة على إيران ونظام الأسد، بل تمتد لتشمل عدة جمهوريات وأنظمة مرتبطة بها، وقد بدأ فعلا بعضها -مثل روسيا البيضاء وإقليم القرم المحسوب على موسكو- بالإعلان عن إجراءات عقابية لأنقرة متعلقة بالسياحة والنقل البري والبحري.

بيد أن ما يمكن اعتباره محوريا وإستراتيجيا في الردود الروسية أمرين:

الأول توجيه الاتهامات لتركيا بدعم “الإرهاب” وتنظيم الدولة، وهو اتهام له حساسيته لدى أنقرة وصداه في الغرب، وتريد روسيا من خلاله دفع تركيا للموقف الدفاعي.

الثاني، رفع مستوى الوجود العسكري الروسي في سوريا من خلال استقدام منظومة أس 400 للدفاعات الجوية كبداية، والتي ستحاول روسيا من خلالها تقويض أي دور مستقبلي للطيران التركي في شمال سوريا وتصعيب تنفيذ المنطقة الآمنة.

حدود الموقف التركي

من جهتها، تحرص أنقرة على تجنب المواجهة المباشرة مع موسكو لاعتبارات عدة أهمها فلسفة السياسة التركية الخارجية القائمة على تفادي النزاعات، والعلاقات الاقتصادية المتشابكة مع روسيا، وعدم ثقتها بالمواقف المستقبلية الفعلية للناتو.

ولذلك فقد حرصت تركيا على لسان أكبر مسؤوليها ومنذ اللحظة الأولى على التأكيد على عدم استهداف روسيا كدولة والاكتفاء بإجراء “اضطراري” لحماية حدودها وسيادتها وفق قواعد الاشتباك المتعارف عليها بين الدول.

من الواضح إذن أن إستراتيجية أنقرة تتمثل في الاكتفاء بإرسال رسالة لروسيا بخصوص سيادتها على أجوائها وحدودها ودورها في حماية التركمان ورسم مستقبل سوريا والمنطقة، وتجنب الانزلاق نحو أي مواجهة قد تكون محفوفة بالمخاطر، بل وتفويت الفرصة على موسكو في تصعيد الموقف، وهو ما يفسر محاولات أردوغان الاتصال هاتفيا ببوتين وطلب لقائه دون جدوى حتى كتابة هذه السطور.

أما على المدى البعيد فتعمل تركيا التي تعرف حدود إمكاناتها العسكرية وخطورة التعامل مع الدب الروسي صاحب المفاجآت والمبادرات الصدامية، على ثلاثة أصعدة: دعم فصائل المعارضة السورية لاسيما في الشمال بما يمكن أن يشغل روسيا ويشكل لها حالة استنزاف، ومحاولة إخراج فكرة المنطقة الآمنة إلى حيز التنفيذ بالتعاون مع واشنطن ولو بالتدريج، وتنويع مصادر الطاقة التي تستوردها حتى لا يبقى شريان حياتها بيد موسكو وحلفائها.

إذن، في المحصلة، فما زلنا أمام حدث بالغ الجدة والحدة، ومفتوح على عدة سيناريوهات في ظل الإرث التاريخي للعلاقات الثنائية بين الجارين اللدودين وخلافاتهما في مجمل ملفات السياسة الخارجية وتشابك علاقاتهما الاقتصادية.

بيد أن المتوقع أن تتراجع حدة المواقف الأولية التي تخاطب عاطفة الشارع في كلا البلدين لتحل مكانها -ولو جزئيا وبالتدريج- لغة المصالح المشتركة والتفاهمات المقبولة منهما على حد سواء، وهذا هو التحدي الكبير الذي تواجهه العاصمتان في المستقبل القريب.

الجزيرة نت

 

 

 

 

روليت روسي في سوريا/ عثمان ميرغني

ليس من المبالغة القول إن ما يحدث الآن في سوريا، سواء على صعيد التوتر بين روسيا وتركيا بعد إسقاط الطائرة الحربية الروسية، أو على صعيد الازدحام الشديد في أجوائها بين قوات تحمل أجندات مختلفة ومتباينة، بات أشبه بالروليت الروسي. فهناك لاعبون كثيرون على الأرض وفي الأجواء، وأصابع كثيرة على الزناد، ولا أحد يعرف متى تنطلق رصاصة قاتلة تؤجج صراعًا أكبر.

واقعة إسقاط طائرة سوخوي الروسية كانت دليلاً ساطعًا على أن الحرب في سوريا وحول مستقبلها يمكن أن تتطور إلى نزاع أكبر وأخطر. فالحرب لم تعد حربًا أهلية كما يسميها البعض، بل أصبحت حربًا إقليمية بأبعاد دولية. عودة أجواء الحرب الباردة بين الغرب وروسيا انعكست أيضًا على الوضع السوري وزادت تعقيداته. كذلك امتدت تداعيات الحرب الأوكرانية والمواجهة الغربية مع روسيا إلى حدود سوريا. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اتهم الغرب بتهديد أمن ومصالح روسيا على حدودها، واعتبرها مسؤولة عن «تحريض» أوكرانيا، لم يكتفِ بإرسال قواته ودعم المنشقين على كييف، وانتزاع السيطرة على أراضٍ مهمة، بل قرر نقل المواجهة مع الغرب إلى سوريا.

المواجهة الروسية – الغربية ليست التعقيد الوحيد في الأزمة السورية، فهناك تباين في الدوافع والأهداف والاستراتيجيات حتى بين الأطراف المتحالفة. تركيا على سبيل المثال، إن بدت متعاونة مع أميركا بعد «التفاهم» الذي توصلت إليه حكومة رجب طيب إردوغان مع إدارة باراك أوباما، إلا أنها تتحرك وفق أهدافها الخاصة التي تتقاطع وتتضارب مع سياسات واشنطن المعلنة. من هنا، خصها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر بالنقد قبل يومين وطالبها بأن تفعل المزيد في محاربة «داعش»، وأن تسيطر على حدودها.. «وهو ما لم تقم به بفاعلية منذ ظهور (داعش)»، على حد قوله.

هذا الكلام إذا جرد من لغته الدبلوماسية، يعني اتهامًا صريحًا لتركيا بأنها تفتح حدودها لـ«داعش». المفارقة أن واشنطن تلتقي في هذا الموقف مع روسيا التي اتهمت أنقرة بأنها تفتح حدودها للنفط المهرب من «داعش»، وهو أحد مصادر التمويل الأساسية للدولة الإسلامية المزعومة. بوتين لم يستخدم لهجة دبلوماسية مثل كارتر في هجومه على الحكومة التركية، إذ وصفها بأنها «شريك الإرهابيين»، وقال إنها أسقطت الطائرة الروسية لحماية خطوط تهريب النفط الذي تتمول منه «داعش» وتستفيد منه تركيا.

الحقيقة أن الحرب على «داعش» التي يقال إنها عامل مشترك بين الأطراف المختلفة التي تقوم بعمليات جوية في سوريا، تخفي تحت طياتها سياسات واستراتيجيات وأهدافًا متباينة. فروسيا لا تركز في غاراتها على «داعش»، بل تهاجم فصائل تصنفها الأطراف الأخرى وفي مقدمتها واشنطن بأنها معارضة وليست إرهابية. في الجانب المقابل، تشن واشنطن غارات على مواقع «داعش»، بينما تستثني أو لا تضرب بقوة مواقع تنظيمات متطرفة أخرى. أما تركيا فإن معظم عملياتها موجهة على مواقع حزب العمال الكردستاني لا على «داعش». هناك اختلاف واضح في تعريف من هو المتطرف ومن هو المعتدل في الساحة السورية، مثلما أن هناك تباينًا في دوافع وأهداف العمليات العسكرية الحالية في الجو وعلى الأرض.

هذه التباينات مع أجواء الشحن والتوتر، تثير القلق من احتمال انفلات الأمور نحو مواجهة أوسع. فروسيا عززت قواتها في سوريا وتبدو متحفزة للرد على إسقاط طائرتها ومقتل اثنين من طياريها، وهناك قناعة في كثير من الأوساط بأن بوتين لن يكتفي بالعقوبات والمقاطعة لتركيا، بل سينتهز أول فرصة للرد عسكريًا على أنقرة. وقتها سيعتمد مسار الأحداث على نوعية العمل الذي قد تقوم به روسيا، وما إذا كانت حكومة إردوغان ستبتلع الأمر، أم أنها ستصعد مرة أخرى فتجر حلفاءها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى مواجهة بالغة الخطورة مع موسكو.

الدول الغربية التي استيقظت متأخرة على خطر «داعش»، تسارع الآن إلى إرسال طائرات للمشاركة في الغارات الجوية، أو للقيام بعمليات محدودة للقوات الخاصة على الأرض، لأنه لا أحد يرغب أصلاً في إرسال قوات برية كبيرة والمخاطرة بالتورط في حرب قد تكون طويلة ومكلفة، كما أن الأمر ازداد تعقيدًا مع زيادة روسيا وجودها العسكري هناك. هناك أيضًا قناعة بأن إرسال قوات برية إلى سوريا سيزيد التطرف ويكون وقودًا لآلة التجنيد للمنظمات الإرهابية.

السؤال: هل يكفي القصف الجوي وحده لهزيمة «داعش»؟

قد ينجح القصف في إضعاف «داعش»، لكنه بالتأكيد لن يقضي عليها تمامًا، ما دامت الظروف توفر بيئة للمتطرفين ولاستمرار الحرب. فتجارب العراق وأفغانستان تثبت أنه حتى مع إرسال قوات غربية برية، فإن الإرهاب لم يندحر. سوريا تحتاج بالتأكيد إلى عملية سلمية توقف الحرب التي تقترب من عامها الخامس. المحزن أنه حتى لو تحققت العملية السلمية، فإن ذلك لن يعني عودة الهدوء أو الاستقرار، فسوريا وضعت على سكة العراق.

*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”

 

 

 

 

 

 

اليسار العربي ومعول هدم أيديولوجيته/ نزار السهلي

تبدو علاقة اليسار العربي للوهلة الأولى غامضة مع الثورات العربية المندلعة، غير أن حالة التصاقه مع الاستبداد، والتنافر المشحون مع الشارع جعلاه يحتل زمن القطيعة مع الواقع من خلال أيديولوجيا كانت ربوتها التي تطل من فوقها تحليلا لطبيعة الصراع الطبقي وأبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفلسفية حتى أصيب بحالة الإغماء والدهشة والرعب من الثورات، وبقيت تساؤلات الشارع التي شملت الأحلام والأمنيات التي ناضل وحلم بها.

ظلت جوقة من أدعياء اليسار تعزف لحن الدفاع عن الاستبداد وتبلور ذاتها من خلال جملة مواقف مبنية على لفظ تلك الأحلام والأمنيات بمزيد من العجز الواضح وهي تطوي كل أدبياتها تحت معطف النظام الرسمي العربي، وهو ما شاهده وسمعه ولمسه الشارع متوجا التدخل العسكري الروسي في سوريا بالتبريك والتهليل.

لم يختلف يوما تقييم الواقع السوري عند أحزاب مذهبية ادعت في دفاعها المستميت عن الاستبداد أنها ما دخلت سوريا إلا حفاظا على مقامات دينية، وبعض أدعياء “يسار” عربي لا يزال يعتبر موسكو قبلة وكعبة الماركسية، ويرى أن سوريا تعيش “مؤامرة إمبريالية صهيونية”.

الخوض في العلاقات الروسية مع دولة الاحتلال كاف لإقناع أي كان بعد كل هذه السنوات بأن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، ويكفي البحث المجهري عن موقف محدد لموسكو من قضية الاقتحامات في الأقصى وغيابه عن خطاب روحاني في الأمم المتحدة برحلة البراغماتية والانتهازية في تغليب المصالح وتسليع القضية الفلسطينية ومن بعدها القضية السورية عند الطرفين.

ظلت جوقة من أدعياء اليسار تعزف لحن الدفاع عن الاستبداد وتبلور ذاتها من خلال جملة مواقف مبنية على العجز الواضح وهي تطوي كل أدبياتها تحت معطف النظام الرسمي العربي، وهو ما شاهده وسمعه ولمسه الشارع، خصوصا بعد تهليلها للتدخل العسكري الروسي

” بكل الأحوال، ثمة أسئلة مثارة عما آلت إليه خطابات تيار عربي يعيش هاجس مذهبة انتفاضة الشعب السوري، سواء أكان عند طبقة مثقفة ونخب سياسية ترفع لواء “الممانعة” أم في صفوف أحزاب وقوى رسمية بشمال أفريقيا والمشرق العربي.

لا داعي ربما في زحمة وتسارع الحدث للتذكير بأكبر عملية تحايل على الحراك السوري حين وصمه البعض بأنه حراك “سني متطرف” فقط لأنه خرج من المساجد، وظل ذلك الموقف مبررا لحالة العجز في اتخاذ موقف واضح غير الذي يحمل الضحية مسؤولية توحش الجلاد.

ومثلما كان شعار “حرمة” قتل الفلسطيني من دولة الاحتلال يعبر عن مأزق تحليل ذلك في مخيمات سوريا وتهجيرهم ومثلما هجروا من العراق على يد من أصبحوا اليوم جزءا مما يسمى “معسكر الممانعة” تحت مرأى ومسمع فصائل فلسطينية تعيش اليوم بنفسها انفصام التحليل والتحريم في استهداف الفلسطينيين فإن القوى التي رفعت في سوريا شعار “لا للتدخل الخارجي” يغيب عنها اليوم أن السيادة الوطنية عادة تبقى سيادة مخترقة، ولو كان الاختراق آت من موسكو وتل أبيب وطهران.

إن سياسة وفكر المناكفة والنكاية يؤشران في معظم أسئلة جيل عربي كامل على تلك النخب التي مارست أشد ممارسات النفاق والتحايل، والأمر ينسحب على الحالة المصرية الشديدة الوضوح منذ ما سميت “ثورة 30 يونيو” في التعاطي مع مطالب الشعب السوري في طلب الحماية القانونية الدولية ومنع الإفلات من العقاب وما جلبه من كوارث شظت المجتمع السوري وبنت بين مكوناته جدرانا من البغضاء ورغبات بالانتقام.

في المقابل، لم يفهم موقف هؤلاء المشار إليهم، سواء كانوا قوى تدعي بعض “قومية” أو “يسارية” من قضية الصمت على كل الإشارات الإسرائيلية الواضحة عن ضرورة الحفاظ على نظام دمشق بما يحققه ما بات يعرفه أصغر سوري بتدمير سوريا وإقامة تقسيمات مطلوبة تاريخيا في منطقتنا.

إذا عدنا إلى ديسمبر/كانون الأول 2011 للتذكير بخطاب حسن نصر الله بعد ترؤس الدكتور برهان غليون المجلس الوطني السوري حيث اتهمه واتهم المعارضة السورية بما سماه “تقديم أوراق اعتماد للولايات المتحدة وإسرائيل” فإن الأمر شبه المحسوم أن غليون وتركيبة المعارضة في ذلك الحين لم يكونا يعرفان ما يسميه اليوم استسهالا معسكر روسيا وإيران “الدواعش”.

ورغم ذلك وبعد كل تلك السنوات وتسارع الحدث وتراكمه وانكشاف الكثير من المستور بات الانفصام القائم على الحب والكراهية وتلاقي الخطاب الديني الغيبي مع ما يطلق على نفسه يساريا ثوريا يغيب تماما مسألة البحث عن الشرعية في واشنطن وتل أبيب وموسكو وباريس؟ فمن هو الذي يلهث ليكون في الحلف الدولي ضد داعش ويحاول أن يكسب رضا الغرب ويعيد تأهيل نفسه بمنطق الخدمات الأمنية عبر زيارات ومباحثات مكوكية في عاصمتين أوروبيتين وعاصمة عربية؟

بل إن المذهل في صمت تلك القوى أنها عكس ذلك حين يتعلق الأمر ببلد غير سوريا، وبطبيعة الحال مصر، هل سمعنا موقفا واضحا من محاولة إغراق حدود قطاع غزة لتشديد الحصار؟ خاصة من تلك القوى أو النخب التي تحولت في إطلالتها من نافذة إعلام السيسي وتحولت إلى “رديحة” وشاتمة بعد أن قدمت نفسها طوال عقود على أنها حاملة طليعة اليسار والقومية، ثم نظرت بازدراء إلى “بروليتاريا” مجتمعاتها “المتآمرة والرجعية”.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 وقف عضو مكتب سياسي لفصيل فلسطيني يساري حتى العظم على منبر “دار الأوبرا” في ساحة الأمويين مخاطبا جمهوره بسؤال: لماذا لا يسمح لنا كيساريين وقوميين بالقتال دفاعا عن سوريا وقيادتها.. الأسد باق، الأسد باق؟ ووقف نائب أمين عام ذات الفصيل اليساري حتى النخاع موجها تحيته للجيش العربي السوري “الذي يقود معارك الشرف”.

هؤلاء هم الرفاق من بين ظهراني الفلسطينيين والسوريين يمارسون كل قبح الشعبوية وأمراض اليسار الحامل لمعول هدم أيديولوجيته، في ارتداد مذهبي وديني يؤدي الولاء عند عتبات بحر الظلام، وهؤلاء هم في سوريا يجسدون النضال الأممي بـ”التلطي” خلف فاشية متعددة العباءات، بل وبعضهم يجعلها وصية على اليسارية والعلمانية والقومية العربية.

الأشد وضوحا في أجوبة حجاج موسكو من المعارضين السوريين عن قصة رفض التدخل الخارجي، وفي صفهم فصائل كثيرة بالعمل الوطني الفلسطيني ممن يحبون تسميتهم يسارا أنهم كانوا يقصدون أي تدخل يمنع ما تنبأ الكثيرون بالوصول إليه في سوريا.

وعليه يبدو أن مقولة وليد المعلم ذات صباح “من يريد الاعتداء على سوريا عليه التنسيق معنا” لم تكن زلة لسان كما أراد تفسيرها بعض المتذاكين، فلو حضرت اليوم قوات واستخبارات ألمانيا (صاحبة قصة الباخرة الألمانية لمساعدة المسلحين) عبر بوابة علي مملوك لأصبحت برلين أيضا “من محور الممانعة ومن أهل الدار” مثلما تحولت طهران ذات يوم إلى “قبلة القومية العربية” في طهران نفسها وسفاراتها المنتشرة في عواصم العرب.

الانهيار والتفسخ الكبير لليسار العربي يطل بعقابيله الكبيرة والنخرية والأليمة منذ اندلاع الثورات، خاصة من نخبه القومية المتهافتة -وتحديدا في مصر وسوريا- على نحو فج وسافر لتقديم الولاء لأنظمة الاستبداد، وتعميق الفجوة مع الشارع الذي ادعى انحيازا له حتى بدت تلك النخب ملتصقة ومنصهرة مع شعارات نقيضة تماما لما استفاضت به أدبياتها، واقتسام كعكة السلطة في مواقع أخرى كديكور مكمل لنيشان “الديمقراطية ” في ذيل السلطة أو صدرها كما ظهر في بيانات اليسار السوري والمصري “المعارض” لتطلعات الشعب!

بعض أدعياء اليسار العربي في كل من مصر وسوريا وفلسطين ما زال بعضهم -ويا للسخرية- يحتفظون بمظلات تقيهم المطر، ويرون موسكو (المافيا) قبلتهم رغم ما قاله صديقهم ماتازوف عن “الثورة البلشفية” ليطعن بثورة السوريين والمصريين ويمجد مع بوتين بشار وهو يقدم سوريا وسيادتها واستقلالها عربون وقوفهم معه.. لكن لا أحد من رفاق الأمس يخبرنا وماذا عن موسكو المتصهينة؟

بالتأكيد، لم يحفظ السوري العادي ولا المصري ولا ابن الشارع العربي ما كتب لينين وتروتسكي، لكن فطرته وجسارته التي يدافع فيها عن حريته وكرامته وعدالته توازي كل المبادئ والأيديولوجيات، في حين أن ذاك اليسار لم يحافظ على مبدأ واحد من مبادئ تلك الأممية المتحولة إلى عبودية لشخص الأمين العام والقائد الخالد.

وبظننا أن المواطن الروسي الجديد لا يلقي بالا لمن يسمي نفسه يسارا، وهو الذي صفق لإزالة تماثيل لينين وأقطاب الشيوعية والجيش الأحمر والـ”كي جي بي” لن يهمه كثيرا من يحتفي في عالمنا العربي بيساريته فهو لو سمع هؤلاء بالتأكيد لانقلب على ظهره من الضحك على هؤلاء “الموسكويين” العرب.. وقد خانوا أهم المبادئ.

يبقى القول إننا إزاء أكبر عملية تحايل وتدمير لفكرة المقاومة والممانعة منذ خمسة أعوام حتى باتت محل تندر من القريب والبعيد، وأضحى سؤال السيادة الوطنية مطاطا بقدر ما يكون في خدمة مسح الدم عن أيدي “جمهوملكيات” وراثية مستبدة بغطاء من حركات وأحزاب ترفع شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بينما أمناؤها العامون ومكاتبها السياسية وقياداتها إما تنتقل بالتوارث أو بفعل الموت.

والسؤال المطروح هنا: لماذا لا يكون بوتين ومدفيدف المثل الأعلى في معنى الديمقراطية التي يفهمها بعض “الرفاق” وهم لا يزالون رغم الأحلام الإمبريالية لموسكو يظنون أنها ما زالت كعبة الماركسية وقبلة الاشتراكية؟

الجزيرة نت

 

 

 

 

بوتين لا يدع القانون الدولي يقف في طريقه/ مايكل ديش

استغل الرئيس الأميركي باراك أوباما وجوده ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الفرنسية باريس، لإجراء محادثات في مؤتمر المُناخ العالمي هذا الأسبوع، لإعطاء بوتين بعض النصائح الاستراتيجية حول التدخل العسكري الروسي في سورية.

تأتي نصائحه في الوقت المناسب بعد إسقاط تركيا، حليفة الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، مقاتلة روسية الأسبوع الماضي بالقرب من الحدود التركية-السورية.

وقال أوباما “أعتقد أن بوتين يدرك، مع ذكرى أفغانستان التي ما تزال حاضرة في الذاكرة، أن دخوله في حرب أهلية ليس الناتج الذي يبحث عنه”.

وتُعدّ هذه بالتأكيد موعظة حسنة، لكني أتساءل عما إذا كان ينبغي أن نعمل نحن بنصائحنا؟

فبعد كل شيء، إذا كنا نتحدث عن التدخلات العسكرية الأخيرة، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن لتجاربنا المشؤومة في العراق أو أفغانستان أو سورية أن تجعل أوباما يعتقد أنه أكثر حكمة بشأن استراتيجية هذا الجزء المعقد من العالم بالمقارنة مع نظيره في موسكو.

أوباما كان من المشككين بتدخل أميركا في العراق 2003، ووافق بحكمة على سحب القوات في 2011، عندما اصطحبنا نوري المالكي، نائب الرئيس العراقي السابق الموالي لإيران، مودعا إيانا عند الباب.

ولكن يبدو أنه يعيد التفكير بترك العراق، ويعيد ببطء أفراد الجيش الأميركي للمساعدة في وقف القوة الماحقة لتنظيم داعش في أراضي بين النهرين.

وبالتأكيد يجب أن يُعلمنا تدخلنا الأصلي أنه في حين يساعد وجود أعداد كبيرة من العناصر الأميركية في الميدان على إخضاع المكان للسيطرة، إلا أن هذا النجاح يستمر فقط طالما كنا على استعداد للبقاء هناك.

ونتذكر في أفغانستان، توسيع إدارة جورج بوش حربا مبررة للإطاحة بتنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” إلى ممارسة واسعة النطاق في بناء الأمة في محاولة لتحويل دولة منقسمة تاريخيا وضعيفة إلى ديموقراطية فاعلة. كان ذلك بمثابة بناء قلعة على الرمال.

وببساطة، من الصعب أن نتصور أن بوتين يريد نصيحة أوباما حول الاستراتيجية الروسية في سورية. كما أنني لست متأكدا من أنه حقا في حاجة إليها، فالرئيس الروسي ليس ديموقراطيا، ولا يدع مجاملات القانون الدولي والدبلوماسية تقف في طريقه.

ولكن كل هذا أيضا يثير مسألة مثيرة للاهتمام، من لديه وجهة نظر أكثر واقعية للوضع في سورية؟ يعتقد أوباما أنه من الممكن هزيمة “داعش” والتخلص من الأسد؛ ويدرك بوتين أن هذين الهدفين –رغم أن كل منهما مطلوب على حدة- إلا أنه من غير المرجح تحقيقهما معا.

إذ يبدو أن سورية هي واحدة من تلك المشاكل التي تتطلب الواقعية بدم بارد للتفكير بشكل واضح، وهو شيء يتمتع به فلاديمير بوتين، ويفتقر إليه باراك أوباما بالكامل.

الوطن السعودية

 

 

 

 

تركيا وروسيا ومجلس التعاون .. هل لا يزال وقف إطلاق النار في سوريا أمرا ممكنا؟

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

تشير التقارير المسربة المتداولة في أنقرة أن هناك خلافا ما بين القوات المسلحة التركية والرئيس «أردوغان» حول إسقاط الطائرة الروسية ربما يستغرق بعض الوقت للتعرف على حقيقته. بعد، فقد أفيد باستمرار، لبضعة أشهر حتى الآن، أن الجيش التركي ليس راضيا عن الطريقة التي يتعامل بها «أردوغان» سياسيا مع الأزمة السورية. اعتقدنا في ذلك الوقت أن هذه التقارير لم تكن دقيقة. حتى إننا قدرنا أن المزاعم بأن الجيش التركي كان يحاول إبعاد «أردوغان» عن عملية صناعة القرار في سوريا كان مبالغا فيه إلى حد كبير.

وكان تقييمنا أن القوات المسلحة التركية تلعب دورا متزايدا في عملية التكامل فيما يخض الأمور الأمنية المتعلقة بالسياسة، وبخاصة مع البيئة الأمنية المضطربة داخل البلاد وحولها. لذلك، فإنه إذا كان تقييمنا دقيقا فإن النزاع المزعوم في أنقرة حول حادث الطائرة الروسية ربما ليس إلا خلافا قابلا للإدارة بين الجيش التركي و«أردوغان».

هذه التقارير المسربة لا ترقى إلى أي شيء مهم. ما يمكن أن يشكل أهمية حقا هو الموقف الغربي تجاه «أردوغان» بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية.

تهديدات روسية

ولكن في البداية علينا أن ننتبه إلى تطور آخر ذي صلة. أوردت صحيفة «برافدا» الروسية المؤثرة في 19 نوفمبر/تشرين الثاني تهديدا موجها نحو المملكة العربية السعودية وقطر أن روسيا، في حربها ضد الإرهاب، تعمل بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وتنظم المادة الحق في الدفاع عن النفس للدول وفقا لما أكده «بوتين». كما أكد وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» من خلال لقائه مع نظيره اللبناني أن روسيا سوف تسخدم حقها في تطبيق المادة بكل الوسائل المتاحة، سواء أكانت عسكرية أو دبلوماسية أو مالية.

وعلاوة على ذلك، فقد نقل وزير الخارجية الروسي رسالة تحذير شفهية عبر سياسي لبناني إلى كل من المملكة العربية السعودية وقطر.

وقال «يفغيني ساتانوفسكي» الرئيس التنفيذي لمعهد الشرق الأوسط أن البلدين يجب أن يكونا خائفين من العقاب الروسي. «دخلت روس إلى الحرب: عملت فأسها وجذبت السهام واتجهت إلى العمل». كل شيء آخر لا يهم. وأضاف الخبير أن روسيا لم تكن تنسق خطواتها مع المنظمات الدولية حينما استولت على برلين عام 1945.

وجاء التهديد كي يزيد من اشتعال الأوضاع الملتهبة بالفعل. بدأت قطر حملة شعبية لدعم «أردوغان». وكانت باكستان قد أعلنت في وقت سابق أن أي تهديد للمملكة العربية السعودية سوف يقابل برد فعل قوي من قبل إسلام أباد. اختار السعوديون عدم الرد على التهديدات الروسية حتى إن اجتماع مجلس الوزراء الذي أعقب الحادث قد أهمل تماما ما حدث.

أين هي الحدود بين الفعل والخطابة في كل هذا؟

من الصعب القول تحديدا. وبالطبع فإن الأكثر احتمالا هو أن روسيا لن تتخذ أي خطوات عملية وراء التهديدات. والسبب هو أن موسكو تستخدم ببساطة الحادث لصالحها سريعا جدا في الواقع. حيث شهدت سيطرتها العسكرية على الجزء الذي يتحكم فيه «الأسد» من سوريا نقلة كبيرة من حيث نوعية الأنظمة العسكرية المستخدمة هناك.

أضيفت مقاتلات سوخوي 24، صواريخ سلافا، سوى منظومة الدفاع إس-400 وعدة وحدات من القوات الخاصة «سبيتسناز»، إضافة إلى قدرات بحرية أخرى تم إضافتها إلى القوات الروسية في سوريا في غضون أسبوع بعد إسقاط الطائرة.

على الجبهة الدبلوماسية، فإن فرنسا التي كانت تتبنى سياسة متشددة تجاه سوريا تبدو الآن على استعداد للعمل مع الروس لمحاربة «الدولة الإسلامية». كان هذا كافيا للإشارة إلى أن أي محاولة لسحب حلف شمال الأطلسي بكامله نحو مواقف أنقرة بشأن العملية الروسية في سوريا لم تكن ناجحة.

وعلاوة على ذلك، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن خطط لإرسال قوات خاصة إضافية إلى سوريا بناء على تقييم إيجابي لتأثير الـ50 شخصا الذين تم إرسالهم في وقت سابق.

في غضون ذلك، فإن قوات «الأسد» جنبا إلى جنب مع الميليشيات الشيعية المتحالفة معها تواصل شن هجمات لا هوادة فيها من حلب إلى حمص إلى درعا والحسكة. يبدو أن الوضع حول حلب صار صعبا جدا بالنسبة للدولة الإسلامية. في هذه المنطقة، لا يوجد تقريبا وجود لتنظيم الدولة الإسلامية ومن الواضح أن قوات «الأسد» تحقق تقدما بطيئا في هذا الصدد.

ما الذي بإمكاننا أن نستنتجه من كل هذا؟

توظف موسكو عملية إسقاط روسيا للطائرة عبر التحرك في مسارين في وقت واحد. الأول هو المزيد من تصليب خطابها السياسي حول الأزمة السورية والمزيد من التشدد حول الحلول السياسية المطروحة، مع اكتساب دعم دولي لموقفها وخاصة في أوروبا. والثاني هو محاولة وضع المعارضة الروسية وداعميها الإقليميين في موقف دفاعي. وبعبارة أخرى، تستخدم موسكو الحادث للمضي قدما بسرعة نحو تحقيق أهدافها الرئيسية في سوريا.

ويبدو من الواضح أن هناك قوة دفع جديدة أنشأها التدخل الروسي في سوريا وتصاعد القدرات العسكرية الروسية في البلاد. ويتجلى هذا الزخم في كل من الوضع العسكري على الأرض والحملة الدبلوماسية لتوسيع مجموعة القوى العالمية المستعدة لدعم جهود موسكو في سوريا أو على الأقل الذهاب معها نحو محاربة «الدولة الإسلامية». المملكة المتحدة انضمت لتوها للتحالف ما يعد خطوة إيجابية في تحركات الغرب لمواجهة الخطط الاستراتيجية الروسية في سوريا.

من الصعب أن نحدد حقا إلى أين يمكن أن يذهب كل ذلك. اختزال الأزمة السورية إلى مجرد هزيمة «الدولة الإسلامية» أو حتى هزيمة المعارضة سوى «الدولة الإسلامية» هو خطأ كبير لسبب واحد: عندما بدأت هذه الأزمة، لم تكن «الدولة الإسلامية» موجودة في سوريا، في الواقع لم تكن هناك أي معارضة مسلحة على الإطلاق.

وفي الوقت نفسه، فإن الجهود المبذولة لتشكيل تجمع موحد يمثل المعارضة سوى «الدولة الإسلامية» تتسارع بشكل ملحوظ. وتشارك قطر والمملكة العربية السعودية ومبعوث الأمم المتحدة «ستيفان دي مستورا» في محادثات مكثفة بشأن تشكيل الوفد. تنتظر المملكة العربية السعودية نتائج هذه المحادثات من أجل الدعوة لعقد مؤتمر في الرياض لممثلي المعارضة الذين وقع الاختيار عليهم. ومن الواضح أن كل بلد على استعداد لتضمين أقرب الجماعات إلى سياساته. في أي حال، فإن المعارضة تجمع تقريبا على إبعاد أي قوات أجنبية لاسيما إيران والميليشيات الحليفة لها.

وأيا كان الوفد تشكيل الوفد الذي سيخرج، فإنه سوف يؤدي إلى تأجيج التوتر القائم بالفعل بين جماعات المعارضة التي تحارب بعضها البعض دون أسباب مفهومة. وقال وزير الخارجية السعودي أن بلاده تصر على تمثيل متوازن لجميع الأقليات السورية في أي وفد موحد للمعارضة.

ومن المرجح أنه سوف تتم إضافة ممثلي الأقليات إلى الوفد. ولكن من أجل ضمان أن هذه ليست مجرد إضافة ديكورية، فإن جميع الجماعات الفاعلة على الأرض يجب أن تلتزم باحترام حقوق جميع المدنيين بما في ذلك الأقليات. كما ينبغي توفير مراقبين من المجتمع المدني ومجموعات النشطاء بهدف إطلاع الرأي العام العالمي حول أي انتهاكات تمس هذا الالتزام.

على الصعيد العالمي، فقد أدرك الدبلوماسيون، بشكل صحيح في الواقع، أن جهودهم ينبغي أن تتركز على وقف إطلاق النار المقترح. إلى تلك الدرجة التي يتم النظر عبرها إلى الحكومة الانتقالية على أنها أداة لتنفيذ وقف إطلاق النار المقترح. بعد، فإن الحكومة الانتقالية سوف تتولى تحديد نبرة ما سوف يحدث في اليوم التالي. على تركيا أن تكون شريكا في كل خطوة على هذا الطريق من أجل تجنب المزيد من الحوادث «روسيا جيت» وتنسيق التحركات في شمال سوريا. يتعين أخد المصالح التركية بالاعتبار في أي خطط مستقبلية.

أي اختراق محتمل لما أسميناه سلفا اتفاق طائف سوريا، (استعارة لاسم اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان)، فإنه سوف يكون اختبارا جديا لما تم إنجازه. قد يكون من المفيد للتحرك فورا، صبيحة اليوم التالي لتوقيع الاتفاق من أجل ضمان شروط استمراره. خريطة الطريق للخطوات المطلوبة بعد الاتفاق ينبغي أن تكون بنفس أهمية الصفقة نفسها.

على أي حال فإنه من الواضح أن قمة باريس للمناخ خلقت الزخم الإيجابي لعبور الأزمة التركية الروسية وأعطت مهلة للعملية الدبلوماسية. هذه العملية تشبه السير على حبل مشدود. يجب أن تستمر المشاركة العالمية في هذه اللحظة الحرجة لجلب الحرب الأهلية في سوريا إلى نهايتها.

إن التوصل إلى وقف إطلاق النار في سوريا هو أمر صعب جدا ولكن الحفاظ عليه هو أمر أكثر صعوبة. الناس على الأرض هو وحدهم القادرين على هزيمة الدولة الإسلامية. هؤلاء الناس على الأرض يجب أن يكون لديهم الأمل في غد أفضل. لن يأتي هذا الأمل بينما «الأسد» لا يزال في رأس السلطة، وهم يعرفون أنه لا يرحم كما «الدولة الإسلامية». كيف يمكن أن تقنع الناس بمحاربة الإرهاب كي يعيشوا في ظل الإرهاب؟

ومع ذلك، وقف إطلاق النار في سوريا لا يزال ممكنا. وعلى المجتمع الدولي أن يظل مشتركا وأن يركز الضوء على بلوغ هذا الهدف. ومن ثم تأتي المحاربة الجماعية لتنظيم «الدولة الإسلامية».

سمير التقي وعصام عزيز – ميدل إيست بريفينج

 

 

 

 

بوتين يهدف لإيذاء تركيا .. لكنه لا يستطع فعل الكثير

يشعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغضب شديد من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدرجة أنه رفض الحديث معه على الهاتف أو لقاءه في محادثات المناخ المقامة تحت رعاية الأمم المتحدة في باريس. لكن بوتين عاجز عن فعل الكثير لإيذاء أردوغان أو بلده. فلا يسعه إلا أن يصعب الحياة أكثر قليلاً على الروس.

طالب بوتين تركيا بتقديم اعتذار وتعويضات عن إسقاط الطائرة الروسية التي ضلت الطريق إلى داخل مجالها الجوي. كما يريد أردوغان من روسيا الاعتذار. أدت الحرب الكلامية، التي اشتعلت عبر وسائل الإعلام، إلى ظهور مشاعر دفينة معادية لتركيا من قبل وسائل الدعاية التابعة للكرملين. فقد أصبح من الصعب على الأتراك زيارة روسيا أو إدخال البضائع هناك. إلا أن روسيا لم تفعل الكثير لفرض عقوبات اقتصادية محددة أو شن عمل عسكري، مما يجعل رد فعل بوتين العاطفي يبدو صبيانيًا وغير مدروس.

بعد سقوط الطائرة الحربية مباشرة، تعهدت روسيا بأن ترافق قاذفاتها التي تؤدي مهمات في سوريا دائمًا من قبل طائرات مقاتلة، وقامت بنشر منظومة صواريخ S-400 المضادة للطائرات في قاعدتها الجوية في سوريا.

تقول وسائل الإعلام الروسية إن وجود الدفاعات الجوية منع قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من إجراء ضربات جوية في سوريا. وقد نفى التحالف هذا الادعاء، وحتى لو كان صحيحًا، فإن المستفيد الوحيد هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي وصفته روسيا بالعدو رقم 1 لها في سوريا.

لا شيء من هذا يؤثر كثيرًا على تركيا، لأنها لم تشن ضربات جوية. وهناك أيضًا خطر محتمل بأن المزيد من الطائرات الروسية قد تحلق في المجال الجوي التركي أو أن تركيا قد تسقط طائرات أخرى: لا يريد أي من البلدين الدخول في حرب، وهذا رادع أفضل من منظومة صواريخ S-400.

يستعر الغضب لدى آلة الدعاية الداخلية الروسية.

اتهم ديمتري كيسليوف، مقدم برنامج فيستي نيديلي الأسبوعي، برنامج الأخبار الأكثر شعبية في التلفزيون الحكومي، أردوغان بمجموعة من الشرور، بدءًا من شراء النفط من الدولة الإسلامية إلى محاولة استعادة الإمبراطورية العثمانية.

وطالب المشرع القومي المتطرف فلاديمير جيرينوفسكي بقتل 100 طيار تركي انتقاما للطيار الروسي الذي توفي بعد إنقاذه من الطائرة. تمتلئ موجات الأثير الروسية مع وعود بأنه لن يتم نسيان الإهانة التركية أو غفرانها.

وقعت أيضًا العشرات من حوادث منع المواطنين الأتراك من دخول روسيا على الرغم من نظام التأشيرة الحرة بين البلدين، والبضائع التركية التي أعلن أنها غير صالحة للبيع في روسيا لأسباب “صحية”.

في موسكو، ألقى عدة مئات من الأشخاص البيض والحجارة على نوافذ السفارة التركية دون أن تتحرك الشرطة لمنعهم. وفي أوليانوفسك، أنزل السكان المحليون العلم التركي في مصنع الجعة المحلية، التي تملكه أناضول أفس، وهي شركة يوجد مقرها في اسطنبول.

بالإضافة إلى ذلك، في يوم 28 نوفمبر، أمر بوتين بإعادة تطبيق نظام التأشيرات على الأتراك بدءًا من يناير المقبل وتشديد القوانين على الشاحنات والسفن التركية. كما منع أيضًا توظيف العمال الأتراك بدءًا من العام المقبل، وطلب من الحكومة تطوير حزمة عقوبات اقتصادية.

في يوم الإثنين، ناقش كبار المسؤولين الحكوميين الروس أفكارًا لمعاقبة تركيا، واقترحوا فرض حظر على توجيه الرحلات السياحية ورحلات الطيران، وفرض قيود على حركة الشاحنات وحظر استيراد الفواكه والخضراوات. هذا الإجراء الأخير لن تظهر فعاليته على الفور. وقال نائب رئيس الوزراء أركادي دفوركوفيتش إن أي تدابير يجب ألا تؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

أدى الحصار الغذائي الروسي ضد معظم الدول الغربية، الذي فرضته في الصيف الماضي، إلى ارتفاع في مستوى الأسعار تراوح بين 20 الى 30 في المئة. كما شهدت روسيا انخفاضًا بلغ 11.7 في المئة في مبيعات التجزئة في أكتوبر، مقارنة مع العام السابق.

سيسبب حظر استيراد الفواكه والخضراوات وتعطيل السياحة الأذى لكلا الجانبين، ولكنه يمكن أن يضر الروس العاديين أكثر. بلغت صادرات تركيا الزراعية لروسيا 1.2 مليار دولار في العام الماضي، حوالي 7 في المئة من إجمالي الصادرات الغذائية. وعلى الأرجح سيغلق المزارعون الأتراك الفجوة دون الكثير من المتاعب. في العام الماضي، شهد نظراؤهم في أوروبا زيادة في الصادرات على الرغم من الحظر الروسي.

بالنسبة لروسيا، ستكون المشاكل أكبر: فحوالي 20 في المئة من واردات الخضراوات تأتي من تركيا، كما هو الحال لنحو 90 في المئة من الحمضيات التي تباع في سلاسل التجزئة الكبرى.

وكانت تركيا إلى حد بعيد أكبر مقصد سياحي للروس العام الماضي، حيث جذبت 3.3 مليون زائر، أي ما يقرب من 19 في المئة من السياح الروس الذين سافروا إلى الخارج. وحققت المنتجعات التركية المليارات من الدولارات، ولكن فقدان هؤلاء السياح لن يكون مسألة حياة أو موت بالنسبة لهذه الصناعة. فوفقا لوزارة الثقافة والسياحة، في يوليو الماضي، أي في ذروة الموسم السياحي، استقبلت تركيا 686256 سائحًا روسيًا وحوالي 3.1 مليون من أوروبا.

أدى انخفاض قيمة الروبل إلى جعل العطلات الأوروبية باهظة الثمن جدًا بالنسبة لمعظم الروس. مصر، وهي ثاني أكثر المقاصد شعبية بالنسبة للروس العام الماضي، جرى حظر السفر إليها منذ إسقاط طائرة ركاب الشهر الماضي.

كان بوسع بوتين إيذاء أردوغان أكثر من ذلك بكثير عبر قطع تدفق الغاز الطبيعي الروسي، تعتمد تركيا بنسبة 60 في المئة على الغاز الروسي، أو إلغاء مشروع بناء أول محطة نووية في تركيا من قبل روساتوم المملوكة للدولة الروسية.

وكان موردو الطاقة في روسيا سيفقدون سوقا مربحة، وستخسر عملاقة الغاز الطبيعي غازبروم موطئ قدمها في جنوب أوروبا أيضًا لصالح موردين مثل أذربيجان وإيران.

تضخ أذربيجان بالفعل الغاز إلى تركيا، وستكون سعيدة لتزويدها بالمزيد. وبدلاً من المخاطرة بذلك، تفرض الحكومة الروسية تكاليف جديدة على مواطنيها، على أمل أن تعوضهم بالدعاية التحريضية.

وعلى الرغم من كفاءة التكتيك سابقًا، فإنه من الصعب الحفاظ على تلك الفعالية نظرا للعدد الكبير من الأعداء الذين كسبهم بوتين خلال فترته الرئاسية الثالثة. وبينما تشتبك روسيا مع عدد متزايد من جيرانها ويضيق العالم من حولها، فقد يدرك الروس في النهاية أن بوتين ربما يكون هو المشكلة وليس الحل.

إلا أن خطاب بوتين الغاضب يجد الدعم في الداخل حاليًا ويغذي المزاج الحاقد المماثل في تركيا، مما يجعل سفن الشحن الروسية تنتظر لساعات قبل السماح لها بالمرور عبر مضيق البوسفور.

أردوغان ماهر مثل بوتين في استخدام التهديدات الخارجية لصرف انتباه المواطنين عنه، لكنه ليس لديه العديد من الخصوم. لذا فمن المرجح أن يستفيد من هذه الأزمة أكثر من بوتين.

وكالة بلومبرغ – ترجمة ساسة بوست

 

 

 

ما الذي خسرته تركيا جراء العقوبات الاقتصادية الروسية عليها؟/ علاء الدين السيد

لم يستطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى إحدى مقاتلاته تسقط على الحدود السورية التركية؛ نتيجة صواريخ مقاتلات إف ـ16   التركية يوم 24 نوفمبر 2015 ، وبغض النظر عن ملابسات الحادث نفسه، فإن الوقائع على الأرض حالياً تشير إلى حرب سياسية عالية المستوى بين الجارتين، تغذيها مصالح وتكتلات، وأغراض كبيرة.

كان من الصعب على الرئيس الروسي أن يقوم بتصعيد عسكري تجاه أنقرة؛ لأن الأمر يعني ببساطة حرب مفتوحة بين الطرفين، قد تصل إلى صراع إقليمي، أو حتى عالمي مفتوح.

الرئيس الروسي أعلن مجموعة من العقوبات الاقتصادية على تركيا، فما هي هذه العقوبات؟ وما هي الخسائر المتوقعة نتيجة لها؟

(1) قطاع السياحة

في اليوم التالي للحادثة، نصحت موسكو، على لسان وزير خارجيتها، مواطنيها بعدم الذهاب إلى تركيا للسياحة، أو لأي غرض آخر، باعتبار أن “مستوى الخطر الإرهابي فيها متنام، ولم يعد يقل عن الخطر الإرهابي في مصر”.

بدأت شركات السياحة الروسية توقف رحلاتها بالفعل، ليأتي اليوم التالي بطلب جديد من وزارة الخارجية الروسية؛ يطالب المواطنين الروس الموجودين في تركيا بالعودة إلى روسيا، والتخلي عن زيارة تركيا.

انعكس الأمر سلبا على السياحة التي تعد أحد أعمدة الاقتصاد التركي، وهو ما عبر عنه رئيس اتحاد أصحاب الفنادق التركية، عثمان آيك، في تصريحاته لصحيفة  “حريت”  التركية قائلاً:  “هذا ليس جيداً، نحن لا يمكننا أن نخسر سوق السياحة الروسي، والذي يمثل ثاني أكبر مصدر للقطاع السياحي التركي”.

آيك أشار إلى أن قطاع السياحة في تركيا خسر بالفعل 800 ألف سائح روسي عام 2015 بالمقارنة بعام 2014 نتيجة المشاكل الاقتصادية التي شهدتها تركيا، وما صاحبها من انتخابات برلمانية تسببت في هزة سياسية واقتصادية على مدار 5 أشهر، الفنادق التركية كانت قد اضطرت بالفعل إلى تخفيض أسعارها؛ من أجل تعويض الخسائر الناتجة عن تقلص أعداد السياح، بالإضافة لبعض الامتيازات، لكنها لم تتمكن من سد الفجوة بالفعل.

في الربع الثالث من عام 2015، شهد دخل السياحة التركي تراجعاً بنسبة 4,4 % ليصل إلى 12,29 مليار دولار كان غالبه نتيجة تراجع أعداد السياح الروس، هذا الأمر كان العامل الرئيس في انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار من 2,64 في بداية الربع الثالث من العام إلى 2,89 ريال لكل دولار الآن، في عام 2014 كان إجمالي عدد السياح الروس الذين قاموا بزيارة تركيا 3,3 مليون سائح، انخفض هذا العدد بنسبة 25 % في العام الحالي.

لنأخذ أرقام عام 2014 كمثال، هذا العام بلغ إجمالي الناتج المحلي لتركيا حوالي 800 مليار دولار أمريكي، قطاع السياحة في تركيا يمثل حوالي 12 % من إجمالي الناتج المحلي، أي بقيمة 96 مليار دولار، يساهم السياح الروس بنسبة 14 % من إجمالي أرباح القطاع السياحي، لتكون مساهمة السياح الروس في الاقتصاد التركي حوالي 13,5 مليار دولار أمريكي، أي: تقريبا، 1,68 % من إجمالي الاقتصاد التركي.

باجهاران أولوسوي، رئيس اتحاد وكالات السياحة أعلن أن الإجراءات الروسية “شديدة جداً” ومن المتوقع أن تؤثر بشكل كبير على قطاع السياحة، وتحديداً في مدينة أنطاليا التي يفضها السياح الروس، وتوقع أولوسوي أن تصل خسائر قطاع السياحة التركي نتيجة الإجراءات الروسية إلى 3,5 مليار دولار أمريكي، خلال الفترة المتبقية من عام2015 م.

الأمر هنا لا يعتمد فقط على السياح الروس: فحالة من التوتر السياسي ، وربما العسكري مع روسيا يجعل الكثير من السياح حول العالم يبدؤون في مراجعة أنفسهم، قبل التفكير في قضاء عطلاتهم في تركيا، طبقاً لأحدث البيانات فإن هناك نقص واضح في إجمالي عدد السياح القادمين إلى روسيا في العشرة الأشهر الأولى من عام 2015 مقارنةً بنفس الفترة عن عام 2014 بمقدار حوالي 1,4 % طبقاً لوزارة السياحة التركية، هذا الأمر مرده بالطبعة لحالة التوتر السياسي الداخلي التي شهدتها البلاد خلال هذا العام، خصوصا قبل الانتخابات.

تقليل خسائر السياحة

بعض التوقعات تشير إلى إمكانية تلافي جزء كبير من الخسائر المتوقعة؛ نتيجة توقف السياح الروس عن القدوم إلى تركيا، هذا الأمر عبر عنه فكري أوزتروك: مالك مجموعة أوزتروك السياحية، والذي قلل من تأثير العقوبات الاقتصادية الروسية في مجال السياحة على الاقتصاد التركي.

أوزتروك أشار إلى أن غالبية السياح الروس يأتون لتركيا خلال فصل الصيف، وأن الروس المتواجدين حالياً في تركيا أعدادهم قليلة جداً، هذا الأمر يعنى أن لتركيا مهلة حتى بداية الصيف القادم؛ لاتخاذ إجراءات تنشيطية ملائمة يمكن أن تحد من الخسائر المتوقعة، وتقوم بجذب سياح جدد من دول العالم.

(2) الصادرات

من بين العقوبات الاقتصادية التي فرضتها موسكو على أنقرة، كانت وقف استيراد الفواكه والخضروات، وذلك عبر إعلان رسمي وقعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 28 نوفمبر الماضي، وكانت تركيا هي أكبر مستفيد من العقوبات التي وقعها الاتحاد الأوروبي العام الماضي على روسيا في أعقاب أزمة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وبالتالي فإن تركيا ستخسر وبشدة الفرص التجارية والاستثمارية في روسيا.

في أعقاب العقوبات الأوروبية على القرم، كان منتجو ومصدرو الفواكه والخضروات الأتراك هم الأكثر استفادة، لنشهد ارتفاعاً كبيراً في حجم الصادرات التركية إلى روسيا منذ عام2014 ، أيضاً فقد قامت تركيا باستثمارات داخل روسيا، قدرت بحوالي 1,3 مليار دولار، كما قامت باستثمار 120 مليون دولار في الربع الأول من عام 2015 م.

هذا الأمر جعل روسيا هي ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا بعد ألمانيا، وفي المقابل فإن تركيا ليست عاملا مؤثر بقوة في حجم التبادل التجاري الخاص بروسيا، فتركيا تمثل حوالي 4 % فقط من إجمالي حجم التبادل التجاري لروسيا، وتحتل بهذا المركز التاسع بالنسبة للشركاء التجاريين لروسيا.

وطبقاً لما ذكرته وكالة “سبوتنيك” الروسية، فإنه إذا ما قررت روسيا تطبيق العقوبات الاقتصادية على تركيا بحدها الأقصى الكامل فإن خسائر تركيا ستبلغ ما بين 2,5 – 3 مليار دولار، وهو ما يساوي 1 % من إجمالي الدخل القومي لتركيا.

(3) الفواكه والخضروات

ونتيجة للتوتر الكبير في العلاقات بين تركيا وروسيا، فيبدو أن مزارعي الفواكه والخضروات سيدفعون ثمناً باهظاً نتيجة لذلك، الأرقام تشير إلى أن 20 % من الخضروات الروسية تأتي من تركيا، وأن 4 % من إجمالي جميع المواد الغذائية والخضروات والفواكه الروسية تأتي من تركيا في العشرة أشهر الأولى لعام  2015، بلغ إجمالي قيمة ما أرسلته تركيا من مواد غذائية ونباتية إلى روسيا حوالي مليار دولار.

على الجانب الآخر فإن 42 % من إجمالي ما تنتجه تركيا من مواد غذائية يذهب إلى روسيا، وبالتالي فإن توقف الصادرات الغذائية التركية لروسيا سيمثل ضربة قاصمة للمنتجين الأتراك، وعلى رأسهم المزارعين، هؤلاء المزارعون سيضطرون إلى بيع منتجاتهم الزراعية إلى موردين محليين بأسعار تقل عن أسعار تصدير نفس المنتجات إلى روسيا، مما سيترتب عليه خسائر للمزارعين بشكل ملحوظ.

المزارعون بدءوا يشعرون بالفعل بتأثير العقوبات الاقتصادية الروسية، فالمزارعون في منطقة “إيجه”  التركية أشاروا إلى أن سعر الكيلوغرام من الطماطم هبط من 2 ليرة إلى 1,5 ليرة، مما أثر بالسلب على المنتج، لكنه لم ينعكس إيجاباً على المستهلك، بسبب ارتفاع أسعار النقل، كما أن الموردين والتجار الوسطاء لن يقوموا بتقليص سعر المنتج النهائي؛ لأنهم يريدون الاستفادة من فارق الأسعار لزيادة أرباحهم.

كارالي تاريم، وهو أحد المصدرين لروسيا، صرح لأحد المواقع التركية بأن 30 شاحنة لشركته تم إيقافها عن الذهاب لروسيا، وهو ما يعني خسائر لشركته تقدر بحوالي مليون ليرة تركية، أيضاً فإن بعض المصدرين اضطروا لوضع عدد من موظفيهم في إجازة غير مدفوعة الأجر في محاولة لتعويض جزء من الخسائر؛ نتيجة توقف المبيعات إلى روسيا.

إحدى شركات التصدير التركية تقول: إنها اضطرت لإبقاء عدد من العمال في منازلهم؛ نتيجة إغلاق السوق الرئيس للشركة، والمتمثل في روسيا، حيث تقوم الشركة بإرسال حوالي 100 شاحنة مليئة بالخضروات والفواكه إلى روسيا كل أسبوع.

من الممكن أن تحاول تركيا أن تقوم بمحاولة زيادة مبيعاتها إلى دول الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط، لكن مع هذا، فلو قررت روسيا رفع العقوبات لحدها الأقصى، فلن يكون من السهل على تركيا أن تبيع جميع بضائعها المتراكمة.

(4) البورصة والليرة التركية

موقع “تودايز زمان” التركي أشار يوم الاثنين الماضي إلى تأثير العقوبات الاقتصادية الروسية على البورصة التركية، فقد أنهت الأسهم الناشئة في البورصة تعاملات شهر نوفمبر على خسائر؛ نتيجة إغلاق المؤشر يوم الاثنين على انخفاض بنسبة  3% خلال الشهر.

العملة التركية تأثرت بشكل واضح بموضوع إسقاط الطائرة التركية، وما ترتب عليه من قرارات روسية عقابية، يوم 23 نوفمبر، اليوم السابق لحادث الطائرة بلغ الدولار الأمريكي 2,85 ليرة تركية، يوم 28 نوفمبر أغلقت تعاملات نهاية الأسبوع على سعر 2,92  ليرة مقابل الدولار الأمريكي.

الليرة التركية لم تتعاف حتى الآن من آثار الانتخابات التركية في 7 يونيو 2015 والتي تسببت في عدم قدرة حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة منفرداً كما اعتاد منذ وصوله للسلطة بداية القرن الحادي والعشرين، ففي الفترة التالية مباشرة بعد الانتخابات كان سعر الدولار في حدود 2,65 ليرة، أخذت الليرة تنخفض تدريجياً أمام الدولار؛ نتيجة الفشل السياسي للأحزاب في تشكيل الحكومة، وسط مخاوف من تزعزع اقتصاد البلد وانكماش عمليات الاستثمار الأجنبي.

ومع فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية المطلقة يوم 1 نوفمبر الماضي، بدأت الليرة التركية تتعافى تدريجياً، ليتأتي حادثة الطائرة وما تبعها من قرارات لتسبب حالة جديدة من انخفاض الليرة، وسط مخاوف اقتصادية.

(4)  وروسيا ستتأذى أيضًا

وقف عمليات تصدير الفواكه والخضروات من تركيا إلى روسيا سيعود بالسلب على المستهلك الروسي بشكل واضح، فنتيجة لذلك سيزداد الطلب في روسيا على هذه المنتجات، وسيقل المعروض، مما يؤدي إلى حالة من التضخم، لاحظ أن مستوى التضخم في روسيا مرتفع بالفعل، إذ يبلغ  15,6% طبقاً لبيانات شهر أكتوبر الماضي، هذا الأمر سيؤدي بالتبعية إلى زيادة ارتفاع الأسعار المرتفعة أساساً، مما سيثقل كاهل المواطن الروسي.

لا ننسى أن الاقتصاد الروسي يعاني بشدة نتيجة أمرين:

الأول: هو العقوبات الاقتصادية الأوروبية منذ عام 2014 نتيجة أزمة شبه جزيرة القرم.

الأمر الثاني :وهو الأهم، والأكثر تأثيراً، يتمثل في تراجع أسعار النفط بشدة في الشهور الماضية، فعائدات النفط تمثل  45% من ميزانية روسيا، وكانت خطط الإنفاق الحكومي لعام 2015 تفترض أن أسعار النفط ستبقى في حدود 100 دولار للبرميل، تخيل أن سعر برميل النفط وصل حالياً إلى أقل من 42 دولارا للبرميل، هذا الأمر جعل روسيا، إما أن تسحب قرابة 70 مليار دولار من احتياطيها للنقد الأجنبي، أو أن تعمل على ترشيد الإنفاق بشدة.

وماذا لو قررت تركيا أن تعامل روسيا بالمثل، وأن توقف استيراد السلع منها، روسيا تصدر سلعاً لتركيا بقيمة 24,5 مليار دولارا، بينما تستورد روسيا من تركيا سلعاً بقيمة 6,7 مليار دولار، معنى هذا أن روسيا ستخسر كثيراً هي الأخرى.

 

 

 

الأزمة التركية الروسية بين مرارات التاريخ وضرورات الجغرافيا/ وضاح خنفر

أردوغان وبوتين قارئان للتاريخ، ولدى كل منهما قناعات تاريخية مستقرة، ظهر ذلك في خطابات الرئيسين وحملاتهما الانتخابية. ولكن ينبغي الحذر من اعتبار التاريخ على أنه المحرك الرئيس للعلاقات بين الدول، ولا سيما الدول ذات المصالح المتشكلة والجغرافيا المستقرة، وفي حالة تركيا وروسيا فلكل من الدولتين ما يجعل العلاقات بينهما محكومة بضرورات الجغرافيا لا مرارات التاريخ.

في السياسة يعتبر استحضار التاريخ أمرا مألوفا، فالرئيس الروسي في حملته عام ٢٠١٢ تحدث عن (روسيا الجديدة) وهو المصطلح الذي أطلقه القيصر الأكثر شهرة في التاريخ الروسي بيتر الأكبر على الأراضي التي ضمها بالقوة لدولته مطلع القرن الثامن عشر، وبذلك حول روسيا إلى إمبراطورية وأطلق على نفسه لقب الإمبراطور بيتر الأكبر.

أما على الجانب التركي، فقد كان البعد التاريخي واضحا في حملة الرئيس التركي وفي خطاباته المتتالية التي تعيد ربط الدولة التركية الحديثة بماضيها السلجوقي والعثماني بعد قطيعة رسمية تاريخية استمرت تسعة عقود.

في كلتا الحالتين فإن استخدام التاريخ يأتي لاعتبارات محلية، تنبع من أن الدولتين تعيشان حالة انتقال في مسارهما السياسي والاجتماعي، بوتين يحاول بناء ما يسميه بروسيا الجديدة، ويحاول حزب العدالة والتنمية التركي بناء ما يسميه (تركيا الجديدة)، ولكن مع فارق جوهري، فروسيا بوتين في الحقيقة ليست جديدة، بل هي روسيا التي تحن إلى الماضي، إذ لا تزال أحلام موسكو التي تتربع على عرش الاتحاد السوفياتي تراود عميل الكي جي بي السابق، الذي اعتبر مرات كثيرة أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة سياسية في القرن العشرين، ولم ينس بوتين حجم الإهانة التي لحقت بروسيا بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي لا سيما في عهد سلفه بوريس يلتسين: انهيار اقتصادي، انفلات أمني، تمرد أقليات وضياع هيبة، وفي محاولات حثيثة يحاول بوتين استعادة بعض هذه الهيبة، كان ذلك واضحا عندما اجتاحت القوات الروسية شمال جورجيا عام ٢٠٠٨، وهو أوضح عندما ضم بوتين القرم وتدخل في شرق أوكرانيا، معتمدا على قانون يلزم الكرملين بحماية الأقليات الروسية أينما وجدت، وهو بالمناسبة ما فعله بيتر الأكبر الذي احتل أوكرانيا وأخضعها للدولة الروسية وتسمى بإمبراطور جميع الروس.

تركيا الجديدة بالمقابل لا تتطلع إلى بناء أمجاد الماضي العثماني، فالدولة التركية مهتمة بمحيطها الحضاري لا للهيمنة عليه عسكريا، بل تحاول التواصل مع تاريخ مشترك كقوة دافعة نحو المستقبل، بعد قطيعة عانى منها المشرق عقودا طويلة، تطورت فيه صورٌ سلبية موروثة بين العرب والترك.

نعود الآن إلى الأزمة الأخيرة بين روسيا وتركيا، ونحاول أن نفهم مدى تأثير التاريخ على تصرف الدولتين، وفيما إذا كان ميل كل من بوتين وأردوغان لاستحضار التاريخ عاملا حاسما في إدارة الأزمة.

بوتين الذي يحتفظ برسم في مكتبه لبيتر الأكبر قد استخدم التاريخ في السنوات الماضية لمنح نظامه شرعية قومية عابرة للزمن، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأيديولوجيته الشيوعية، فهم بوتين أن تاريخ روسيا القيصرية سيكون مصدرا فعالا لبناء شرعية جديدة، وتأكيداً لتميز روسيا وتفردها التاريخي، وذريعة لمحاربة الإصلاحات السياسية والحريات العامة على اعتبار أنها محاولات غربية دخيلة على المجتمع الروسي، تهدف إلى إضعافه واستلاب هويته.

وإلى جانب التوظيف السياسي للتاريخ، فإن بوتين معجب بشخصية بيتر الأكبر، وكثير الاستحضار لها، كما أنه وضع باقة من الزهور على نصب بيتر الأكبر التاريخي في عيد البحرية الروسية في يوليو الماضي، على اعتبار أن بيتر الأكبر كان أول من بنى أسطولا بحريا فعالا لروسيا في البحر الأسود، وَمِمَّا لا شك فيه أن بوتين اضطلع على وصية الإمبراطور بيتر الأكبر التي أوصى فيها أتباعه بالمحاولة المستمرة والدؤوبة للسيطرة على (القسطنطينية ) وعلى المضي في الفتوحات حتى مياه الخليج وشواطئ الهند، معتبرا أن من يسيطر على القسطنطينية يسيطر على العالم..

توصل بيتر الأكبر إلى هذه النتيجة بعد تجربة مريرة وحروب متتالية مع الدولة العثمانية، تحالف خلالها مع الدولة الصفوية ووجه جهوده كلها باتجاه عدوهما العثماني المشترك.

لكن لماذا اعتبر الإمبراطور الروسي الذي جلس على عرش روسيا أكثر من أربعين عاما (١٦٨٢- ١٧٢٥) أن من يسيطر على القسطنطينية يسيطر على العالم؟ هل كان ذلك بسبب التاريخ، على اعتبار الشعور العميق بالمرارة بسبب سقوط (القسطنطينية) عاصمة الأرثوذوكسية في يد المسلمين منتصف القرن الخامس عشر، وهو ما رسخ في العقل الروسي حينها مبدأ (الرسالة الاستثنائية للأمة الروسية) باعتبارها وارثة الراية المسيحية الصحيحة في وجه الغاصبين المسلمين في القسطنطينية والزنادقة الكاثوليك في روما؟

لا أظن ذلك، فبيتر الأكبر كان مشهورا باستخفافه بالكنيسة وهو الذي صادر استقلاليتها وألحقها بالبلاط القيصري، لتصبح دمية في يده، بعدما كانت مرجعا دينيا عالميا ذا رمزية كبيرة.

على الأرجح أن السبب الكامن وراء وصية بيتر الأكبر في أهمية القسطنطينية لم يكن التاريخ بل الجغرافيا.

عندما يطل بوتين على خارطة بلاده الهائلة يشعر بالفخر، فهو رئيس أكبر دول العالم مساحة على الإطلاق، صحيح أن عدد سكان روسيا الاتحادية يبلغ ١٤٤ مليونا، وهو أقل من نصف عدد سكان الولايات المتحدة البالغ ٣٣٣ مليونا، إلا أن مساحة روسيا تزيد على ستة ونصف مليون ميل مربع، أي ما يعادل ضعف مساحة أمريكا.

وكما منحت الجغرافيا روسيا امتدادا وحضورا هائلا يصل القارتين الأوروبية والآسيوية، إلا أن ذات الجغرافيا هي سبب شعور روسيا بالخطر والتهديد الدائم، وهي التي تفسر كثيرا من تصرفات الدولة الروسية وحروبها وانفعالاتها وطموحاتها.

جغرافية الدولة الأكبر في العالم تعاني من عدة مشاكل، من بينها المساحات الهائلة قاسية البيئة والخالية تقريبا من السكان في الشرق، والحدود الروسية المتباعدة صعبة الحماية والسيطرة، إلا أن مشكلتين جوهريتين تشكلان على الدوام العقدة الروسية الاستراتيجية: انكشافها الاستراتيجي تجاه الغرب بسبب غياب موانع جغرافية طبيعية تصد جيوش الغزاة من أوروبا، والمشكلة الثانية الحلم الروسي القديم بالوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط والمحيط الهندي.

انكشاف الحدود الروسية مع جوارها الأوروبي الغربي كان سببا دائما لكي تتخذ موسكو استراتيجية الهجوم من أجل الدفاع، وهي الاستراتيجية التي طبقها قياصرة روسيا وزعماء الاتحاد السوفييتي وهي ذات الاستراتيجية التي دفعت بوتين للتدخل في جورجيا وأوكرانيا ومنعهما من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو، إذ لا يمكن لروسيا أن تقبل بوجود صواريخ الناتو على مرمى حجر من موسكو.

أما العقدة الثانية فإن معظم موانئ روسيا تطل على المحيط المتجمد الشمالي، ولا تعمل في الشتاء بسبب تجمد مياه المحيط، وحاجة روسيا لموانئ مفتوحة على مياه دافئة ضرورة من ضرورات الأمن القومي الدائم، ولعل هذا ما يفسر الصراع التاريخي الكبير حول شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، ولعل هذا ما يفسر مسارعة بوتين لضم القرم العام الماضي للدولة الروسية، فالقرم تمنح روسيا إطلالة على مياه لا تتجمد في الشتاء، وما إن ضُمت القرم حتى سارع بوتين إلى المباشرة في بناء ثمانين سفينة عسكرية وعددا من الغواصات الحربية في ميناء سيفاستوبول، والهدف هو امتلاك سلاح بحرية متقدم في البحر الأسود.

لكن حلم الوصول إلى المياه الدافئة لا يتحقق تماما بموانئ روسية على البحر الأسود، والسبب مرة أخرى هو الجغرافيا، فالسفن التجارية والعسكرية الروسية لا يمكن أن تخرج من البحر الأسود أو تدخل إليه إلا بعبور مضيق البوسفور التركي، أما عبورها باتجاه البحر المتوسط فينبغي أن يتم عبر مضيق تركي آخر هو الدردنيل.

اتفاقية مونتريه Montreux لعام ١٩٣٦ كفلت حق الملاحة الدولية في المضيقين في حالات السلم، ولكن يبقى المضيقان تحت السيادة التركية وتستطيع -تحت ذريعة تنظيم حركة السفن- تأخير عبور السفن الروسية التجارية إن هي أرادت ذلك، أما في حالات الحرب فإن تحكم تركيا في عبور السفن الحربية يصبح أكبر.

ومن هنا فإن وجود قاعدة عسكرية روسية في طرطوس السورية يصبح مهما من وجهة نظر موسكو، فهو الميناء الوحيد الذي يمكن للسفن العسكرية الروسية استخدامه على البحر المتوسط وخارج كل تلك المضائق والعقد الجغرافية المتعددة.

بالعودة إلى الأزمة التي نشبت بين تركيا وروسيا عقب إسقاط المقاتلة الروسية على الحدود التركية السورية، فإن ضرورات الجغرافيا وتداخل المصالح المشتركة تحول دون انفلات الصراع من عقاله، ولكل أسبابه.

تركيا تعرف أن علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، ولا سيما استيراد ٥٥ بالمئة من حاجتها من الغاز، بالإضافة إلى الجوار المشترك بين تركيا وروسيا في آسيا الوسطى وتداخل المصالح في البحر الأسود كلها عوامل لا تسنح بتصعيد واسع مع روسيا، وهو ما يفسر لغة التهدئة التركية التي أعقبت سقوط الطائرة.

أما على الجانب الروسي، فإن عضوية تركيا في الناتو رادع أساسي، كما أن حاجة روسيا لشراكات استراتيجية مع تركيا مهمة أيضا، لا سيما في مد أنابيب الغاز التي عولت روسيا عليها كثيرا للعبور إلى أوروبا بعد تدهور العلاقات الروسية الأوكرانية، والانفتاح الاقتصادي الروسي على تركيا بعد العقوبات الأوروبية. كل هذه العوامل لن تسمح لروسيا بأن تذهب أبعد مما فعلت اتجاه تركيا، ومن الملاحظ مثلا أن الحكومة الروسية سارعت إلى الإعلان عن أن العقوبات لا تشمل الغاز، الذي سيستمر تدفقه عبر أنبوبين اثنين إلى تركيا، فسلاح الغاز في هذه الحالة سيعد تصعيدا خطيرا سيضر بروسيا مثل ضرره بتركيا وأشد.

بالإضافة إلى أن روسيا لا تود أن تخوض صراعا مفتوحا في ثلاثة اتجاهات في آن واحد، فتدخلها في أوكرانيا مرهق ولم يصل إلى نهاياته بعد، وتدخلها في سوريا مكلف ومشكوك حتى الآن في جدواه، وفتح معركة مع تركيا لن يكون خيارا استراتيجيا مقبولا في الوقت الحاضر.

الخطوات التي أعلنتها موسكو ضد تركيا تأتي في إطار شعور بوتين بإهانة بالغة جراء إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، وبوتين شديد الاهتمام بصورته كرجل قوي، ولقد عبر عن شعوره عندما وصف الحادثة بأنها (طعنة في الظهر) ذلك أنه كان يعول على تركيا في مواجهة الغرب، وقد أعلن عن ذلك بالفعل عندما وصف أردوغان في ديسمبر من العام الماضي بأنه رجل قوي الشخصية، لأنه استخف بالضغوط الغربية، وأعلن عن اتفاقية الطاقة الموقعة بين البلدين) جاء ذلك في أعقاب إحجام تركيا عن المشاركة في العقوبات ضد روسيا، وتوقيعها اتفاقات اقتصادية واسعة مع روسيا.

لكن بوتين أساء فهم تركيا، فعول على المصالح الاقتصادية دون مصالح الأمن القومي التركي، فجاء تدخله العسكري في سوريا من دون مراعاة للعمق الاستراتيجي التركي، وأوغل في إهانة تركيا عندما انقضت مقاتلاته على الثوار السوريين المتحالفين مع تركيا، فكان على تركيا أن ترسل رسالة قوية بإسقاط الطائرة الروسية حال اختراقها للأجواء التركية، رسالة حازمة ولكنها محسوبة.

الأزمة بين الطرفين ستبدأ في الخفوت تدريجيا، وسوف يحاول بوتين من خلال العقوبات الاقتصادية، واللهجة الحادة أن يستعيد شيئا من هيبته، ولكن المصالح المشتركة سوف تدفع قريبا إلى تهدئة، فاعتبارات السياسة تحددها الضرورات لا الانفعالات، وفي حالة تركيا وروسيا فضرورات الجغرافيا ومصالح الاقتصاد مقدمة على مرارات التاريخ وانفعالات الحاضر.

المغامرة الروسية في سوريا لم تكن محسوبة العواقب، وستتعمق ورطة روسيا، ولعل ذكريات التدخل السوفياتي في أفغانستان ستطفو إلى سطح الذاكرة الروسية مع ارتفاع الخسائر البشرية والمادية، إسقاط المقاتلة الروسية رسالة تركية مفادها أن الشرق الذي ظنه بوتين ساحة فراغ استراتيجي مفتوح، هو أعقد مما يظن وأشد خطرا مما يحسب.

هافنغتون بوست

 

 

 

بوتين والشراكة مع “جيش بشار”/ خيرالله خيرالله

لعلّ اغرب تصريح صدر عن الرئيس فلاديمير بوتين، بعد اسقاط تركيا القاذفة الروسية، ذلك الذي يؤكد فيه ان «جيش بشّار الأسد» شريك في الحرب على «داعش». ربّما كان التفسير الوحيد لمثل هذا الكلام، الذي يعكس رغبة في الهرب من الواقع، اصرار الرئيس الروسي في التصعيد مع تركيا في ظل حاجته الداخلية الى ذلك.

ما يمكن ان يدعوه الى مثل هذا التصعيد شعور بالإهانة بعد اسقاط تركيا الطائرة ورفض رجب طيب اردوغان تقديم اعتذار مباشر. اكتفى الرئيس التركي بشبه اعتذار بقوله انّ الجهات التركية لم تكن تعرف ان الطائرة روسية، ولو تعرّفت الى هويتها، لكانت تعاملت معها بطريقة مختلفة.

ستشهد العلاقات التركية ـ الروسية مزيدا من التجاذب في الأسابيع المقبلة. المهمّ ان هناك حقائق لا يمكن تجاهلها، حتّى من جانب شخص مثل فلاديمير بوتين يمتلك بلده ترسانة نووية ضخمة وكميات كبيرة من الصواريخ، بينها ما هو عابر للقارات. هل كميّة الأسلحة التي تمتلكها روسيا تغنيها عن التعامل مع الحقائق؟

يُفترض بالرئيس الروسي ان يستعيد شيئا فشيئا هدوءه، خصوصا انّه يعرف قبل غيره ان النظام السوري سقط وانّ بشّار الأسد صار جزءا من الماضي. الشعب السوري قال كلمته وليس كما يدّعي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي يصرّ على ان مصير الأسد الإبن «يقرّره السوريون».

نعم، هناك حاجة الى «حرب برّية»، على حد قول بوتين، من اجل هزيمة «داعش» واقتلاعه من جذوره. بالطبع، الحرب البرّية ليست كافية. ثمّة حاجة بشكل خاص الى ازالة الحواضن المتوافرة لـ»داعش»، على رأسها النظام السوري.

يمكن الإستعانة بالجيش العربي السوري في الحرب على «داعش»، بعد سقوط النظام السوري وطيّ صفحته نهائيا. سيكون في الإمكان عندئذ التعاطي مع جيش تابع لدولة تحترم نفسها وليس مع جيش في خدمة نظام امتهن الإبتزاز وممارسة الإرهاب منذ اليوم الأوّل لوصول حافظ الأسد الى السلطة واحتكاره لها في العام 1970.

قبل سقوط النظام رسميا وخروج بشّار الأسد من دمشق، لا مجال لمشاركة «جيش الأسد» في ايّ حرب من ايّ نوع كان في ايّ شكل من اشكال الإرهاب.

الأكيد ان رجب طيب اردوغان ليس قدّيسا. ارتكب الرئيس التركي اخطاء كثيرة بسبب سياسته الهوجاء، على الصعيد الإقليمي. هذا عائد اساسا الى انتمائه الى تنظيم الإخوان المسلمين الذي خرجت منه كل التنظيمات الإرهابية والمتطرّفة، بدءا بـ»القاعدة» وصولا الى «داعش». هذا التنظيم هو الأب الروحي للإرهاب والتطرّف. لكنّه لا يمكن في ايّ شكل تجاهل النظام السوري ودوره في استخدام الإرهاب وتوظيفه خدمة لسياسة تصبّ في تكريس سوريا مزرعة للعائلة الحاكمة ولطائفة صغيرة تعتقد ان في استطاعتها التحكّم بمصير البلد وشعبه وحتّى بدول الجوار، على رأسها لبنان.

من مصلحة تركيا وروسيا العودة الى لغة المنطق. يقول المنطق، المستند الى الحقائق، انّ تركيا لم تلعب الدور البناء الذي كان يفترض ان تلعبه منذ اندلاع الثورة السورية، وذلك على الرغم من انّه لا يمكن الإستخفاف بتضحياتها من اجل استيعاب اللاجئين السوريين. فشلت تركيا، لاسباب مختلفة بينها الموقف الاميركي، في اقامة «منطقة آمنة» تسمح بالحد من هجرة السوريين الى اراضيها، ومنها الى دول اوروبا.

في المقابل، راهنت روسيا على النظام السوري وعلى انتصاره على شعبه. خاضت كلّ حروب النظام على الشعب السوري الى جانب ايران وميليشياتها المذهبية. لكنّ روسيا اكتشفت اخيرا انّ بقاء النظام يستدعي تدخّلها العسكري المباشر، وذلك كي يبقى بشّار الأسد في السلطة لبعض الوقت بما يسمح لها بالتفاوض على رأسه.

انّه منطق اللامنطق الروسي. ينمّ منطق اللامنطق الذي يتبعه فلاديمير بوتين عن جهل في طبيعة النظام السوري الذي باع علاقته التاريخية مع موسكو بالجملة والمفرّق كلّما دعت الحاجة الى ذلك. هذا النظام قتل كمال جنبلاط وحارب ياسر عرفات وورّطه في لبنان كي تدفن قضيّته معه وعمل كلّ شيء من اجل ان يصبح الإرهاب تجارة يمارسها بشكل يومي، خصوصا في علاقته مع الدول العربية الأخرى، على رأسها دول الخليج العربي.

اذا كان بوتين لا يريد ان يتذكّر ان اميركا سمحت بدخول الجيش السوري الى لبنان في اواخر 1976، بعد صدور الضوء الأخضر الإسرائيلي، فقد يكون من الأسهل عليه ان يعود الى الماضي القريب. يستطيع مثلا ان يفتح ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن. يستطيع ايضا العودة الى ملفّ مخيّم نهر البارد، اي الى رغبة النظام السوري باقامة «امارة اسلامية» في شمال لبنان في العام 2007، وذلك في سياق المحاولات اليائسة التي بذلها من اجل التغطية على جريمة اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى التي تلتها، بما في ذلك اغتيال مجموعة من الشرفاء اللبنانيين، آخرهم الدكتور محمّد شطح.

من هو شاكر العبسي الذي كان وراء «فتح الإسلام»، وهو تنظيم يشبه «داعش» الى حدّ كبير؟ من اين خرج شاكر العبسي الذي وصل فجأة الى مخيّم نهر البارد؟ الم يكن في السجون السورية قبل هبوطه المفاجئ في المخيم الفلسطيني القريب من طرابلس؟

لا داعي الى فتح عشرات الملفّات التي تربط النظام السوري بكلّ ما له علاقة بالإرهاب وصولا الى تعاطيه المباشر مع «داعش» في سياق حربه على الشعب السوري.

مرّة اخرى، هناك مآخذ كثيرة على رجب طيب اردوغان وسياسته الإخوانية التي تصب في دعم كلّ ما له علاقة بالتطرّف في فلسطين ومصر وليبيا وتونس. لكنّ ما يصعب فهمه تلك العلاقة بين روسيا والنظام السوري الذي لم يكن لـ»داعش» ان ينمو ويتمدّد ويتوسّع لو لم يحصل على موارد من دونه.

يظل الطريق اقصر للقضاء على «داعش» التخلّص من النظام السوري. فبشّار الأسد و»داعش» وجهان لعملة واحدة. كلّ ما تبقى تفاصيل واصرار على الدوران في حلقة مغلقة يستفيد منها بوتين واردوغان في اطار رغبتهما في الظهور كبطلين وطنيين، كلّ منهما في بلده. الروس يبحثون عن بطل، كذلك الاتراك. تبدو المشكلة الرئيسية لدى بوتين في انّه تلقّى صفعة تركية تسيء الى صورته لدى الروس لا اكثر. ربّما هي اكبر مشكلة يواجهها الآن.

الى اشعار آخر، لا رغبة جدّية لدى اي طرف في القضاء نهائيا على «داعش». الخوف كلّ الخوف ان يكون الشعب السوري من يدفع ثمن بطولات وهمية لم تؤد الى اي نتائج على ارض الواقع. لا الروسي قادر على الإنتهاء من «داعش» ولا التركي قادر على اقامة «المنطقة الآمنة». للمرّة الألف: هل من يريد الخلاص من «داعش»؟

المستقبل

 

 

 

 

أزمة الطائرة تفرض قواعد جديدة للحرب بسوريا/ خليل مبروك-إسطنبول

سارعت روسيا من إجراءاتها الانتقامية ردا على إسقاط تركيا إحدى مقاتلاتها الشهر الماضي، وبعد فرض عقوبات اقتصادية وإقرار تعديلات على نظام التأشيرات، لجأت موسكو لتحركات ميدانية في سوريا سعيا منها لتغيير يضر مصالح أنقرة على الأرض.

وبدأت روسيا -عقب إسقاط تركيا لمقاتلتها الحربية- تقديم دعم جوي لمقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، لتمكينه من إحراز تقدم في محافظة حلب شمال سوريا.

ومن شأن تعزيز قوة الحزب المقاتل بين مدينتي جرابلس وأعزاز، أن يقطع الطريق على تركيا لتأسيس المنطقة الآمنة التي ظلت تنادي بها في المكان.

وباشر مسلحو الحزب، عقب الدعم الجوي الروسي، تحركهم في كل من عين العرب (كوباني) شرقي جرابلس، وعفرين غربي أعزاز، من أجل ربط المدينتين المذكورتين وإحكام السيطرة على المنطقة الواصلة بينهما.

ولا ينظر السياسيون والخبراء الأتراك للدعم الروسي للحزب الكردي باعتباره مستجدا على قواعد “لعبة الأمم” الدائرة منذ أكثر من أربع سنوات بسوريا، لكنهم يؤكدون أن موسكو باتت “أكثر تهورا” في الدفع ببيادقها في المنطقة منذ إسقاط المقاتلات التركية قاذفة سوخوي 24 على الحدود مع سوريا يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وقال ياسين أقطاي النائب بالبرلمان التركي، ونائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إن روسيا لم تكن تنظر يوما للحزب الكردي كـ”منظمة إرهابية”. وأشار إلى أن الروس “روجوا للحزب كقوة تحارب تنظيم الدولة قبل إسقاط الطائرة، ويزيدون الآن دعمه كشكل من أشكال الإرهاب أو الانتقام من أنقرة”.

وأوضح أن الحزب الكردي الناشط في سوريا يُعد امتدادا لـ حزب العمال الكردستاني، وأكد أن الحزبين على تعاون وثيق مع نظام بشار الأسد، الأمر الذي يضعهما في ذات الخانة مع تنظيم الدولة، وفق رأيه.

وفي رده على سؤال للجزيرة نت حول الخطوة القادمة، أوضح المسؤول التركي أن أي خطوة ستقدم عليها روسيا ستضر بها أكثر من تركيا، وقال “روسيا لا تريد حربا ونحن لا نريد، ولسنا من أنصار أي تصعيد نحو هذه الأزمة”.

وعبر أقطاي عن قناعته بأن روسيا هي المطالبة الآن بالهدوء، وقال “ليس لدينا الكثير لنفعله مع روسيا التي تعطي انطباعا أنها فقدت عقلها، وينبغي ألا نزيد مشاكلها، بل ننتظر حتى يعود إليها رشدها، فإن زدنا عليها ازدادت سوءا”.

وأشار نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية إلى أن المخرج من الأزمة يبدأ من إدراك الروس أن تركيا لم تقصد إهانتهم، وأنها فعلت الصواب كي لا يتحول مجالها الجوي إلى طريق للطائرات الروسية.

ووفقا لمتابعين فإن نشر صواريخ “أس 400” المضادة للطائرات من قبل روسيا، بالأراضي السورية، يمثل انتقاما من تركيا وفرضا لمنطقة آمنة روسية عجزت أنقرة عن نيل الدعم الدولي سابقا لإقامتها.

وقال الباحث بالشؤون الأمنية بمعهد ستا التركي للدراسات، بيلغهان أوزتورك، إن “الاتحاد الديمقراطي الكردي” متلهف لتلقي المزيد من الدعم الروسي، وأوضح أن ذلك الحزب يمتلك مكتبا رسميا في موسكو ويتمتع بعلاقات دبلوماسية قديمة مع القيادة الروسية.

واعتبر أوزتورك -في حديث للجزيرة نت- أن ما قدمته روسيا من دعم جوي للحزب بالشمال السوري لم يكن مفاجئا، لكنه اعتبر الزخم الإعلامي الذي حظيت به عملية إنزال الأسلحة للحزب مرتبطا بتداعيات إسقاط الطائرة الروسية.

ورأى الخبير التركي أن الرد الذي لا تستطيع روسيا أن تنفذه عسكريا بشكل مباشر ستحاول تنفيذه بكل الوسائل المتاحة، وأهمها دعم الحزب الكردي إضافة لسياسة العقوبات.

وتوقع أوزتورك أن تسعى موسكو لفرض قيود أكثر على الدور التركي في سوريا، والسعي لإضعافه بمستويات أعلى مما كان عليه الحال سابقا.

الجزيرة نت

 

 

 

 

بوتين يحرّض الجيش على أردوغان/ راجح الخوري

يواصل فلاديمير بوتين إلقاء القنابل الدخانية في وجه رجب طيب اردوغان، الذي رد على إتهامه بأن عائلته تستفيد من تجارة النفط على خطوط خلفية مع “داعش” بالقول :

“نحن نتصرف بصبر لا بعاطفة، ولكن حال إثبات حصول أمر كهذا لن أبقى في منصبي، وأقول لبوتين هل تبقى في منصبك في حال ثبوت كذب هذه المزاعم” ؟

ولكن لا السلطان التركي يمكن ان يستقيل ولا القيصر الروسي يمكن ان يتنحى، وهكذا إذا كانت الديوك لا توقف الصياح قبل ان يتبيّن الخيط الابيض من الخيط الاسود، فإن خيوط النفط الأسود الذي ينتجه التنظيم الارهابي لن تتبيّن ولو سطعت الشمس، وخصوصاً الآن بعد التقارير التي تحدثت عن ان نفط “داعش” بات يشكّل سوقاً سوداء تصل شرايينها الى دول اوروبية وان النظام السوري وتجاراً روساً أيضاً منخرطون فيها، وليس من الواضح ما اذا كانت تمر ليلاً عبر الطرق التركية على ما تقول البيانات الروسية.

والمثير ان باراك أوباما يتجاوز كل هذا الضجيج النفطي ليوجه النصائح الى كل من أردوغان وبوتين، داعياً إياهما الى التركيز على العدو المشترك أي تنظيم “الدولة الاسلامية”، وهو ما يدفع المراقب الى التساؤل، ولكن متى ركّزت اميركا فعلاً على هذا التنظيم، خصوصاً انها تقود تحالفاً دولياً من 64 دولة لمحاربته، تم تشكيله قبل 16 شهراً وتحديداً في آب من العام الماضي؟

لا داعي للبحث عن أجوبة فهذه المستنقعات الدموية والرمال الإرهابية المتحركة الممتدة من شرق سوريا الى وسط العراق، ستظل في نظر أوباما تمثل “مصيدة ممتازة” لـ”داعش” وللروس ايضاً، والدليل قوله قبل اسبوعين رداً عن سؤال انه لا يملك استراتيجية في مواجهة الإندفاعات الجيوسياسية التي يمضي بها بوتين من أوكرانيا الى سوريا:

“اذا كانت الاستراتيجيا تعني ان تدمر اقتصادك وان ترسل ابناءك للقتال في سوريا فهذه ليست استراتيجيتي” .

لا يكتفي بوتين بالعقوبات الاقتصادية في حق تركيا وهو ما سيرتد سلباً أيضاً على الاقتصاد الروسي، بعد العقوبات الغربية رداً على اندفاعاته في القرم وأوكرنيا، بل يحاول ان ينفخ في نار الخلاف الذي برز بين اردوغان والجيش التركي فور إسقاط المقاتلة، عندما يعلن أنه تلقى تأكيدات من الجانب التركي أن قرار إسقاط الطائرة لم يتخذه اردوغان بل أشخاص آخرون؟

بوتين يريد الإيحاء الى القيادة العسكرية التركية ان اردوغان مصرّ على تحميلها المسؤولية، على رغم ان الجيش نشر بياناً يقول ان الأوامر جاءت من الحكومة، وإنه أسقط “طائرة مجهولة الهوية” لكن اردوغان إستعجل الاعلان “انها مقاتلة روسية”.

في أي حال، لن يؤدي التصعيد بين الديكين الروسي والتركي إلا الى تسعير القتال بين وكلائهما في سوريا.

النهار

 

 

 

 

 

“الناتو” وروسيا.. وتركيا وسورية/ عبد النور بن عنتر

أصبحت سورية مسرحاً من مسارح الصراع بين الغرب وروسيا، حيث دخل، أخيراً، حلف الناتو على الخط في سياق التوتر بين روسيا وتركيا، عقب إسقاط مقاتلات تركية مقاتلة روسية، ورفض أنقرة أي اعتذار، عكس التقليد السائد في الحوليات الدبلوماسية. وعلى الرغم من أن الأزمة السورية تهم أيضاً القوى المتدخلة، بشكل أو بآخر، فإن سورية أصبحت مطية لمواصلة الصراع الدائر بين روسيا والقوى الغربية و”الناتو”. وسبق أن قلنا إن كل طرف يتحرك في سورية، وعيونه على أوكرانيا، بشكلٍ تنحو فيه الأزمة السورية إلى أن تصبح امتداداً للأزمة الأوكرانية.

في ظل التصعيد بين روسيا وتركيا، بسبب الأزمة السورية، والوعد والوعيد بينهما، أعلنت القوى الغربية و”الناتو” التزامها بأمن تركيا، وإمدادها بمعدات عسكرية جديدة و(إعادة) نشر منظومة صواريخ باتريوت على أراضيها. في إطار هذا الضغط على روسيا، ومحاولة الحد من نفوذها فتح الحلف الأطلسي، مجدداً، قضية التوسيع بإعلانه إعادة فتح ملف انضمام جمهورية الجبل الأسود (استقلت عن صربيا في 2006، وطلبت انضمامها إلى الناتو في 2009، سنة انضمام ألبانيا وكرواتيا إلى الحلف). حيث دعا وزراء خارجة دول “الناتو” في اجتماعهم في بروكسل، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2015، الجبل الأسود إلى الانضمام للحلف، على أن يتم ذلك في غضون 18 شهراً. إنه تحول في العلاقة مع هذه الجمهورية التي قصفها “الناتو” خلال الحملة الأطلسية على صربيا في 1999 لحماية ألبان إقليم كوسوفو الذي انفصل عن الأخيرة، وأصبح دولة مستقلة.

استبق الحلفاء رد الفعل الروسي بالقول إن هذا القرار غير موجه ضد روسيا، وإنما قرار سيادي للجبل الأسود. بالطبع، رأت روسيا التي طالما عارضت توسيع “الناتو” شرقاً في هذه القرار استفزازاً لها. وهذا من باب التصعيد الدبلوماسي، لأنها تعلم أن في توقيت القرار مغازيَ ورسائلَ موجهة إليها، فبالنظر إلى الطبيعة الخلافية لقضية توسيع “الناتو” شرقاً، فمجرد إثارتها، اليوم، يكفي لإحداث توتر في العلاقة الروسية-الغربية. وتعلم القوى الغربية ذلك، لكنها تعمدت توظيف هذه الورقة لإضعاف موقف روسيا وفتح جبهة، دبلوماسية على الأقل، لتشتيت قواها وربما لمقايضةٍ، ولو ظرفية: التهدئة مع تركيا مقابل العدول المؤقت عن قرار ضم الجبل الأسود إلى “الناتو” (وإن كان انضمامه قادماً لا محالة، لأن الحلف ينوي ضم دول البلقان الغربي).

ومن ثم، من الصعب قراءة الدعوة الأطلسية للجبل الأسود، بمعزل عن الصراع الدائر حول

“كل طرف يتحرك في سورية، وعيونه على أوكرانيا، بشكلٍ تنحو فيه الأزمة السورية إلى أن تصبح امتداداً للأزمة الأوكرانية” وفي كل من أوكرانيا وسورية، وعن الأزمة الروسية-التركية الأخيرة. وتلعب روسيا، هي الأخرى، لعبة التهويل بشأن القرار الأطلسي، لكن الواقع أن الجبل الأسود لا يحظى بأهمية إستراتيجية، في توجهاتها الدولية على عكس صربيا، على الرغم من حجم الاستثمارات الروسية فيه، كما أن هذه الجمهورية ليست لها قيمة إستراتيجية بالنسبة لحلف الناتو، إلا أن ضمها ضروري لتوسيعه شرقاً، بداية بالبوسنة، ليكمل “الناتو” بذلك التواصل الجغرافي بين دوله الأعضاء في جنوب شرقي أوروبا. وهنا، يكمن ربما الهدف الإستراتيجي لحلف الناتو، أي ضم دول البلقان الأخرى، لسد الفراغ بين بعض دوله الأعضاء، ولغلق المنطقة تماماً أمام النفوذ الروسي، خصوصاً إن انضمت صربيا إلى الاتحاد الأوروبي، ما سيمهد لانضمامها للحلف الأطلسي.

إذا كان هذا القرار يدل على تضامن واضح مع تركيا، وتصلب في المواقف حيال روسيا وعلى توظيف الأزمة التركية-الروسية مطية للذهاب بمشروع توسيع الحلف في البلقان، فإنه يأتي، أيضاً، في سياق معقد. فمن جهةٍ، تقربت فرنسا كثيراً من روسيا، عقب هجمات باريس، وأصبحت تعترف بروسيا شريكاً في الحرب على داعش، بل وتنادي بائتلاف دولي واحد، ما يعني شرعنة التدخل الروسي في سورية، من منظور غربي (هذا لا يعني طبعاً أن التدخل الغربي فيها شرعي أصلاً). ومن جهة ثانية، هناك دول أعضاء عديدة في “الناتو” ممتعضة من السياسة التركية حيال الأزمة السورية، ومن توظيفها لها، لتصفية حساباتها مع الأكراد (ومن التوجهات التسلطية لحكومة أردوغان). فضلاً عن ذلك، ليس الدعم الأطلسي لتأمين حدود تركيا مع سورية موجهاً بالضرورة ضد روسيا، بل قد يحمل في ثناياه إقراراً غربياً بالاتهامات الروسية لتركيا. وبالتالي، قد يكون التأمين الغربي لهذه الحدود محاولة لمراقبة الحركة على طرفيها (وهو أمر لم تأخذه تركيا محمل الجد، وهذا ما يفسر تنقل الجهاديين الأجانب بسهولة)، ومحاولة أيضاً لعرقلة تنقل هؤلاء الجهاديين، والحد منه، ومن ثم فالتدابير الأمنية والعسكرية الأطلسية التي تبدو، من الوهلة الأولى، موجهة ضد روسيا، تدل، في الواقع، على عدم ثقة في الطرف التركي. حتى وإن كانت نية نشر منظومة صواريخ الباتريوت في الأراضي التركية تشير إلى عكس ذلك.

من الواضح أن القوى الغربية و”الناتو” في حيرة من أمرها. فهي، من جهة، ملزمة بحكم ميثاق الحلف الأطلسي بالتضامن مع تركيا، والدفاع عنها، وهي بحاجة إليها في الحرب على داعش، وفي استقبال اللاجئين للحيلولة دون مجيئهم إلى أوروبا، وفي تسوية الأزمة السورية، ومن جهة أخرى، هي بحاجة إلى روسيا في الحرب على داعش، وفي تسوية الأزمة السورية. وربما تصدق عليها، أحياناً، مقولة “عدو عاقل خير من صديق جاهل”، بالنظر إلى توريط تركيا لها في صراعات مع روسيا، هي في غنى عنها، خصوصاً أن هذه القوى توصلت إلى قناعةٍ، فحواها أن لا حل في سورية بدون إشراك روسيا، وحتى إيران. ويبدو أن تركيا تسيء تقدير الرهانات الإستراتيجية، ذلك أن الصراع بين القوى الغربية وروسيا يتجاوز التوتر التركي-الروسي والأزمة السورية.

العربي الجديد

 

 

 

 

التوتر الروسي ـ التركي: دواعيه وحدوده/ د. نقولا زيدان

تبدو لنا الدعوة الى الهدوء والاتزان والروية في مسألة ضرورية وملحة لدى أي محاولة لمقاربة الأزمة الروسية ـ التركية الراهنة، وهي دون شك لجهة نشوئها وتصاعدها وظهورها على واجهة الأحداث مردها التباين في الموقفين الروسي والتركي بل الخلاف الجدي بشأن الموقف من الأزمة السورية بموضوع الساعة الاقليمي والدولي.

ان احتمالات الصدام بين الطرفين قد تضاعفت الى حد مثير للقلق. ولا ننسى ان نقرأ بتمعن كيف تحولت الساحة السورية الى حقل تجارب للأسلحة الروسية الجديدة والمتطورة وكيف اصبحنا نفاجأ بين الحين والآخر من خلال البلاغات العسكرية الروسية بعمليات اطلاق صواريخ بالستية تطلق من السفن الحربية الروسية من بحر قزوين والمجالين الجوي الايراني والعراقي لتضرب أهدافاً لها في شرق سوريا وشماليها. بل شهدنا مناورات روسية قبالة سواحلنا..

سارع الكرملين الى تنسيق عملياته الجوية مع اسرائيل تجنباً للصدام، كما عمد الى التنسيق مع الاردن في جنوب سوريا. وبالمقابل سارعت واشنطن وهي راس التحالف الجوي الأممي المغير جواً على داعش للتنسيق مع موسكو وذلك للغاية نفسها. فاصبح المجال الجوي السوري مسرحاً عجيباً لعمليات عسكرية حربية لأساطيل جوية متعددة.

يجدر بنا العودة هنا الى الأمس القريب وأن نتذكر جيداً قبل صعود خطر داعش بعض الصدامات الجوية التركية ـ السورية فوق منطقة ادلب واسقاط طائرة تركية من قبل الطيران الحربي السوري الذي قيل عنه يومها انه تم على يد طيارين روس، لأن المساعدات الروسية بالخبراء والمستشارين وبالطيارين على الارجح كانت تتساوق عملياً منذ بداية الأزمة السورية والمواجهات الأولى مع عسكر النظام الأسدي فبدأ تدفق الاسلحة والعتاد الروسي على الاسد سواء كان ذلك مباشرة او عبر طهران. ولا ننسى في مجال استعراضنا السريع للوقائع الميدانية على الحدود السورية الشمالية لاختطاف العميد السوري المنشق هرموش من قلب الاراضي التركية ولا تفجير الشاحنات التركية في المراكز الحدودية المقابلة لسوريا.

لقد طرحت انقرة قبيل وغداة معركة كوباني (عين العرب) مشروع المنطقة الآمنة او العازلة شمال سوريا وقامت بتركيز عدة بطاريات صواريخ المسماة «بالقبة الفولاذية» خاصة في قاعدة انجرليك، لكنها لم تفرج يوماً عن الاسلحة النوعية المرسلة للمعارضة السورية تلك الصواريخ الفعالة القادرة على اسقاط طائرات الميغ 29 السورية والمحمولة على الأكتاف أو تلك القادرة على تدمير الدبابات الاسدية عن بعد. وبصرف النظر عن التأرجح الاميركي في دعم المعارضة والجيش السوري الحر مما له علاقة بمدى مصلحة الأمن القومي الاميركي بإطالة الحرب السورية فان اميركا نفسها لم تبد حماساً قط في رؤية حلب وأدلب تتحولان الى مدينتين تحت اشراف الادارة التركية. لكن واشنطن بالمقابل مالأت انقرة عندما صنفت حزب العمال الكردستاني تنظيماً ارهابياً وسكتت عن الغارات الجوية التركية التي طاولت شمال العراق وصولاً لضواحي اربيل.

ان سياستين متناقضتين تتواجهان الآن في سوريا. فمن جهة السياسة الروسية التي تحظى بتأييد طهران بإحضار آلة الحرب الروسية المتطورة مباشرة الى ارض سوريا، والضربات الموجعة التي تشنها القاذفات الروسية على مواقع داعش والنصرة وسائر فصائل المعارضة والتي تضاعفت وتيرتها بعد تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء مؤخراً. وتنظر انقرة بعين الريبة والقلق لنشاط موسكو المحموم بفتح علاقات متطورة مع الرياض وعمان، وفي آن معاً لوابل المقترحات الروسية في فيينا وجنيف لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية من منظور روسي ما يعني ان الدور المنشود لتركيا في المنطقة العربية اصبح عرضة للاستلاب.

ومن جهة أخرى فان تركيا قد نآءت تحت ثقل مليوني لاجئ سوري وهي التي استضافت المجلس الوطني السوري والائتلاف السوري وما هب ودب من ممثلي فصائل المعارضة السورية بل قدمت الدعم العسكري لجيوب المعارضة المسلحة في حلب وأدلب وحماه. بل ايضا في الاتجاه نفسه قد حاولت انقرة تسويق نفسها انها مدافع عنيد عن القضية الفلسطينية قبيل وبعيد اسطول الحرية المتوجه الى غزة المحاصرة، ولم تتردد انقره في المشاركة الاعلامية للدفاع عن المسجد الأقصى، والصخب الاعلامي العربي المنصب على صدامات الاراضي المحتلة.

ويعزز وتيرة الصدام ويفاقمه توتراً محاولات تركية لم يكتب لها النجاح في التدخل في شؤون القرم بداعي الدفاع عن الاقلية التتارية هناك. فعندما سلمت اميركا بالأمر الواقع في اوكرانيا كان ان التقى بوتين بأوباما في قمة انطاليا عدة مرات. كما ان لتركيا مصالح ورساميل موظفة في روسيا نفسها وسائر دول آسيا الوسطى ذات اللغات والاثنيات والعادات والمذاهب الدينية الوثيقة الارتباط بالجذور التركية، مما لا يروق كثيراً لموسكو التي ما زال لها تأثير كبير في تلك البلدان، فثمة جاليات روسية وأزنة ما زالت حاضرة في كازاخستان وتركستان واوزبكستان وغيرغيزيا وفي شتى الميادين.

فاذا كان بوتين الذي يتهم بأن لديه نوازع قيصرية اي انه يريد استعادة امجاد بطرس الأكبر وكاترين الكبرى (الثانية) وسطوة الاتحاد السوفياتي التليد (من جزر كوريل قبالة فلاديفوستك في الشرق الأقصى الى سيباستبول في القرم) والذي يثير لدى الروس النوازع القومية الشوفينية وهو الذي يفرض نظاماً امنياً صارماً على روسيا الجديدة حيث تضاءلت كثيراً فسحة التعبير الديموقراطي لدى المعارضة، فان اردوغان نفسه ليس بريئاً قط من تلك الميول والنوازع نفسها في سحقه المعارضة الكردية والمعارضة الديموقراطية.

ان ما كتبه منذ ايام احد مستشاري بوتين السابقين في دعوته لتوجيه ضربات وقائية (في جريدة «البرافدا») الى كل من السعودية وقطر وتركيا ليس برأينا سوى بمثابة «فشة خلق» روسية حيال اسقاط طائرة السوخوي الروسية فوق جبال التركمان المحاذية للحدود التركية. لأن الرياض بالذات ترسم سياستها الخارجية بهدوء واتزان وهي على مسافة عقلانية مدروسة بكل من موسكو وأنقرة.

أما الحديث عن حرب عالمية ثالثة بسبب حلف مزعوم بين تلك البلدان فهو اشبه بالهراء السياسي. فلنتحلَ بالعقلانية السياسية والروية والاتزان ولنتذرع بالصبر لنرى في المستقبل المنظور ما ستفضي اليه معركتنا الدائرة في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان، فلا الحرب الروسية ـ التركية ستقع او الحرب العالمية الثالثة المزعومة. وجل ما في الأمر ان توتراً شديداً يشوب العلاقات بين البلدين المتنازعين نتيجة الصراع على مصالحهما المتناقضة، وسوف تعاود القوى العالمية وربيباتها الاقليمية الجلوس الى طاولة المباحثات، تحمل المقصات فوق خارطة المنطقة لتحسن فيها تقطيعاً من هنا وتدعيماً من هناك، هذا في الوقت الذي يتوجب على العرب ان ينهضوا وقد آن الأوان، من سباتهم الطويل.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى