ماذا بعد “جنيف 5”
سورية والسلام المستحيل/ رستم محمود
لم يستطع وفد النظام السوري إلى جنيف 5 تجاوز أكثر مبادئ المفاوضات بداهة، أي «عدم الإهانة»، التي بقي يستعملها كأداة خِطابية ذات دلالات وأبعاد سياسية عميقة. فالحط من مكانة النظير والتشكيك بجدارته ومساواته للذات على المستوى الشخصي، يستبطن نبذاً سياسياً رهيباً. فهؤلاء المعارضون السوريون الذين قال عنهم فاروق الشرع بلسان النظام السوري قبل رُبع قرن بأنهم «لا يستطيعون إدارة مدرسة ابتدائية»، هُم ما زالوا أكثر من ذلك بكثير في القراءة الراهنة للنظام نفسه، فقد أضاف لضُعفهم كُل سمات الشر، ولا يُعرف كيف يستطيع هؤلاء أن يجمعوا بين سمات الشر المُطلقة مع ضُعفٍ ومهانة أكثر إطلاقية.
بمستويات أقل حدة، يتقاسم المعارضون السوريون منطق النظام نفسه. الإسلاميون بدرجاتهم ينعتون النظام بكُل سمات الشر والعنف والطائفية المُطلقة. وهي سمات وإن صحت بحق النظام السوري، فإنها أداة للإسلاميين ليخفوا ما يكتنزونه من هذه الصفات بالضبط، وهُم بمسار آخر مواز لهذا، يشبهون النظام من خلال الحط من جدارة وأهلية مُعارضيهم المحليين في مناطق سيطرتهم، المدنيين الديموقراطيين الفاعلين على أقل تقدير. وهي علاقة تكشف ما يُمكن أن يفعلوه بكل السوريين فيما لو دانت لهم الهيمنة في وقتٍ ما.
الأمر نفسه ينطبق على شكل علاقة حزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي مع «أعدائه» الإسلاميين ومُعارضيه الكُرد المحليين. ففيما الأولون يجمعون بين الشر والقوة، فإن الآخرين نتاج خلط الضُعف بالخسة والعمالة.
لا يبدو كُل ذلك بعيداً من التاريخ السياسي لشعوبنا وجماعاتنا الأهلية. إذ لا تكاد الذاكرة الجمعية تشهد على «مساومة» كُبرى شهدتها إحدى جماعاتنا الأهلية أو السياسية مع أخرى نظيرة وندية لها. فالحروب والغزوات التي غطت كامل السردية والذاكرة الجمعية التاريخية لمُجتمعاتنا، لم تكن تنتهي إلا في أحد شكلين: إما أن يمحق أحد الطرفين الآخر النظير، أو أن تتدخل الدولة السُلطانية لتفرض سلاماً على شكل حرب باردة بين الطرفين، أشبه ما تكون استراحة موقتة لإتمام عمليات المحق والإخضاع فيما بعد.
يكمنُ الاستعصاء السوري في عدم قُدرة أي طرفٍ سوري على تحطيم الآخر تماماً، فلم تنتصر الثورة السورية ولم يسقط النِظام السوري. كذلك ثمة غيابٌ لأي قوة – دولة «سُلطانية» عالمية أو إقليمية، تستطيع أن تفرض سلاماً على المُتحاربين السوريين.
المعترضون السوريون يعرفون تماماً ما قد يواجهونه فيما لو انهزمت الثورة السورية وعادت سورية إلى حظيرة نظام الأسد. فالنظام الذي وصل إلى أعلى درجات وحشيته بعد مجزرة حماة في أوائل الثمانينات، سيُفظّع بالمُجتمع السوري أضعاف ما فعل وقتذاك، بدلالة أفعاله التي ضاعفت ما حصل قبل ثُلث قرن، وفي ظِلال تماهٍ غير خفي مع الأقوياء على مستوى العالم.
لا يستطيع المُعارضون السوريون الاستسلام من دون ضمانات واضحة بأن مصيرهم لن يكون بيد نِظام الأسد في شكلٍ مُطلق، وهو الشيء الوحيد والمباشر الذي يطلبه النظام ليوقف حربه ضدهم.
مُقابل ذلك، فإن النظام السوري وقواعده الاجتماعية المُنخرطة في هذه الحرب، يدركون تماماً بأن المجتمع السوري الأوسع بات يعتبرهم قوة احتلال «غاشمة»، وأن مصيرهم المُستقبلي سيتطابق مع ما تكتنزه ذاكرتهم عن «المظلومية» التاريخية التي لحقت بهم كأقلية أهلية، سيُضاف لها كُل ثأر فظائع السنوات السابقة، ورُبما عشرات السنوات السابقة من حُكم النظام الأسدي. بمعنى ما، لا يستطيع هؤلاء الاستسلام لأي مصيرٍ غير معروف العواقب في شكل مؤمن تماماً.
فوق ذلك، فإن المتحاربين السوريين يدفعون أثمان الثنائيات المُتضادة الزائفة، بين روسيا والولايات المتحدة على مستوى العالم، وبين إيران وتركيا، بين قوى الربيع العربي ونظيراتها المحافظة في المستوى الإقليمي، وبين الطبقات الميسورة ونظيرتها المحطمة، وبين الإسلاميين و «المدنيين» على المستوى المحلي. فمع ظهور جميع هذه التباينات كثنائيات مُتضادة، فإن مصالحها وسياساتها تبدو حقيقة متداخلة وشريكة في أكثر من مستوى في المسألة السورية، وأي منها لا يملك مصلحة حقيقية بأن يصل السوريون إلى مساومة تاريخية، يُعاد معها رسم سورية بهوية وموقع جديدين. فأي فرقٍ واضحٍ بين السياسات الروسية والأميركية في سورية مُنذ ستة أعوام مثلاً، وأي تباينٍ بين مواقف الجزائز وتونس من المسألة السورية مثلاً! وعلى الدينامية نفسها يحصل التناقض بين الخطابات والسياسات الفعلية للمُستقطبين حول المسألة السورية، التُركية والإيرانية والمصرية على سبيل المثل.
* كاتب سوري
الحياة
أبواب جنيف المغلقة/ رياض نعسان أغا
أتوقع أن تنتهي الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف السورية دون أن تحقق شيئاً في المضمون، وسيزداد شعور السوريين بالضيق مما قد يرونه عبثاً، وعلينا أن نعذر أولئك المنتظرين في مخيمات اللجوء في خيام تذروها الرياح والعواصف ويحرقها الهجير، لبارقة أمل لم تظهر بعد، ويبدو أنها لن تظهر من جنيف، وأن نصبر على من باتوا يكرهون رؤيتنا في قاعات المؤتمرات وأروقة الأمم المتحدة، ومن سيذكروننا بقول شاعرنا ابن حوران المبدع، أبي تمام «السيف أصدق إنباءً من الكتب»!
ومن حقهم أن يفقدوا إيمانهم بجدية التطلع إلى حل سياسي وهم يرون النظام وحلفاءه يزعمون الموافقة على وقف إطلاق النار بينما طائراتهم تدمر القرى والمدن وتهجر السكان وتقتل البشر، وعلى ملأ من العالم فشلت اتفاقية وقف الأعمال العدائية التي وقعها لافروف وكيري في فبراير 2016 ولم تبد أي من الدولتين حرصاً على توقيع وزيري خارجيتهما.
وكذلك لم يلتزم النظام وحلفاؤه باتفاقية وقف إطلاق النار التي أبرمت في ديسمبر في أستانة، بل إن النظام وحلفاءه صعدوا القصف في حمص والغوطة وفي عدد من المحافظات، وهجروا أهل الوعر، واليوم يتابعون تهجير أهل مضايا والزبداني ويخططون لتهجير أهل الغوطة، ويهدد «حزب الله» السوريين بالباصات الخضر التي تنقل السكان قسراً من بيوتهم إلى المخيمات لإحلال مستوطنين غرباء مكانهم.
وأما مشاركة النظام في مفاوضات جنيف فهي شكلية هدفها إبراز إشاعة كون النظام يبحث عن حل سياسي مع أنه يتابع الحسم العسكري، وقد أصر على أن يناقش مع الأمم المتحدة ملف الإرهاب وحده لأنه يتهم المعارضة السياسية كلها بالإرهاب، متجاهلاً أنه ارتكب أفظع الجرائم الإرهابية في تاريخ البشرية! فلم يسبق أن قصفت دولة شعبها بالكيماوي وبكل الأسلحة المحرمة، أو أبادت مدناً هي محافظاتها، ولم تتسبب دولة في التاريخ في هجرة أكثر من 60 في المئة من أبناء شعبها تشردوا في أنحاء الأرض، ويبدو النظام مستعداً لتمزيق سوريا وتقسيمها إلى دويلات متصارعة مقابل أن يحتفظ بكرسي رئاسة لم يعد لها أي حضور أو سيادة.
لقد فقد الداعمون للنظام احترامهم الشكلي له فقد بات «حزب الله» والإيرانيون يفاوضون على إخراج أهل الفوعة وكفريا من بيوتهم ونقلهم إلى الزبداني اللتين سيقوم «حزب الله» وإيران بتهجير سكانهما قسراً وعنوة على مرأى العالم كله، ليجعلوا من ريف دمشق الغربي مستعمرة شيعية هدفها حماية طريق لبنان والإحاطة بعاصمة الأمويين التاريخية برايات طائفية.
ويصمت النظام على فجيعة أخرى تحدث في شمال سوريا، حيث تذكرنا الأحداث المتلاحقة التي يسارع فيها حزب «البي يي دي» لاقتطاع محافظات سورية بذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور، ولا أدري من هو بلفور القرن الحادي والعشرين الذي يمكن أن يكون قد وعد بعض الغلاة من الأكراد بإقامة دولة لهم في الشمال السوري، فهؤلاء يهددون اليوم بضم محافظة الرقة إليهم!
وهم يقولون إنهم يريدون فيدرالية ضمن سوريا، ولكن هناك من يغريهم بالانفصال رويداً رويداً لإذكاء صراع عربي كردي لم يسبق أن حدث في تاريخ العلاقة المديدة بين الكرد والعرب. ولئن كنا نحرص على إنصاف الكرد وتمكينهم من حقوقهم السياسية والثقافية واللغوية والإدارية ولدينا في رؤية الهيئة العليا للمفاوضات بيان صريح بدعم ما سميناه القضية الكردية ضمن بوتقة القضية السورية عامة، لكننا أشد حرصاً على وحدة سوريا أرضاً وشعباً متعدد الأعراق والأطياف.
ولا نقبل بحال أن يتقاسم السوريون بلادهم وأن يمزقوها إلى دويلات صغيرة متصارعة، والعجب أن يدعم النظام توجه هذا الحزب الكردي المتطرف في سلوكه وفي مطالبه، مما يجعلنا نشك بوجود خطة تقسيم سرية قد تظهر شيئاً فشيئاً، وتفسر حرص النظام على تهجير الآلاف من أهل السنة من حمص ومن دمشق وريفها إلى إدلب ونقل شيعة إدلب إلى مضايا والزبداني، والعالم صامت يتفرج.
ورغم ضعف تفاؤلي بمفاوضات جنيف أجدني حريصاً على استمرارها لمجرد أنها تجعل القضية السورية حارة وساخنة وعلى مسرح دولي كبير، وقد يكون التوقف عن مفاوضات سياسية مبرراً لجعل القضية منسية دولياً أو هامشية.
ولكنني أدرك أن أبواب جنيف مغلقة أمام الحل السياسي، ولن تفتح إلا حين يظهر اتفاق دولي يتخذه مجلس الأمن بقرار صارم دون ظهور لـ«الفيتو»، ولا ندري متى يحدث، ولكننا ندعو الله أن يكون قراراً لصالح شعبنا وألا يكون هناك وعد مثل وعد بلفور لأحد، فإن لم يكن فستبقى شلالات الدم تفيض ولن يوقفها غير حل عادل.
الاتحاد
خطايا جنيف 5 وأخطاره/ فايز سارة
أجواء جنيف5، وما يرشح عنه من اخبار ومجريات في الكواليس، تبدو سيئة للسوريين الذين دخلت قضيتهم قبل أسبوعين عامها السابع، عاشوا فيها ابشع أنواع الكوارث، التي امتدت تفاعلاتها مابين قتل واعتقال وتهجير، وبين تدمير للممتلكات الخاصة والعامة بما فيها قدرات الدولة والمجتمع السوريين، وهم املوا من جنيف5، كما املوا مما قبله، ان يفتح الباب على حل سياسي للقضية السورية، يأخذهم في اجراءاته الأولية نحو وقف القتال والهجمات على المدنيين، ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، والسماح بمرور المساعدات اليها، واطلاق المعتقلين والمخطوفين باعتبارها مقدمات لبناء الثقة في رحلة حل سياسي، يأخذ السوريين عبر مرحلة انتقالية، يتشارك فيها بعض من المعارضة والنظام، ليس فقط من اجل رسم ملامح الحل السياسي الذي يأخذ سوريا الى بناء نظام ديمقراطي، يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، وانما أيضا لمواجهة تداعيات التطورات الداخلية العاجلة في القضية السورية وفيها اربع نقاط رئيسية، عودة المهجرين واللاجئين الى ديارهم، وإعادة تطبيع حياتهم، وإخراج المليشيات والمقاتلين الأجانب من البلاد، والمضي في طريق محاربة الإرهاب والتطرف وجماعاته ولاسيما “داعش” والنصرة.
وسط تلك الآمال، فكر السوريون او لنقل كثير منهم، ان جنيف5، ينبغي ان يكون مختلفاً عما سبقه. وقد تغذت تلك الامال على معطيات متواضعة، لان احتمال المعطيات الكبيرة في القضية السورية صارت بعيدة، لكثرة الايدي الضالعة فيها، وبسبب تصارع المصالح المحلية والإقليمية والدولية، وكان الأبرز في المعطيات المتواضعة، ان جرى ضم ممثلين عن المعارضة المسلحة الى طاولة المفاوضات، وإقرار اتفاق لوقف اطلاق النار بضمانة دولتين فاعليتين هما روسيا وتركيا، وحضور منصات المعارضة الثلاثة الى جنيف4، والاتفاق على موضوعات التفاوض بين النظام والمعارضة، او ماسمي بسلال التفاوض الأربعة، الحكم والدستور، والانتخابات، والإرهاب. ورغم ما أحاط بهذه النقاط من صعوبات سياسية وتنفيذية، فانها في نظر كثير من السوريين ومتابعي القضية السورية والمتصلين بها، تمثل تطوراً ايجابياً، ولو بحدود معينة.
غير ان تلك التطورات الإيجابية على محدوديتها، لم تقابل بروح المسؤولية من جانب الأطراف المنخرطة في الصراع السوري الداخلية والخارجية، بل ان رعاة المساعي الى حل سياسي، لم يجسدوا مساعيهم بصورة عملية، ولم يقوموا بخطوات من شأنها الدفع الجدي باتجاه الحل. فنظام الأسد وحلفاؤه، لم يلتزموا باتفاق وقف اطلاق النار، ولم يوقفوا سياسة التجهير القسري لسكان المناطق المحاصرة في الوعر، ولم يتوقف بعض المتدخلين عن تدخلاتهم بمشاركة وسطاء دوليين في عملية التغيير الديمغرافي المتواصلة في سوريا، معبراً عنها في اتفاق أخير حول تبادل سكاني في اربع مدن هي كفريا والفوعا في ريف ادلب، ومدينتي الزبداني ومضايا في ريف دمشق الغربي، فيما يواصل نظام الأسد بث معزوفاته في الاشتراطات، ورفض الدخول في مفاوضات مباشرة، وابداء احتقاره للمجتمع الدولي، ورفضه استقبال ديمستورا في دمشق.
وحال المعارضة لم يكن أفضل، ولا كانت على قدر مناسب من المسؤولية في التعامل مع جنيف4، ولاهي غيرت سلوكها في جنيف5، فقد استمرت سياسة تدافعها سواء بين الافراد، او المجموعات من اجل الذهاب الى جنيف والحصول على مقعد فيه، الامر الذي تسبب متزامناً مع ضغوطات خارجية في تشكيل وفود ضعيفة ومتهافتة، ولا خبرات لها. ورغم ان تلك الوفود قدمت للمبعوث الدولي رؤيتها ل”الحل السياسي” معتمدة على نصوص، أنجزت في وقت سابق، فان نقاشها للقضايا المطروحة حول “الحل السياسي” كان أضعف من تلك الرؤية، وكانت متناقضة معها في كثير من الاقوال والتصريحات بمافيها تصريحات على الاعلام.
خربطات المعارضة في جنيف5 وما قبله، شملت جميع اطرافها دون استثناء، لكن اكبرها كان له الحظ الأكبر. حيث خلافات واختلافات بين مكونات وفد الهيئة العليا، وهو أمر كان من المفروض، ان لا يظهر الى العلن على الأقل، والأهم ان صراعاً اندلع بين وفد الائتلاف والهيئة العليا حول تبديل أعضاء من الائتلاف مع الأخيرة، لكنها رفضت، مما دفع الأئتلاف لنقاش الانسحاب من الهيئة، لكنه لم يصل لقرار على عادته في نقاش المسائل الحساسة، رغم وجود أعضاء في هيئته السياسية، يسعون بكل قوتهم واساليبهم، وفق كواليس جنيف5، للحلول محل آخرين في وفد التفاوض تحت أي شرط كان، بمافيه تخليهم عن مضمون وثيقة “الحل السياسي”، التي قدمت لديمستورا، وهو اتجاه تؤكد كواليس جنيف انه حاضر، وينمو تحت الضغط الدولي الذي وصل حدود التهديدات.
وينقلنا الامر الأخير الى موضوع الوجود الدولي في جنيف، وقد كان الروس الأهم فيه، والبقية على هوامشه في تمثيلهم وفي ممارساتهم، لكن الجميع شاركوا في الضعط على المعارضة ووفد الهيئة العليا بصورة خاصة، بدل ان يضغطوا على النظام الذي تهرب في السابق، كما في الحالي من أي التزامات، يمكن ان تعزز مسار الحل السياسي، والضغط لم يقتصر على ممثلي الدول، بل كان ديمستورا وفريقه في عداد الضاغطين، وأحد الأسباب، يكمن في تهافت بعض المعارضين، واصرارهم على الوجود في جنيف بغض النظر عن مخرجاته المحتملة، والسبب الثاني جلافة موقف النظام، واصراره على الإبقاء على مواقفه بدعم روسي واضح، ومسايرة من مبعوث الأمم المتحدة الراغب في تحقيق “تقدم” ما، ولو كان على حساب الشعب السوري ولمصلحة نظام الأسد وحلفائه.
بؤس الموقف الدولي في جنيف5 وقبله جنيف4 في احد أسبابه، يعود الى التباسات الموقف الأميركي، مما يجعل الروس ونظام الأسد مستمرين في مواقفهم، ويدفع الاوربيين الى البقاء في حذرهم، بل في ميلهم الى مسايرة الروس، وفي الأقل عدم التمايز عنهم، وهو امر لن يتحقق، طالما لم تعلن الإدارة الأميركية موقفها الواضح في القضية السورية، ولايقيم الاوربيون وزناً للمؤشرات، التي باشرتها واشنطن في سوريا للدلالة على انغماسها أكثر في سوريا سواء في تغيير طبيعة مهمات قواتها هناك، او في ارسالها مقاتلين واسلحة، صارت حاضرة في ساحة الصراع السوري.
جنيف5 على بوابة نهايته، فيه كثير من الخطايا، وفيه أخطاء قاتلة، تهدد لو استمرت قضية الشعب السوري ومساعيه من اجل الحرية والكرامة، وما قدم من تضحيات في أعوام مضت، وقد بات الامر يتطلب تحركاً جدياً من قبل السوريين ونخبتهم، وأصدقاء الشعب السوري الحقيقيين من اجل ان لا تذهب مساعي السوريين وتضحياتهم سدى.
المدن
الحل قبل جنيف وبعده/ فاطمة ياسين
ستيفان دي ميستورا رجل محظوظ، فهو موظف يستطيع أن يقدم استقالته في أي لحظة يرغب بها، مع احتفاظه بحق الحصول على مستحقاته كاملةً، باعتبار المشكلة ليست مشكلته، وهو مكلف بالوساطة فقط. ويبدو أخيراً أنه قد ملّ هذه المهنة، ويتطلع إلى إجازة سعيدة بعد سلسلة مضنية من الاجتماعات ورحلات الطائرات البعيدة.
في المقابل، لا يستطيع أي سوري أن يقدم استقالته من المشكلة، سواء كان عضواً في الوفود، أو مجرد شخص عادي، يتلظى تحت وطأة انقطاع الكهرباء والماء والوقود، أو يتلوى غريباً في المنافي الكريمة أو البخيلة على حد سواء، وقد وضع، بعد الفصل الخامس من مسلسل جنيف، تحت تهديد مغادرة دي ميستورا الذي كان يقوم بدور “المكوك” بين غرف المفاوضات المنفصلة التي تجلس فيها الوفود، منتظرة ردود الأطراف الأخرى.
لم يصل النضوج التفاوضي بعد إلى مرحلة المواجهة والحوار عن قرب، بدون متاريس حماية، وكل الاقتراحات التي تبادلتها الأطراف لم تكن مجديةً بمقدار كافٍ لتتقارب الطاولات مسافةَ المدى المجدي للكلمة. لذلك، ما زلنا بحاجة إلى شخصية دي ميستورا، ليشغل وضعية “كتاف المغربل”.
فَشِلَ مؤتمر أستانة الذي سبق جنيف، وعلى الرغم من أن روسيا تقول إن أستانة ليست بديلاً عن جنيف، ولكنها تصر بشكل كبير على الوجود في أستانة، قبل عقد جنيف، وفشل أستانة أدى إلى فشل جنيف الحالي، فصارت نتائجه تحصيل حاصل. اشتعلت الجهات فجأة، على الرغم من إعلان وقف النار الذي لم يجرؤ أحد حتى اللحظة على القول إنه لم يعد سارياً، وأصبحت المعارضة المسلحة على أبواب دمشق، وعلى مرمى حجر من شارع فارس الخوري في قلب العاصمة، وهي تتحرّك في حماة، بنشاط عداء المائة متر، وتوشك أن تنصب مرابضها في ساحة العاصي. ولهذا الاقتراب ثمن يمكن قطافه في جنيف، لكنّ السوريين يرغبون في حل واحد ومعروف، سواء دخلت المعارضة دمشق، أو بقيت محاصرةً، وتحت تهديد الباصات الخضراء التي يطلقها مريدو النظام وإعلامه الموجه، وفشل المفاوضات هو تفصيلٌ آخر، يجب أن نجد له مفاوضات أخرى، لنتجنبه ونقنع الجميع بالجلوس والحديث مجدّداً.
الضياع في زحمة السلال والمنصات، والتعويل على هجوم أو تراجع أو تصريح ذي سقف مرتفع لكسب سنتيمترات حوارية، وانتظار نتيجة معركة، أو اثنتين، لإزاحة المفاوضات باتجاه طرفٍ ما، وجعل نصيبه أكبر، يعني أن لا حل متوفراً لدى الجهات “الداعمة للحل”، والتي تحاول اجترار العلقم نفسه الذي نتجرّعه منذ ست سنوات.
ليست المفاوضات فض اشتباك أو اتفاقيات هدنة بين أطراف دولية، تريد أن ترسم خطوطاً فاصلة، ولا يفترض في الحوار أن يكون رهينةً لمزاج دولي، أو سياسة موجة ترغب بتوجيه الدفة في مسار محدّد، والاحتكام إلى رغبةٍ دولية، غائبة، تفرض على كل الأطراف شكل الدولة التي فقدت نفسها ومقوماتها، وكل مكوّن فيها خلال الخمسين سنة الماضية، وأضحت بحاجة لحوار منعش ومنتج، وهي أمورٌ لا يبدو توفرها قريباً لا في جنيف، ولا أستانة، ولا في أي عاصمة أخرى.
قد لا يتفوه الإعلام بعبارة “فشل جنيف”، لكنه سارع إلى إعلان استقالة دي ميستورا، وما زال ينقل سير المعارك في مختلف المدن، ويركز على تباين السلال المطروحة: الإرهاب أو رحيل النظام، أو استبداله، أم سلة تعديل الدستور أو ابتكار واحد جديد، واختلال العلاقة بين روسيا وتركيا، والتقارب الأميركي الروسي المحتمل، وصعود تيارات اليمين المتطرّف على وقع العمليات الإرهابية التي تطاول الشوارع الأوروبية. كل تلك العوامل متغيرات حوارية، تنفخ في مؤتمر جنيف للسلام السوري أو تفرغه، ويضاف إليها الكثير من التجاذب الجانبي بين الأطراف الواحدة، حتى تكاد المنخفضات الجوية والعواصف الرملية تحل متغيراً جديداً.
بهذه المتغيرات، يمكن أن نحصل على مسلسلٍ لا نهائي لجنيف، يتبدل فيه كل الممثلين، ويتعاقب عليه المخرجون على المسرح نفسه، وبالمتفرجين أنفسهم.
العربي الجديد
مفاوضات سورية في دوامة/ ماجد كيالي
انتهت مفاوضات جنيف 5 مثلما انتهت سابقاتها، أي من دون أي تقدم في المباحثات على أي سلة من السلال التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا (الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، مكافحة الإرهاب)، ومن دون أي نتيجة تستحق الذكر على كل الأصعدة، وبديهي من دون تمكين أي من الطرفين المتصارعين الادعاء بتحقيق مكاسب سياسية على حساب الطرف الآخر.
واضح من ذلك أن هذه المفاوضات إن استمرت على هذا النحو ستصبح عبارة عن مجرد مفاوضات علاقات عامة ولتقطيع الوقت، وتبرئة ذمة المجتمع الدولي من المسؤولية عن الكارثة السورية ومآسي السوريين؛ تماماً مثلما حصل في تجربة الفلسطينيين في مفاوضات أوسلو (1993) مع الإسرائيليين، التي بات لها قرابة ربع قرن، وكأننا إزاء مفاوضات عبثية أخرى.
المسألة الأساسية التي يجب إدراكها والتركيز عليها أن المفاوضات في شأن مستقبل سوريا لا تجري، في حقيقة الأمر، بين الطرفين اللذين يجلسان على طاولة المفاوضات (النظام والمعارضة)، وهما لم يفعلاها أصلاً إلا في جلسات بروتوكولية أو افتتاحية، وذلك بسبب أن الأطراف الدولية والإقليمية باتت هي التي تتحكم بالصراع السوري، في القتال والهدن، في التسوية والصراع المسلح، في تقرير استمرار الصراع أو فرض الانتقال السياسي؛ هذا أولاً.
ثانياً، أن الطرفين المتصارعين لا يستطيع أي واحد منهما التغلب على الآخر، أو فرض الحل الذي يريده، إذ لم يبق للنظام الذي تآكلت قواه، ما يستطيعه في سبيل ذلك، سيما بعد أن بات واضحا أنه أضحى مرتهنا للطرفين الروسي والإيراني. في المقابل فإن المعارضة لم تستطع أن تراكم من القوى ما يسمح لها بإسقاط النظام، وإنهاء الصراع لصالحها، فلا أوضاعها تمكنها، ولا إمكانياتها تتيح لها ذلك، على نحو ما شهدنا من تطورات عسكرية في الفترة الماضية.
ثالثاً، كل ذلك يفيد بأن كلمة السر بشأن وقف الصراع الدامي في سوريا لم تصدر بعد، من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وإن هذه القوى لم تصل حتى الآن، إلى القناعة بإمكان إنفاذ مصالحها أو إقناع الأطراف الأخرى بأخذ مصالحها في عين الاعتبار.
في هذا الإطار يمكن استعراض وضعية القوى الفاعلة في الصراع السوري، أي إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة (مع غياب النظام العربي أو تشتت مواقفه). ففي ما يتعلق بإيران فهي باتت تشعر أن وجودها في سوريا بات مهدداً سيما بعد دخول روسيا وتركيا على الخط، خاصة من جهة روسيا التي تعتقد أنها هي صاحبة الكلمة الأولى في سوريا، مع اعتقادها أيضا بأنها هي التي أنقذت النظام من الانهيار وليس إيران. هذا الوضع لا يناسب السياسات الإيرانية في المنطقة، ومع كل الأثمان التي دفعتها هذه الدولة التي تمتلك الحجم الأكبر من القوى الخارجية في سوريا، مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، ومع كل الدعم المادي الذي أغدقت به على النظام.
تركيا تعتقد أن أي بحث في صيغة لسوريا المستقبل ينبغي أن يأخذ في الاعتبار مصالحها كدولة جوار واعتباراتها الأمنية، وبالأخص منها الحؤول دون قيام منطقة حكم ذاتي كردية في الشمال السوري، تحديدا في غرب الفرات، وهذا ما حاولته بإطلاقها عملية درع الفرات، أواخر الشهر الماضي، وما تحاوله من خلال ضغوطها للمشاركة في معركة إخراج داعش من الرقة.
روسيا غير متيقنة بعد ما إذا كانت مصالحها في سوريا باتت مترسخة وتلقى قبولاً من المجتمع الدولي، مع وجود منافستها القوية إيران، ثم الولايات المتحدة التي تبعث رسائل غامضة، توحي أحيانا بأنها تستدرج روسيا للمزيد من التورط في سوريا وتركها لتتدبر أمرها وحدها، في حين توحي أحيانا أخرى أنها تأخذ مصالحها بالاعتبار وأنها توكلها في إدارة الملف السوري.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تملك كلمة السر لوقف الصراع الجاري في سوريا، وأنها الدولة الأكثر قدرة على فرض الحل الذي تريده على مختلف الأطراف الداخليين والخارجيين، وهي الدولة التي تملك إمكانيات استثمار هذا الصراع بل وتوزيع هامش تدخّل الأطراف الآخرين، أو حصصهم من النفوذ، من مدخل الصراع أو التسوية السوريين.
بيد أن المشكلة أن الولايات المتحدة مازالت لم تحسم أمرها في هذا الأمر، وأنها غير مستعدة على ما يبدو للدخول في مساومات مع الأطراف الآخرين، ولا سيما مع روسيا بخصوص العديد من الملفات. يخشى على ضوء ذلك أننا سنشهد لاحقا جنيف 6 و7 و8 الخ وذلك بانتظار كلمة السر الأميركية.
كاتب سياسي فلسطيني
العرب
واشنطن تقرأ ‘جنيف’ بعيون روسية/ أمين بن مسعود
من قلب العاصمة التركية أنقرة اختار قائد الدبلوماسية الأميركية ريكس تيلرسون إعلان الاستدارة الأميركية حيال الملف السوري باعتبار أنّ مصير الرئيس السوري بشار الأسد يعود تحديده حصرا إلى الشعب السوري.
كان تصريح وزير الخارجية الأميركية مسبوقا بإعلان مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بأنّ واشنطن ستركز جهودها على محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط فقط، ومتبوعا أيضا ببيان رسمي من البيت الأبيض صدر الليلة قبل الماضية مشددا على أنّ الشعب السوري هو صاحب الشرعية الوحيد في مصير الأسد.
ثلاثية من التصريحات الأميركية جاءت لتؤصل للمشكك قبل المصدّق بأنّ المقاربة الجديدة للبيت الأبيض تقوم على أساس محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط وتكوين دويلة كردية شمال شرق سوريا معاضدة لكردستان العراق وقصقصة النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والعراق دون دخول في حرب مباشرة مع طهران. تفتح القراءة الاستراتيجية للمسلكية الأميركية الجديدة زاوية تحليل متمثلة في إدراك أميركي عميق لاستحالة الجمع بين محاربة الإرهاب من جهة بما يعنيه من تجميع لكافة القوى المحلية والإقليمية والدولية وراء هدف ضرب المجموعات الإرهابية وبين السعي إلى الإطاحة بنظام سياسي من جهة ثانية.
اختار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مرحلة أولى استراتيجية غض النظر عن الجماعات الإرهابية في انتظار الجني السريع لثمار إطلاق يد الميليشيات الإرهابية في عملية إسقاط الأنظمة بادعاء إمكانية السيطرة على الإرهاب بعد انهيار الأنظمة والمؤسسات.
وهو النموذج الذي تم اعتماده في ليبيا فكانت النتيجة انهيارا للسلطة المركزية وتفريخا للجماعات الإرهابية التي باتت أقوى من كافة الحكومات المتعاقبة الأمر الذي حوّل ليبيا إلى حديقة ألغام شديدة الانفجار في وجه المنطقة المغاربية وشمال أفريقيا وأوروبا أيضا.
في مرحلة ثانية اجتبت إدارة أوباما في فترة ما بين 2013 ونهاية الولاية الرئاسية استراتيجية “الغموض البناء” ضمن المعادلة الثنائية التي صارت مستحكمة في الشرق الأوسط والقاضية بـ“قبول الإرهاب بنتائجه الكارثية غير المسيطر عليها” وبين التعامل مع أنظمة فساد واستبداد بتداعيات مدروسة على المنطقة والإقليم ككلّ.
اجتبى أوباما الرمادية في التعاطي مع الاستحقاقين، حارب الإرهاب بقفازات من حرير حيث التهمت وتمددت الجماعات الإرهابية في زمن إدارته على ثلثي الجغرافيا السورية والعراقية وناكف النظام السوري ضمن حدود استراتيجية مدروسة، ترضي حلفاء واشنطن في حرب الشرعيات المعلنة ولا تغضب الدب الروسي الذي تدخل بقوة صلب الجغرافيا الشامية.
وفي النتيجة ازداد الإرهاب تجذرا في سوريا والعراق وازداد النظام إصرارا في موقفه ومقاربته للمشهدية العسكرية والسياسية في البلاد.
مع دونالد ترامب، تختار واشنطن اليوم الانخراط صلب المقاربة الروسية للملف السوري وذلك بالفصل والجزم حيال نقطة التباين الأساسية بين موسكو وواشنطن على مدى سنوات الأزمة والمتمثلة في مصير الرئيس السوري بشار الأسد.
ولعلنا لن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّها المرة الأولى التي تعلن فيها واشنطن قبولها بالتفسير الروسي لبيان جنيف 1 الموقع في 30 جوان من سنة 2012.
مثل البيان المدونة التأسيسية الأولى لتسوية الأزمة السورية بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، ولكن في المقابل شكّل جنيف 1 بداية حرب التفسير بين جبهة الرفض وعلى رأسها واشنطن التي كانت تعتبر أنّ فصل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية تفضي في المحصلة إلى تنحي الأسد وأركان حكمه من السلطة فيما كانت جبهة الدعم وعلى رأسها موسكو تؤكد أنّ البيان لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى مصير الأسد الذي يبقى ضمن اختصاص الشعب السوري في انتخابات عامة وديمقراطية.
اليوم، تنضم واشنطن إلى المقاربة الروسية في قراءة نصوص مدونة التسوية السياسية للملف السوري، انطلاقا من جنيف 1 إلى جنيف 5 وليس انتهاء بالقرار الدولي 2254، وهو انضمام سيؤدي إلى انضمامات جديدة ابتداء من باريس التي عدلت مؤخرا عقارب تصريحاتها السياسية على الزمن الترامبي ليعمّ دول الجامعة العربية التي لن تردد في تعليق قرار التعليق ضد دمشق.
تستدير واشنطن باستدارة مصالحها وباستدارة التوازن الإقليمي والدولي في العالم، لا ثابت في العلاقات الدولية إلا للمصالح جلبا وللمفاسد درءا، أما الراهنين والمرتهنين لسراب ثبات موقف واشنطن في لعبة الأمم فلن يكونوا الأوائل ضمن طابور المغدورين الأميركيين، ولن يكونوا الأخيرين أيضا.
كاتب ومحلل سياسي تونسي
العرب
مستر يا حصرماً…!/ راجح الخوري
في ١٠ أيلول من عام ٢٠١٤ وصل ستافان دو ميستورا الى دمشق مبعوثاً جديداً للأمم المتحدة، حاملاً خريطة لمدينة حلب عليها خطوط تحدد مواقع القوى المتقاتلة فيها، ودعا الى وقف للنار يبدأ منها ويتدرج ليشمل كل الأراضي السورية، يومها كَتبتُ في هذه الزاوية انه سيفشل حتماً وعلى طريقة “يا حصرماً رأيته في حلب”.
الآن بعد عامين ونصف العام ها هو دو ميستورا يلوح مرة ثالثة بالاستقالة، ليس لأنه محبط فحسب، كما كان يعلن منذ أشهر عدة، بل لأنه لم يعد في وسعه على ما يبدو، ان يواصل العمل كمطية لتمرير السياسات التي يمليها عليه سيرغي لافروف، بعدما باتت موسكو تدير الملف السوري، من اجتماعات أستانا التي فشلت في وقف النار، الى مؤتمرات جنيف التي راكمت الفشل السياسي على خلفية عدم التوصل الى حلٍ لعقدة الانتقال السياسي، التي أحبطت كل التسويات منذ مؤتمر جنيف الأول!
صحيفة “أيزفستيا” الروسية تقول ان أداء دو ميستورا لا يعجب النظام ولا المعارضة ولا روسيا ولا ايران طبعاً التي لا تحبذ حلاً سياسياً ينهي الأزمة، لكن دو ميستورا المسكين لم يترك شيئاً لم يفعله سواء لجهة مسايرة الروس أو ممالأة النظام او حتى مغازلة رغبات المعارضة أحياناً.
عشية “جنيف ٤” اتّهمه لافروف بأنه يقوّض المفاوضات لأنه لم يقنع المعارضين بالموافقة على التفاوض دون شروط مسبقة، فكان ان انتزع من المعارضة الموافقة على هذا، ثم جلب المعارضين الى المفاوضات المباشرة التي كانوا يرفضونها، ثم قدم ورقة النقاط الأربع التي قلبت تراتبية تنفيذ القرار ٢٢٤٥ رأساً على عقب، عندما دعت الى التزامن بين صياغة دستور جديد بمشاركة النظام، وتشكيل حكم موثوق به، وبين وتنظيم انتخابات حرة تحت رقابة الامم المتحدة، وصياغة دستور جديد، وهذه أمور لا يمكن ان تتم الا بالتتابع كما نص قرار الأمم المتحدة!
مع بدء “جنيف ٤” لم يتردد دو ميستورا في ان ينقل رسالة من الرئيس بشار الأسد الى المعارضين فحواها اذا فشلت المفاوضات سيفعل بادلب ما فعله بحلب أي التدمير، وهذا طبعاً لا يرضي المعارضة، وفي ١٠ آذار قال في مقابلة صحافية، انه لا يمكن اجراء انتخابات في سوريا في ظل النظام الحالي، وهذا ما أثار طبعاً غضب الأسد والروس والايرانيين.
ولأنه احتاج الى عامين ونصف العام لكي يتوصل الى ما عرفه مثلاً الأخضر الابرهيمي من انها “مهمة مستحيلة”، والى ما عرفه قبلهما كوفي انان، الذي استقال وسط اتهامات النظام له بالانحياز، ليس كثيراً الآن وهو يلوح بتقديم “استقالة الاحباط” ان أكرر القول : لقد كانت مهمته يا حصرماً رأيته!
النهار
جنيف أمريكا أحبط أستانا روسيا/ محمد زاهد غول
تزامنت اجتماعات «جنيف4 « مع مؤتمر «أستانا 3» مع الذكرى السادسة لانطلاق الثورة السورية، مع دخول مذبحة الشعب السوري عامها السابع، وقد أصبحت المواقف الدولية أكثر وضوحا.
أمريكا أعربت عن دعمها الكامل لجهود ديمستورا في «جنيف4»، بينما نظرت باقي الأطراف على أن «جنيف4» أدخل المفاوضات السياسية في متاهة السلال الأربع، التي تحتاج كل سلة منها لسنوات، وكأن أمريكا بتأييدها لدي مستورا وموقفها السلبي من مؤتمر أستانا نوع من الراحة لها وإبعاد الضغط عن نفسها، فهي تؤيد مفاوضات جنيف مهما أخذت من الزمن. بينما وجدت أمريكا بمؤتمر أستانا نوعاً من الراحة لجهودها المتعلقة بمتابعة قضايا وقف إطلاق النار، حيث كانت تتحمل قبل أستانا المباحثات العسكرية والمباحثات السياسية معاً. والاستراتيجية الأمريكية منذ أن تحولت الثورة السورية إلى صراع إقليمي أصبحت عدم وقف القتال في سوريا، إلا بوصول الأطراف المتصارعة إلى قبول مشروع التقسيم، بل وجعلها تنادي بالتقسيم بنفسها حتى تتخلص من القتال والقتل والتدمير والتشريد، وتأكد ذلك من خلال فشل روسيا إلزام أمريكا باتفاق وقف الأعمال العدائية، الذي وقعه كيري وزير الخارجية الأمريكية (السابق) مع لابروف مرتين في 2015 و2016، حتى اعلنت روسيا فقدان ثقتها بالأمريكيين في تنفيذ ما يتم التوصل اليه، لأن البنتاغون لم يكن يوافق على تنفيذ ما يتعهد به وزير الخارجية كيري.
هكذا وجدت أمريكا نفسها تتنفس الصعداء بتحمل أستانا مسؤولية وقف الأعمال القتالية وتثبيت الهدن، وقالت إنها لن تشارك في أستانا إلا بصفة مراقب، مثلها مثل الأردن، بل لن ترسل وفدا وإنما تكتفي بوجود السفير الأمريكي بأستانا، لأنها تركز على مباحثات جنيف وتؤيدها. فمشروع السلال الأربع مشروع له بداية وليست له نهاية، وما تم تسريبه من معلومات عن الجلسات التحضيرية لجنيف5، يدل على ذلك فالعناوين الرئيسية هي، سلة الحكم الانتقالي، وسلة الدستور وسلة الانتخابات، وسلة مكافحة الإرهاب، والعمل جار على مناقشة كل واحد على حدة دون الاتفاق حتى الآن على ترتيب الأولويات، فالاسد يريد أولوية الارهاب، بينما المعارضة تريد سلة الحكم، وبينما طرح مساعد دي مستورا على وفد المعارضة سؤال إمكانية بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وجاء جوابها بالرفض، لم يجتمع وفد الأسد مع مساعد دي مستورا لبحث هذه المسألة، وفضل الاجتماع مع مستشار وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، ووفد إيران يتابع مفاوضات جنيف، ومرجعية بشار الجعفري روسيا وإيران قبل بشار الأسد.
لقد تم عرض قضايا هذه السلال الأربع على المعارضة وحكومة الأسد في مؤتمر «جنيف4»، والمطلوب أن تأتي الوفود إلى مؤتمر «جنيف5» وهي تحمل ردودها وافكارها على نقاط السلال، وهذه النقاط هي:
السلة الأولى: الشؤون المتعلقة بالحكم، ومبادئها الأساسية هي متطلبات محددة حول الحكم، كما ورد بقرار مجلس الأمن 2254 ويضمن أن يكون الحكم ذا مصداقية، وشاملاً، وغير طائفي، كما يضمن استمرارية المؤسسات والخدمات العامة، ويضمن حماية حقوق الإنسان، على ان تكون مهام ترتيبات الحكم هي المهام المتعلقة باستمرارية المؤسسات والخدمات العامة أولاً، والتسهيلات المتعلقة بكتابة مسودة الدستور ورقابة الأمم المتحدة على الانتخابات ثانيا، ومهام إضافية تنبثق عما يتفق عليه الطرفان ثالثاً، ومهام أخرى رابعاً.
كما سيتم بحث العناصر الأساسية تتعلق بترتيبات الحكم، ومنها آلية حكم وحيدة أو منفردة، وحكم تتم ممارسته من خلال مؤسسات متعددة، وعضوية ومهام الحكم، وحجم الحكم، ومعايير العضوية في الحكم، ومسألة الاختيار واتخاذ القرار.
أما في مسألة سلطات الحكم، فسيتم بحث مدى السلطات وشموليتها، والاستقلالية في ممارسة السلطات، والعلاقة مع المؤسسات الأخرى، وهي التشريعية أولاً، والقضائية ثانياً، وغيرها.
كما سيناقش «جنيف5» قضايا الممارسات والسياسات والآليات، بما في ذلك ميثاق العمل، الاستمرارية وإصلاح المؤسسات، في الاستمرارية أولاً، والإصلاح ثانياً، والممارسات العملية وميثاق العمل ثالثاً، والسياسات المتفق عليها رابعاً.
كما سيبحث آليات التطبيق بأن تكون قضائية ومستقلة، إضافة لمناقشة آليات الرقابة والتقرير ثانياً، إضافة لبحث التطبيق القانوني لترتيبات الحكم.
والسلة الثانية: مسائل العملية الدستورية وفق المبادئ الأساسية التالية: مبادئ أساسية جوهرية تحكم العملية أولاً، ومبادئ العملية ثانيا بحيث تكون شاملة وقادرة وشفافة وتشاركية، وبحث أنماط العملية الدستورية وفق لجنة الخبراء أولاً، وهيئة معنية وتمثيلية ثانياً، وهيئة منتخبة ثالثاً، والسكرتارية والدعم رابعاً.
كما تبحث السلة الثانية الحوار الوطني في حجمه أولاً، وشكله ثانياً، ومدته ثالثاً، واللجنة التحضيرية رابعاً، والسكرتارية خامسا، والرئاسة سادساً، والنزاعات سابعاً، والنتائج ثامنا.
وفي بند الاستشارات العامة، سيتم بحث استمزاج الرؤى قبل الشروع بالعملية أولاً، واستقبال المساهمات أثناء العملية ثانياً، وتداول ونقاش مسودة الدستور ثالثاً.
وفي المراجعة بعد المشاورات والاستفتاء ستتم مناقشة تقدير نتائج الاستشارات العامة أولاً، وبلورة النسخة الأخيرة والموافقة عليها ثانياً، والاستفتاء ثالثاً. كما ستتم دراسة الجدول الزمني للخطوات المذكورة أعلاه.
والسلة الثالثة هي لبحث المسائل الانتخابية، بدراسة العمليات الاقتراعية، وبحث هل ستكون العملية الاقتراعية استفتاء على دستور جديد أولاً، وبحث تراتبية التحضيرات ثانياً، والجدول الزمني ثالثا، على أن تتم إدارة العملية الاقتراعية في النقاط التالية، في السلطات: المؤسسات وتركيباتها أولاً، وكيفية حل النزاعات الانتخابية ثانياً، ودور حوكمة العملية الانتخابية ثالثاً، على ان يتم التوافق على إشراف الأمم المتحدة في الانتخابات المقبلة. ويناقش «جنيف 5» مسائل الانتخابات الحرة والنزيهة حسب أعلى المعايير الدولية، بمناقشة الإعلانات الدولية والعهود ومواثيق حقوق الانسان بما في ذلك الإعلان العالمي والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مكافحة التمييز ضد المرأة أولاً، والإطار القانوني ثانياً، والنظام الانتخابي ثالثاً، وغيرها، وكذلك مناقشة أهلية كل السوريين للمشاركة، بمن في ذلك السوريون في الشتات، وبحث أهلية المشاركة أولاً، والاقتراع خارج البلد ثانياً، والنازحون ثالثا.
والسلة الرابعة وهي مكافحة الإرهاب وحوكمة الأمن وإجراءات بناء الثقة فسوف تبحث استراتيجية مكافحة الإرهاب وقضايا حوكمة الأمن، إضافةً إلى بناء الثقة المتوسطة والبعيدة المدى، وعمل مقاربة الظروف المولدة لانتشار الإرهاب، عبر الإجراءات السياسية أولاً، وإجراءات تربوية واجتماعية ثانياً.
وبحث طرق منع ومكافحة الإرهاب عبر الترتيبات المؤسساتية أولاً، وإنفاذ الأمور القانونية والعسكرية ثانياً، والسياسات الاجتماعية والاقتصادية ثالثاً، والوسائل القضائية رابعاً.
وبحث قدرات الدولة لمنع الإرهاب ومحاربته، بحسب المؤسسات المتعلقة بمحاربة الإرهاب أولاً، والتعاون الدولي ثانياً، ودعم الأمم المتحدة وجهات دولية فاعلة ثالثاً. ودعم حقوق الإنسان والقاعدة القانونية في مكافحة الإرهاب وغيرها، لتأسيس القاعدة القانونية لمكافحة الإرهاب أولاً، والممارسات العامة لمؤسسات الدولة.
أما مسائل الحكم المتعلقة بالأمن فتكون عبر وحدة القيادة في ما يتعلق بالقوات المسلحة النظامية وغير النظامية اولاً، والسلطات والرقابة على المؤسسات الأمنية ثانياً، وقوى شرطية ذات مصداقية وفاعلية في كل أنحاء البلد ثالثاً، ومسألة القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب.
هذه النقاط وغيرها هي موضوع بحث في مؤتمر «جنيف5»، وكل نقطة فيها تحتاج إلى مؤتمر دولي، وسنوات من البحث والاختلاف، بينما المسارات الأساسية التي تدار دوليا لمستقبل سوريا فهي التفاهمات الروسية والايرانية، بما يحفظ أمن الدولة الاسرائيلية، وأمريكا لا تعارض ذلك طالما يحول دون انتصار ثورة الشعب السوري، فالتواجد العسكري الروسي طويل الأمد، ويحتاج إلى المليشيات الإيرانية التي تحفظ وجوده دون تهديد ولا هجمات من الشعب السوري، وتبقى تجمعات السوريين العرب السنة في أقل المواقع الجغرافية، بعد إخراجهم من دمشق حماة وحمص وحلب وغيرها لصناعة جغرافيا وديمغرافيا جديدة لدولة سوريا المفيدة، التي خطط لوجودها حافظ الأسد منذ استلامه للسلطة عام 1970، واكملها بشار كخط دفاعي أخير لمواجهة أي ثورة شعبية عارمة ضد حكمهما، إضافة إلى المساعي الروسية والأمريكية لإقامة كيان كردي شمال شرق سوريا، بعد ان فرضت تركيا رؤيتها المبدئية لغرب الفرات شمال غرب سوريا بدعمها للجيش السوري الحر، الذي بدأ بتحرير أراضي غرب الفرات من التنظيمات الارهابية، وهذا يؤكد ان أمريكا بتوليها امر جنيف وإرهاقه بالمتاهات السياسية على يد دي مستورا قد تركت مؤتمر استانا عاجزا عن ان يحقق وقف إطلاق النار، فروسيا وهي تسعى لتحقيق أهدافها في سوريا لا تقبل بوقف اطلاق النار، وكذلك قوات الأسد والمليشيات الايرانية لا تقبل من الناحية العملية وقف اطلاق النار، ولذلك فإن أستانا مؤتمر لفرض وقف إطلاق النار على المعارضة السورية المسلحة، وتقييد حركة المعارضة السورية المسلحة كي لا تحبط المشاريع الروسية والأمريكية والإيرانية والكردية في سوريا، وهو ما ترفض تركيا ان تكون شريكة فيه طالما ان الأطراف الأخرى لا تلتزم بوقف اطلاق النار أيضاً.
كاتب تركي
القدس العربي