ماذا تختارون أيها الكتّاب أولاً: الكتابة أم الحياة؟/ رلى راشد
في نبرة العارفات الناظرات الى الراهن بعين الاستشراف، تكلّمت الكاتبة هرتا مولر الرومانية في ألمانيا والألمانية في رومانيا، على ما تصف نفسها. تحدّثت لتقول في لقاء أدبي قبل أيام أن الفن يجيء في المرتبة الثانية بعد الإنسان وانها كانت لتتمنى أن لا تعيش يوما واحدا في ظلّ نظام ديكتاتوري، وإن عَنى ذلك أن تسحب من منجزها جميع الكلمات. جميل ومباغت على السواءـ أن نقرأ مؤلّفة إرتادت أرفع المرتبات التكريمية (نالت نوبل الآداب في 2009) تنظّر الى حرفتها بعين الناقدة المتواضعة، بل وتحاذي اللااكتراث إزاء ما حققته. كاتبة تجهر انحيازها بلا تردد الى جانب عيش الحياة عوضا من الإكتفاء بسردها.
جاء تصريح الكاتبة مولر وليد لحظته وابن ساعة الحقيقة، فأعادنا الى سؤال الأدب التأسيسي والأساسي على السواء. دفع بنا الى التمهّل عند مواد حياتية تغذّي الأدب وتمكّنه من أن يبسط أذرعته. تتجلّى هذه المؤونة أحيانا في هيئة طفيليات، ذلك انها تتعاظم من خلال فُتات يوميات الكاتب وعلى حساب فوزه بالحياة. قالت مولر الكثير في إطار مهرجان “غونتين ثوريا” الأدبي في بيلباو في اسبانيا، لكن في جمل قليلة اهتمت بالإحاطة بها صحيفة “إيل باييس”. كتبَت بلسانها انها لم تكن لتمقت الإشتغال في مهنة أخرى غير الأدب إذا عنَت نتيجة المقايضة هذه، تفادي ان ترزح تحت عبء الديكتاتورية. كانت لتبحث عن اهتمام آخر بطيب خاطر لإدراكها ان المرء قيمة مطلقة وهي تاليا غير قابلة للتعديل وفق منطق الزمن أو وفق منطق المكان. تزيد مولر، وهنا زُبدة التعليق ربما، ان من الخطير جدا التسليم بنسق من النظريات يريد جعل الأنظمة الديكتاتورية محفّزة لخيال الكتاب، ذلك ان المضي في هذه المقاربة وأخذها الى نطاق أوسع، لا بدّ ستُلقي العالم في كنف السوريالية. ان أمرا مماثلا، تقول مولر، ملائم للأدب، بيد انه مريع للإنسان، لتردف ان الفن يحلّ في المرتبة الثانية، في حين لا بدّ من إبقاء الإنسان في المرتبة الأولى. كلام مولر صادم لأكثر من سبب. أما السبب البديهي فالطواعية اللافتة التي تبينها قبالة نصها المتمثلة في قدرتها على وضع مسافة بينها وبين رصيدها الأدبي.
ذلك ان الزهو بالأعمال الكتابيّة يلازم المؤلّف في حالات عدة ويجعله يسرق جذوة الأبتكار، غير مكترث بأي شيء آخر. تنصهر الشخصية الإنسانية بالشخصيّة الأدبية، فيصيران واحدا. يجعل الأدب الأديب يرتضي جميع التنازلات، وليس أقلها أهمية أن يقبل بأن تغدو الحياة عدوة الكتابة. الأمثلة لا تحصى على ذلك. كلام همنغواي عن الكتابة كمرادف للنزف، مفصحٌ للغاية. لم يكن الفرنسي فيكتور هوغو ليكتب قصيدته المقتصدة في الكلمات والمغرقة في ألمها “غدا بدءا من الفجر” (على ما اتفق على تسميتها)، لولا وفاة ابنته ليوبولدين. لم يكن الموعد الكتابي لينبلج عند الفجر في ساعة حيث يبيضّ الريف كما يذكر في قصيدته، لولا هول التمزق. لم يكن لينفّذ وعده بأن يلاقي إبنته خلف الغابة وأبعد من الجبل لولا رحيلها. لم يكن أيضا ليتيقّن انها تنتظره هناك وانه عاجز عن التلكؤ بعيدا منها لمزيد من الوقت. خرجَت قصيدة ليوبولدين من ندبة فجيعة الوالد، لكن هل كان هوغو ليقايض القصيدة ببقاء فلذة روحه البهيّة النقيّة على قيد الحياة؟ يتراءى السؤال مريعاً بقدر فظاعة الحياة التي لا تكترث بقاطنيها حين تتلاعب ببوصلة عيشهم.
اختبر الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس أزمة الإصابة بذريّته هو الآخر. ذلك ان الموت المقيت بسط رداءه على ولده الذي حمل مثله اسم كارلوس وهو في الخامسة والعشرين. يسرد كتاب “بورتريهات الزمن” قسطا من العلاقة الثنائية، من خلال نصوص الأب العابقة بالحميمية وصور التقطها كارلوس الإبن بالأبيض والأسود وتظهر بعض الكُتّاب المقرّبين من والده من مثل غبريال غارثيا ماركيز ووليم ستايرون وسوزان سونتاغ. في أعقاب الموت، كتب فوينتيس عن ابن حمل اسمه ليصير امتدادا عفويا له. نقرأ: “أدرك كارلوس مساره الفني على نحو طارئ وبفرح وبألم وإنما من دون شكوى. بدَت عيناه العميقتان لامعتين أحيانا وغائبتين في أحيان أخرى. لم تقولا فحسب ان ألم جسدنا الفردي شخصيّ وإنما أيضا انه يصعب على الآخرين تصوّره. في حال لم يجرِ نقله الى قصيدة أو لوحة، يستمر الألم إلى الأبد صامتا ووحيدا وداخل الجسد الذي يعاني. ثمة فرق كبير بين قول الجسد يؤلمني، أو الجسد يؤلم”. حمَل كارلوس اسم والده واسم عمّه من قبله، غير ان “الكارلوسَين” (نسبة الى كارلوس) لم يصلا الى “الشيخوخة الرهيبة”، تلك التي تحدّث عنها كارلوس العمّ في فلك قصيدة كاتباً: “أخشى الراحة… أنظرُ الى نفسي… وأرى نفسي لاحقا. انه الهاجس المخيف. الشيخوخة الرهيبة”. قال كارلوس الإبن لكارلوس الأب انه شعر بالتماهي مع إيغون تشيلي وفنانين آخرين من الراحلين مبكرا. أولئك مثله، لم يملكوا الوقت ليكونوا شيئا آخر سوى أنفسهم.
إنها إحدى المفارقات غير الموضوعيّة أن ترحل إيلينا، ابنة أوكتافيو باث الوحيدة قبل أيام، في الرابعة والسبعين، عشية إنطلاق احتفاء المكسيك بمرور مئة عام على ميلاد الشاعر الإستثنائي والمكسيكي الوحيد الحاصل على نوبل الآداب. كان باث إبنا وحيدا وعاشت إيلينا مثله إبنة وحيدة، ليختم رحيلها، سلالة باث بالشمع الأحمر. لم تستطع الكاتبة والشاعرة أن تترك لموهبتها العنان متحررة من طيف والدها الغامر. شهدت علاقة الإثنين مدّا وجزرا يُثبتهما اتهامها له في رسالة بالإهمال لتعود بعدذاك وتسامحه علنا. أهدى باث لإيلينا قصيدة “طفلة”، حيث مقاربة لمفهوم البنوّة القادر على اجتراح الأعاجيب. كتَب: “تُسمّين السماء، أيتها الطفلة، فتتشاجر الغيمات مع الهواء، ويتحول الفضاء الى ساحة معركة شفافة. تُسمّين المياه، ايتها الطفلة، فتولد المياه، لا أدري من أين، تشعّ في الأوراق، تتحدّث مع الأحجار، وتجعلنا أبخرة مبللة. لا تقولي أي شيء، أيتها الطفلة، فترتفع بنا الموجة الصفراء في أوجِها كمدّ شمسيّ، وتبعثرنا في الآفاق الأربعة، وتعيدنا، سالمين، الى منتصف اليوم، لنصير نحن”.
الكتابة أم الحياة؟ الإثنتان معا، كان ليقول باث المغتبط بالإبنة، على رغم أنف رأي مولر المفجوعة بالسياسة الفتاكة.
النهار