صفحات الرأي

ماذا تريد روسيا من سوريا؟ (I)


ايرينا زفياغيلسكايا

تهدف سياسة روسيا في الشرق الأوسط إلى تحقيق مهمات ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمصالح أمنها. ويمكن صياغة هذه المهام بوجه عام على النحو التالي: تجنبُ عدم الاستقرار الذي يمكن أن يقترب من الحدود الروسية، الحفاظُ على وضع دولةٍ، لها مواقفها من الأوضاع العالمية والإقليمية، قادرة على انتهاج خط مستقل، حمايةُ مصالح رجال الأعمال والشركات الروسية (التي تعمل قبل كل شيء في مجال الطاقة) والمجمع الصناعيى – العسكري، الذي يقوم بإمدادت السلاح إلى بلدان المنطقة. وتنعكس على المصالح الروسية في الشرق الأوسط إعادةُ تشكيل منظومة العلاقات الإقليمية والدولية بتأثير الثورات العربية، وظهورُ خطوط توتر جديدة، بما في ذلك تعميق المجابهة بين السنّة والشيعة، والمستوى العالي من الغموض.

تمكنت روسيا في السنوات الأخيرة من بناء علاقات مع مختلف اللاعبين في الشرق الأوسط، منهم إيران وإسرائيل والدول العربية و«حماس» و«حزب الله»، الأمر الذي يمكن وصفُه بخط إيجابي يأتي إلى روسيا بفوائد معينة. غير أن مشكلة «المصالح المستبعِدة لبعضهما البعض» قد تصبح بالغة الحدة في الظروف المعاصرة المتميزة، بتصاعد المجابهة في الشرق الأوسط على أساس رسمي (بين دولتين)، وطائفي على حد سواء. وفي الوقت نفسه، فإن العلاقات الجيدة بين روسيا وجارتها الأقرب إيران، التي تُعتبر اللاعب الفاعل في القوقاز وآسيا الوسطى، وموقفها الحاسم الداعي إلى عدم جواز التدخل العسكري الخارجي في سوريا والإطاحة بالنظام الحاكم فيها تحت ضغوط من الخارج، تعارضت مع مواقف المملكة العربية السعودية وغيرها من الأقطار العربية، وكذلك مواقف عدد من الدول الغربية.

أظهر الحراك في العالم العربي بداية عملية تحوّل لم تَعُدْ نتيجتُها غير معروفة؛ ففي كل بلد توفرت أسباب كفيلة بنشوب نزاع داخلي حاد، منها المشاكل الاجتماعية، والخلافات الطائفية والتنافس بين مختلف القبائل. وما زال الوضع هناك كفيلاً بنشوب خلافات جديدة، حيث تتشكل عدة توجهات (مسارات) للتوتر، من بينها: الانقسام الطائفي (تفاقم التناقضات بين السنّة والشيعة، وكذلك وقائع ضغوط على المسيحيين)، والفارق بين الأجيال (حيث يشكل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، نسبة تتراوح بين 50 و60 % من سكان الشرق الأوسط)، والتناقضات الفكرية ـ السياسية بين الليبيراليين والمحافظين والإسلاميين. ومن الصعب تقييم الاحداث الجارية بدقة، من منظار مصالح روسيا، لأن هذه الأحداث ولّدت مستوى عالياً من الغموض. ويمكن لتنامي التطرف والنزعات القومية في العالم العربي أن يصبح مصدراً لتحديات ومخاطر جديدة على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وأن يؤدي في الوقت ذاته إلى تصاعد التناقضات التقليدية.

تحتل الأوضاع في سوريا مكانة خاصة في سياق الثورات العربية؛ فإلى جانب الأسباب الداخلية التي أدت إلى تفجير السخط والاستياء فيها، فقد كان هناك عامل خارجي لعب دوراً هاماً في الأحداث تمثل في انخراط قوى وأطراف إقليمية ودولية فيها. ومن المعروف أن الوضع السياسي الداخلي في سوريا تفاقم بشدة في أواسط مارس/آذار العام 2011. فقد اكتسب الحراك الاحتجاجي فيها بسرعة طابعاً واسع النطاق، وتحوّل إلى اشتباكات باستخدام الاسلحة. وما تسبب في الطابع العنيف الخالي من السعي للوصول إلى حل وسط للصراع الجاري هناك، أخطاءُ الأجهزة الأمنية والجيش السوري، وردُّ فعل بطيء للغاية وغير متناسب من قبل النظام على الأحداث الجارية، وغيابُ الاستعداد (رغم الوعود) لتحقيق الإصلاحات الجذرية التي نضجت منذ زمن بعيد. والسعيُ بكل الوسائل، للحفاظ على نظام الحكم العلوي الذي يمثل الأقلية الطائفية، وزوال المبادئ الفكرية لحزب «البعث» وفقدانُ الحزب لوظائفه الإدارية، وأخيرا الدعمُ الخارجي المقدَّم إلى المعارضة. وأصبح الوضع في سوريا منذ زمن بعيد غيرَ قابل للتنبؤ بتطوراته المقبلة، حيث تتصل المخاوف الرئيسية بآفاق اندلاع حرب أهلية في البلاد. والحقيقة أن الحديث عن هذه الآفاق تأخر الآن، لكثرة ضحايا النزاع واتساع نطاق إراقة الدماء. ويثير قلقاً بالغاً قمعُ الانتفاضة بقسوة وأعمالُ المقاتلين واحتمال تولي السلطة في البلاد من قبل المعارضة العاجزة عن تحقيق مهمتي المصالحة الوطنية وإدارة البلد، الذي تم إضعافه جراء الاشتباكات التي وقعت فيه.

فرضت الضغوط، التى مورست على النظام السوري في ظروف عمليات التحالف في ليبيا، مشاكل جديدة على القيادة الروسية. فإن التجربة الليبية السلبية، وإحساس روسيا بأنها أصبحت مخدوعة بصيغ غامضة واردة في القرار 1973، حددا بدرجة كبيرة موقفَها من الوضع في سوريا. ان السياسة الروسية تجاه سوريا والهادفة إلى عرقلة الإطاحة العسكرية بنظام بشار الأسد وضمان مجيء المعارضة إلى السلطة استناداً إلى الدعم الخارجي، تحددت بالاعتبارات التالية:

أولاً، إن تكرار السيناريو الليبي يمكن أن يحوّل التدخل الخارجي إلى «وسيلة شاملة» كفيلة بتنحية أنظمة وحُكّام غير مرغوب فيهم.

ثانياً، عارضت روسيا مواقف «لامتماثلة» إزاء الحكومة والمعارضة، لأنها يمكن أن تغير ميزان القوى القائم، و تعطي التفوّق العسكري إلى أحد الطرفين، ما يقلل من حرص هذا الطرف على إيجاد حل سياسي للأزمة. فمثلاً، وقفت روسيا – ولا تزال – ضد ما يتعالى من نداءات يدعو أصحابها إلى تجميد إمدادات الاسلحة إلى النظام السوري، بينما يُتاح لمقاتلي المعارضة الحفاظُ على قنوات تهريب الأسلحة.

ثالثاً، إن الأحداث في سوريا، (إذا تمكنت المعارضة من تحقيق هدفها المتمثل في انهيار النظام، استناداً إلى الضغوط الخارجية)، قد تنطوي على عواقب تخريبية ضخمة ستنعكس على المنطقة بأسرها. فمن المحتمل، والحالة هذه، أن يتواصل تعمُّق التناقضات بين السنّة والشيعة، وتتنامى النزعات المعادية للمسيحيين، وتتصاعد الخلافات بين مختلف القوميات. كما من المحتمل أن ينتشر العنف في دول مجاورة (…)

تقدمت روسيا في 15 ديسمبر/كانون الأول 2011، أثناء المشاورات الجارية في مجلس الأمن الدولي بشأن الشرق الأوسط، بصيغة مجدَّدة من مشروع قرارها الخاص بسوريا، كان قد تم وضعُها بمشاركة فاعلة من الجانب الصيني، وناشدت كل الأطراف وقفَ العنف، وشددت على أن ما من أحد يمكنه التهرب من مسؤوليته عن القيام باعمال استفزازية ومنافية للقانون. وطال هذا المطلب بصورة كاملة متطرفين يعملون في سوريا، حيث ندّدت بهم الصيغة الروسية لمشروع القرار. ورأت الولايات المتحدة والدول الغربية أن مشروع القرار الروسي، وإنْ بيّن تغيراً معيناً في موقف روسيا، حمّل الحكومة السورية والمشاركين في الاحتجاجات مسؤولية متكافئة عن تصاعد العنف، ولم يتضمن مطلباً خاصاً بالعقوبات بوصفه مطلباً رئيساً طرحه الغرب، الذي تلقى في ذلك تأييدا من جانب الجامعة العربية.

وفي 4 فبراير/شباط 2012 صوتت روسيا والصين ضد مشروع القرار المغربي بشأن سوريا، الذي دار الحديث فيه عن إقالة بشار الأسد، وشكلت الدولتان أقلّيّة واضحة أثناء التصويت. ويمكن تفسير قسوة الموقف الروسي (إضافة إلى الأسباب الآنفة الذكر) بخصائص الوضع السياسي الداخلي، ومرحلة الصراع الانتخابي. فبعد الانتخابات التشريعية التي جرت في أواخر عام 2011، انتشرت في روسيا الحركة من أجل الانتخابات النزيهة وإشاعة الديموقراطية في النظام السياسي. ونشطت هذه الحركة أثناء حملة الانتخابات الرئاسية، وعندها راح «الحماة» يستخدمون بشكل مكثف مختلف العبارات الدعائية المألوفة، وحيث احتلّ مكانة خاصة بينها كل من «خطر الثورة البرتقالية» في روسيا و«السيناريو الليبي». واللافت أن هذين الاحتمالين لا يجمع بينهما شيء، لكن التهديدات التي أطلقها أولئك الذين اتهموا القوى الخارجية بالتدخل المتعمد في شؤون روسيا الداخلية واتهموا الليبيراليين الروس بـ «الخيانة»، ربطت بينهم بصورة منطقية تماماً. وأحيت الأحداث في الشرق الأوسط مخاوف تقليدية اعتيادية مميزة لبعض المراقبين السياسيين الروس، تتعلق بمخططات القوى الخارجية (الولايات المتحدة والغرب بوجه عام). فمثلاً، تحدث الكثيرون عن نظرية «الفوضى المسيَّرة»، التي تحققها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. من هنا ضاقت امكانية إيجاد حلول وسط بشأن قضايا دولية، واجهت روسيا في سياقها تلميحاتٍ إلى احتمال التدخل الخارجي. وثمة عنصر هام آخر للسياسة الروسية، يؤثر في تفسير الأحداث الجارية في العالم العربي، هو عامل الطاقة. لقد اكتسبت أسعار النفط في السنوات الأخيرة أهمية خاصة بالنسبة لروسيا، ولعبت دوراً هاماً في ضمان الاستقرار السياسي الداخلي، مُتيحةً للسلطات فرصة مكافحة الفقر والأجور المتدنية للعاملين بالقطاع العام ومؤسسات السلطة والحّاح القضايا الاجتماعية، بهذه الدرجة أو تلك من النجاح. وإلى جانب ذلك، ترتب على كوْن اقتصاد الدولة مرتهناً، في واقع الأمر، بأسعار النفط، ظهورُ مشكلات مبدئية واسعة النطاق للتنمية، يتعذر حلُّها بدون حساب الأموال النفطية حصراً. فخلال السنوات التي سُجلت فيها أسعار عالية للنفط، لم تتطور الصناعة المحلية إلّا قليلا، كما انتشر الفساد وتشكل فارق كبير بين شرائح غنية وفقيرة من السكان، ولم تتطور البنية التحتية بشكل كاف، وتقلصت الجاذبية الاستثمارية، وظهر وقت وُصف بالخلود إلى الراحة والثقة بأن الاحتياطات المتوفرة حتى في ظروف الآزمة العالمية ستمّكن روسيا من الخروج من الأزمة بأدنى خسائر ممكنة.

نظرت الأوساط الحاكمة إلى الحفاظ على أسعار النفط العالية في ظل غياب مصادر أخرى مماثلة لزيادة الميزانية، على أنه خير لا جدال عليه، من شأنه أن يتيح حل مهمات تكتيكية على الأقل. والأكثر من ذلك، فقد أصبحت موارد الطاقة أداة هامة للسياسة الخارجية، الأمر الذي يمكن رؤيته على سبيل المثال في العلاقات بين روسيا، وكل من أوكرانيا و بيلوروسيا (روسيا البيضاء). وبالنتيجة، فان مسألة أسعار النفط تصدرت تقييمات أهمية هذه الاحداث أو تلك بالنسبة لروسيا، والتي من شأنها أن تؤثر فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي مثل هذا السياق وُجِدَ هناك من ربط «الثورات العربية» (وإن لم تكن هناك أسس كافية لذلك)، بمحاولات الولايات المتحدة الأميركية إدامةَ سيطرتها على النفط الشرق أوسطي، وبالتالي، المساس بمصالح روسيا. ومن هنا ظهرت سيناريوهات «مبردة للدماء» لتقوية السيطرة الأميركية على أنابيب النفط وبيعه. ولا يجوز أن نتناسى أن الشرق الأوسط، وإنْ لم يتصدر أولويات سياسة روسيا الخارجية، حيث تكتسب العلاقات مع بلدان رابطة الدول المستقلة والولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي والصين أهمية أكثر بالنسبة لروسيا؛ إلا أن الشرق الاوسط ما زال يلعب دوراً هاماً كأداة محددة. ومن المهم لروسيا الإشارة إلى أن حل القضايا الدولية أمر مستحيل بدون أخذ رأيها بعين الاعتبار، وينبغي الاعتراف بأن الوضع المحيط بسوريا ما هو إلّا دليل على ذلك. مكن الموقف الروسي من سوريا موسكو من استعراض إستعدادها لممارسة نهج مستقل. فمن جهة، أحدث هذا الموقف تعقيدات معينة بالنسبة لموسكو؛ حيث ظلت الدول الغربية تركّز على تعنّت روسيا، التي لا تمانع – من أجل أغراضها – في مواصلة إراقة الدماء. وتعالت تلميحات إلى ازدواجية موقف روسيا إزاء الديموقراطية، على حد زعم البعض. ونظرت معظم الدول العربية إلى موقف روسيا على أنه موقف يتعارض مع أهداف سياسة هذه الدول في المنطقة. فقد تحددت قسوة مواقف المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، وعزمها على الإطاحة بالنظام العلوي لبشار الأسد، على الأرجح، بسياق أوسع لمواجهة هذه الدول للنظام الشيعي في إيران. فبعد تدمير آلة العراق الحربية، حيث لم يعد العراق يلعب دور «الميزان المعاكس»، راحت إيران تنتهج سياسة أكثر حريةً في الشرق الأوسط. إن النظام الحاكم في سوريا، الذي حظي بدعم من إيران، أصبح المستهدف في إطار الهجوم العربي العام الذي نال حافزاً جديداً سواء في سياق آفاق تقوية النفوذ الإيراني في العراق، أو في ظروف مكافحة برنامج إيران النووي بكثافة متزايدة.

للبحث صلة

ينشر بالاتفاق مع «شرق نامه» – القاهرة

[ باحثة في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى