ماذا عن الطائفية في الشام؟
مشاري الذايدي
من الحجج الرائجة للتخويف من سقوط نظام الحكم في سوريا، هي أن النظام هو ضمانة الحماية للأقليات في منطقة الهلال الخصيب، خصوصا بعد تنامي المد الديني السلفي والإخواني، وأنه بوجود حكم علماني «مدني!» في دمشق، فإن ذلك يمنح طمأنينة لكافة الطوائف التي تموج في «بحر سني» غزير المياه مترامي الشطآن.
تسمع هذه الحجة، بصيغ مختلفة، لدى من يهول من طبيعة الانتفاضة في المدن السورية باعتبارها مؤامرة خارجية (والخارج هنا إسرائيل أو أميركا أو دول الخليج ومعهم تنظيم القاعدة، أو كل هؤلاء معا!). ولو كانت مطالب شعبية محقة – في بعضها طبعا – فهي يجب أن لا تشتط كما اشتط المصريون والتونسيون والليبيون واليمنيون الذين سعوا، ونجح بعضهم، في إسقاط النظام، فسقوط النظام هناك غير سقوطه هنا، فهنا في دمشق سقوط النظام يعني خراب مالطا والبصرة، بل وخراب إسرائيل نفسها على حد ما حذرنا – مشكورا – ابن خالة الرئيس، رامي مخلوف.
لا بد من القول إن هناك قدرا من الصحة في التفريق بين ما يجري في سوريا وما جرى ويجري في بقية البلدان العربية الهائجة، هذا أمر طبيعي، ولا جديد فيه، قلناه وقاله غيرنا من قبل، فلكل بلد حالته الخاصة.
أما كيف هي الخصوصية السورية، فلأنه بالفعل منذ تولي الجنرال البعثي «العلوي» حافظ الأسد للحكم 1970 وواقع المنطقة قد اختلف كثيرا، ليس في هذا مدح ولا قدح، بل مجرد توصيف لما جرى فعلا.
فلأول مرة يشعر السنة في سوريا، كبرى بلدان الشام، بفاجعة فقدان الحكم وهم الذين تعودوا على حكم البلد منذ أيام الأمويين إلى أيام العثمانيين ثم في فترات الحكم الوطني بعد الاستقلال.
كان للتاريخ عيوبه، ولحكم العثمانيين «الإسلامي» كوارثه في البلدان التي خضعت له، ووسم المجتمعات بميسم التخلف، ومع هبوب رياح «الوطنية» الجديدة، وتخلق الهوية العربية الثورية «القومية» الجديدة، سرت روح جديدة في تاريخ المنطقة، والوعي بالهوية هو شرط وجودها، فالهوية الجماعية المشتركة ليست معطى نهائيا تاما وسابقا، بل هو وعي يشتغل عليه و«يصنع» تربويا وتثقيفيا كما هو معلوم.
نعود إلى سوريا، من يتخوف من اندلاع التعصب الطائفي لديه جانب كبير من الحق، رغم الشعارات الجميلة التي يرفعها المتظاهرون حول الوحدة الوطنية لكن الشعارات شيء والحقائق، ودخائل النفوس أيضا، شيء آخر!
هناك تاريخ من الثأر مع الفئة الحاكمة، بالذات لدى السنة، رغم أنه ليس السنة فقط من ذاق الظلم، فقد ذاق مر القمع الأمني السوري كثير من المثقفين العلويين مثل عارف دليلة، وبقية الطوائف، أيضا.
لكن حينما يرد ذكر مجزرة مدينة حماه «المروعة» 1982 وكيف اغتصبت هذه المدينة اغتصابا على يد «سرايا الدفاع» وغيرها من التشكيلات الأمنية والعسكرية، وقتل نحو ثلاثين إلى أربعين ألف إنسان من أهلها، وتشرد أكثر من ضعفهم، بسبب الصراع بين «الإخوان المسلمين» وحافظ الأسد، ومجازر أخرى أصغر شأنا مثل مجزرة سجن تدمر 1980.
هذه الأحداث الدامية ظلت نارا تلهب جمر الانتقام الكامن تحت الثرى، تتحين فرصة الرد والثأر، وقديما قالت العرب:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى
وتبقى حزازات النفوس كما هيا!
من الصعب أن نتوقع ترفع النفوس عن هذا التاريخ، والعمل بمبدأ: عفا الله عما سلف، أو سلوك منهج مانديلا جنوب أفريقيا الذي تسامى على جراح الماضي في قيادة بلده وشعبه.
المشكلة أن سلوك النجل بشار وأخيه ماهر، وورثة «سرايا الدفاع»، هو استمرار لنفس النهج بشكل «عصري»، الأمر الذي صعب مهمة تنظيف الجراح، وإبعاد شبح الأحقاد الطائفية، التي لم تبرز قرونها على السطح بشكل ينقله الإعلام على الأقل، وإن كان موجودا بلا ريب.
نعرف الإرث الاجتماعي المتنوع للسوريين وأن سوريا تكاد تكون أكبر بلد عربي الآن يحفل بحضور ثقيل وقوي ومتنوع للطوائف الدينية من إسلامية ومسيحية، وهذا رصيد ثري للمجتمع السوري.
من أجل بقاء هذا الثراء، ومن أجل أن يكون للعبور الآمن للمستقبل شروط تحققه لا بد من الإصغاء إلى كل الأصوات في المجتمع السوري، وأولها الصوت العلوي نفسه! فهذا المكون الاجتماعي أساسي في التاريخ السوري الحديث وقد أنجبت هذه الطائفة الكثير من الأسماء الوطنية والثقافية والإبداعية قبل وبعد 1970. وكثير منهم حارب منطق الطائفية نفسه.
هناك أسماء معارضة من كل الأقليات الدينية في سوريا، وهناك مخالب قمع للنظام من كل مكونات المجتمع السوري، ورستم غزالة بشحمه ولحمه، أحد الوجوه الأمنية الفظة للنظام، هو من أبناء مدينة درعا الثائرة حاليا!
قرأت هذه الأيام كتابا بعنوان «هويتي.. من أكون؟ في الطائفية والاثنية السوريتين». من تأليف مثقف سوري «علماني» علوي، اسمه: أبي حسن، صدرت طبعته الأولى عام 2009.
المؤلف صدر كتابه بعبارة كاشفة للروائي اللبناني الفرنسي، أمين معلوف تقول: «الحقيقة المؤكدة أن ما يحدد انتماء الفرد إلى جماعة معينة هو في الأساس تأثير الآخرين عليه، تأثير القريبين منه، أي أهله ومواطنيه وأبناء دينه الذين يسعون لامتلاكه وتأثير من هم في مواجهته لأنهم يحاولون إلغاءه».
وكتب الإهداء بهذه الصيغة: إلى مواطن من بلادي قد يأتي وقد لا يأتي!
ذكر المؤلف أنه توسع في كتابه هذا في الإشارة إلى المعاناة التاريخية والعذابات التي لاقاها أبناء الطائفة العلوية لأنه كإنسان – حتى ولو كان علمانيا لا يبالي بهذه المحددات والاعتبارات – لا يستطيع الانسلاخ على الصعيد الشخصي من تكوينه «البدائي» كما وصفه ما لم يساعد نفسه على لفظ تاريخه الذي عادة يقيمه الآخرون انطلاقا منه.
يقول: «اكتشفت من خلال مخالطتي ومعاشرتي للناس في دمشق، بعيد استقراري فيها، بمختلف ألوانهم وأجناسهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية سواء أكانوا من النخبة أم من العوام أنه لا يكفي أن أعتقد وأؤمن من أعماقي أني إنسان مجرد عن أي انتماء آخر حتى يؤمن الآخر أني كذلك فعلا، فيعاملني الناس على هذا الأساس».
يتحدث عن قصة عجوز قروية معمرة من نفس قريته عاشت نحو مائة عام عاصرت فيها الحكم العثماني ثم الاستعمار الفرنسي وكل مراحل الحكم الوطني حتى مرحلة حكم حزب البعث، أي أنها تقلبت بين عدة هويات بالمعنى الرسمي وحسب السجلات، فتارة هي مواطنة عثمانية وصارت مواطنة علوية نسبة للدولة العلوية المؤقتة التي قامت في مرحلة ما من مراحل الاستعمار الفرنسي من 1922 إلى 1936 ومن بعد قيام الاستقلال والاتحاد السوري صارت مواطنة عربية سورية! لكن لو سأل إنسان هذه المرأة العجوز من أنتِ؟ فلن تجيب عليه بأكثر مما تعرفه عن قريتها ومحيطها القريب.
يتحدث كيف أن جميع السوريين ينظرون لكل علوي، بصرف النظر عن انتمائه السياسي أو الفكري، على أنه مقرب من الحكم بل هو جزء من الحكم بحكم الاشتراط الطائفي، ويتحدث عن نفسه كيف أنه حينما كان يقابل بعض أبناء الجزيرة السورية من العرب، كانوا يعتقدون أن كل علوي كان يستطيع ببساطة مقابلة الرئيس حافظ الأسد متى شاء، و«كانوا يسألونني ببراءة وصدق: (كيف حال المعلم؟) أي الرئيس حافظ الأسد».
يشير إلى أنه، ورغم بشاعة كارثة حماه ومذبحة تدمر التي يستنكرها، كإنسان وكسوري، ويشمئز منها وممن فعلها، لكنها ليست المذبحة الوحيدة والجرح الوحيد في الذاكرة التاريخية السورية، فهناك مذابح هائلة وقعت على العلويين طيلة تاريخهم المعذب في بلاد الشام من أيام المماليك والعثمانيين التي بلغت ذروتها معهم خصوصا من السلطان سليم وولاته في اللاذقية وحلب، ويذكر بمذبحة حلب الكبرى ضد العلويين.
لعل القارئ الكريم لاحظ التوسع في نقل بعض هذه اللمحات من هذا الكتاب، حتى نستمع إلى صوت آخر، صوت يشبه صوت المعارضين لسياسات السلطة الحالية في دمشق، وهو صوت مثقف علوي، لكنه سوري قبل ذلك، وإنسان قبل هذا كله..
لعلنا نحلق قليلا فوق حفر الطائفية والتعصبات الظالمة للإنسان. فالعدالة والحرية لا دين لهما ولا لون.
الشرق الاوسط