ماذا يحدث لو فشلت المظاهرات في سورية؟
عادل الطريفي
يكاد أغلب المعلقين على الشأن السوري مؤخرا يركزون على التاريخ السيئ للنظام، وكيف أن الساعة قد حانت لتنتفض الأغلبية على حكم الأقلية وترفض خمسة عقود من حكم حزب البعث الحديدي. أما البعض الآخر فيركز على أخطاء الرئيس بشار الأسد في تعاطيه مع الأحداث الراهنة مفترضين – مسبقا – أنه كان بوسع النظام أن يمتص الانتفاضة المفاجئة التي ضربت عددا من المدن السورية بحزمة من التنازلات.
بيد أن هناك سيناريوهات أخرى ما زالت ممكنة، فالنظام السوري ما زال قائما، ولم تتضح بعد أي بوادر انشقاق رئيسي في مؤسستيه العسكرية والحزبية، ولما تحاصر المظاهرات المفاصل الرئيسية للنظام في العاصمة. هل يعني هذا أن النظام في مأمن؟ ليس بالضرورة، فالتطورات تحدث ساعة بساعة، والزخم يزداد مع كل يوم جمعة يمر، ولكن من الضروري أن ندرك بأن هناك إمكانية أن لا يسقط النظام في الشهور القليلة المقبلة، ويكفي تأمل النموذجين اليمني والليبي للاعتبار. ففي اليمن حدثت انشقاقات رئيسية في بنية الحزب الحاكم، وبين العناصر المقربة من الرئيس – أو هكذا ظننا – في الجيش والسفارات الخارجية، ورغم كل هذا فإن الرئيس لم يسقط بعد، وما زال يفاوض ويناور حتى دفع بدول الجوار إلى تقديم مشروع يتضمن كل ألوان الضمانات له في حال قرر ترك السلطة. ليبيا – أيضا – تمردت فيها مدن الشرق دفعة واحدة، وانشق بعض كبار رجالات الدولة منذ الأيام الأولى، وعلى الرغم من قرار مجلس الأمن، والحملة الجوية المكثفة التي يقودها حلف «الناتو» ما تزال قوات القذافي والعناصر الموالية له – نسبيا – متماسكة على طول خط الجبهة.
طبعا، هذه النماذج ليست معيارا ثابتا فقد تتغير الأحداث خلال أيام أو ساعات، ولكن بالنسبة لأنظمة أخرى تعاني من الأزمة ذاتها – كسورية – فإن الطريقة التي يستطيع أن يتشبث بها الغير بالحكم تهمهم أيضا. إذا كان بوسع الآخرين أن يستخدموا السلاح – والقوة – لتبديد المظاهرات، فإنه يسعهم ذلك، وإذا كانت الدول الكبرى امتنعت عن التدخل – لانشغالها بليبيا – في أماكن أخرى انطلقت فيها الصدامات بين النظام وجماهير المتظاهرين، فإن ذلك يعني أن بمقدورهم القيام بذلك أيضا.
لا شك أن المتظاهرين الذين خرجوا في سورية يخاطرون بحياتهم، وهم لم يعد بوسعهم أن لا يتمتعوا بأبسط الحقوق السياسية والاقتصادية في ظل النظام الحالي، ولكن قدرتهم العملية على إسقاط النظام، أو إمكانية أن يصنعوا نظاما بديلا أفضل يستطيع ملء الفراغ الأمني والسياسي غير واضحة حتى اللحظة، فالحركة في الشارع عفوية، وهذا يعني أن «الشارع» ليس له من يقوده، أو من يستطيع – سواء أحزاب معارضة أو مؤسسات داخلية – أن يجري العملية الانتقالية.
هناك ملاحظة أخرى تجعل الأزمة السورية صعبة على التنبؤ، وهي أن قلة من المراقبين المحايدين أو الإعلام تملك صورة صحيحة أو واقعية عما يحدث في سورية اليوم، فالنظام من الأنظمة المغلقة لعقود، ولهذا فليس ثمة من دراسات أو قراءات محايدة تدفعنا للاستنتاج أن النظام سيسقط بالضرورة، أو أن سورية – كما نعرفها كدولة مستقلة – قادرة على الاستمرار كوحدة واحدة في حال انفلت زمام الأمور، وخرجت الخلافات الإثنية، والطائفية إلى السطح.
في مقالة بعنوان «سريانا: الطوفان ما بعد بشار الأسد»، يجادل روبرت كابلان بأن الدولة السورية لم يكن لها أن تظل متماسكة بغير الحكم الحديدي الذي فرضه حزب البعث خلال العقود الماضية، فبين عامي 1947 – 1954 أقيمت ثلاثة انتخابات عامة باءت كل حكوماتها بالفشل، وحتى عام 1970 تعاقبت على سورية 24 حكومة لأسباب متعددة أبرزها عدم وجود هوية وطنية جامعة لطوائف وإثنيات البلد، ولهذا فإن الآيديولوجيا البعثية التي كانت عابرة للحدود، وحالمة بمشروع «سورية الكبرى» قد مكنت النظام من الاستمرار في تبرير وجوده، وفي إعطاء صورة الوحدة القسرية دائما عبر استدامة الصراع. لقد تمكن النظام من استثمار ورقة الأقليات في المنطقة، وقد عزز من فرص بقائه تحالفه مع إيران – الشيعية – طوال العقود الثلاثة الماضية في وجه التهديدات العراقية، وبعيد غزو العراق في 2003 حين بدا أن سورية قد تكون الهدف المقبل لـ«تغيير النظام» بحسب مشروع المحافظين الجدد (مجلة «فورن بولسي»، 21 أبريل/ نيسان الجاري).
اليوم، يمكن تتبع هذه الرؤية في موقف الأقليات – سواء في سورية أو لبنان – من حيث أن العناصر الفاعلة في المظاهرات السورية تنتمي في غالبها إلى السنة والأكراد وهما أكبر الطوائف والإثنيات في البلد. هذا لا يعني أنه ليس ثمة دروز أو علويون، أو مسيحيون معارضون، فلقد تكونت مجموعات وتيارات معارضة – رغم صغرها – تضم كافة الشرائح الاجتماعية والمكونات الإثنية والطائفية، ولكن من الضروري هنا إدراك أن للانتفاضة الشعبية الجارية الآن أبعادا طائفية وإثنية هامة، وهو ما يجعلها في الوقت ذاته عنصر تهديد وقوة للنظام. أي إن بوسع النظام أن يتأثر من ثورة الأكثرية السنية والكردية عليه، ولكن من شأن التفاف الأقليات الأخرى حوله أن يشكل قوة تماسك للنظام في وجه الانتفاضة غير المنظمة. يقول كابلان: «دفعت الحرب على العراق الملايين من اللاجئين إلى البلدان المجاورة، ولكن في حال خرجت الأمور عن السيطرة في سورية فإن تأثير (يوغوسلافيا الشامية) قد يكون أكبر بكثير».
يروي آلان جورج في كتابه «سورية: لا خبز ولا حرية» (دار زد، 2003) طرفة يتداولها السوريون بعد فشل «ربيع دمشق» الذي بدأ مع تولي الرئيس بشار الأسد الحكم بعد وفاة والده، بحيث شجعت بعض الإصلاحات الأولية مثقفي وناشطي المجتمع المدني على المطالبة بتوسيع هامش الحريات السياسية والمدنية، قبل أن يلجأ النظام بعد ستة أشهر إلى قمع وتبديد أي فرصة للانفتاح الحقيقي، والانعتاق من أسر النظام البعثي. تحكي الطرفة أن حفرة عميقة في شارع بدمشق قد تسببت في أضرار بالغة للمارة والمركبات دون أن تكون هناك لوحة تحذيرية. سارع البعض فكتبوا للجهات المعنية مطالبين بردم الحفرة أو وضع لوحة إرشادية، ولكن المسؤولين اكتفوا بتعيين ممرضة وسيارة إسعاف إلى جوار الحفرة لإسعاف المتضررين، ولكن الأضرار تزايدت يوما بعد يوم حتى اشتكى الأهالي إلى فرع حزب البعث في دائرتهم، فتم تحويل القضية إلى الهيئة المركزية لحزب البعث الحاكم، وبعد مرور أعوام من الأخذ والرد قررت الحكومة بناء مستشفى يحمل اسم ابن الرئيس الراحل إلى جوار الحفرة، وعندما لم يفلح هذا الحل في امتصاص غضب الأهالي، قررت أعلى سلطة مركزية في البلاد وهي التنظيم القطري لحزب البعث حفر كامل الشارع وهدم كل ما عليه.
في سورية اليوم، حفرة الخلافات والانقسام الشعبي أكبر من أن تردم.
الشرق الأوسط