صفحات المستقبلياسين السويحة

ماذا يريد فاروق الشرع؟ وماذا يُراد لهُ؟

 

ياسين السويحة

للقارئ أن يعتقد، عند قراءته المقابلة المنشورة في جريدة “الأخبار”، وبقلم رئيس تحريرها، للوهلة الأولى أنه يقرأ مقابلة مع مرشّح لخلافة الأخضر الإبراهيمي في منصب المبعوث الدولي إلى سوريا، وليس كلام النائب الأول لرئيس الجمهوريّة، والرجل الأبرز في بيروقراطيّة النظام على مدى عقودٍ طويلة. ليس للرجل طموحات “انتقاليّة”، يقول. لكنّ موقع كلامه، الوسطي بين العاتب على “متطرّفين” من النظام والمتوجّس من بعض “المعارضات”، المبتعد عن لغة المؤامرة (التي يعزوها للنواة الشرسة في النظام، والتي يتربّع على عرشها رئيسه بالذات) دون أن يُخفي ضيقه من “مرتكبي الجرائم ومن يقف خلفهم” دون أن يحدد أي جرائم، وأيّ مرتكبين، وأيّ داعمين.

يجب أن يكون الكاتب هو إبراهيم الأمين كي نفهم معنى الإشارة إلى ثقة فاروق الشرع بعلي خامنئي، المرشد الإيراني. إشارةٌ أتت قبل أي اقتباس من كلام فاروق الشرع عن سوريا، ولا تشبه إﻻ تنويهات الموظفين المحليين برعاية وإرشادات مدرائهم في العمل عند تقديمهم تقاريراً عمّا كُلّفوا به. هل يريد الأمين أن يؤكد، مرّة جديدة، أن الشرع لم ينشق عن “المحور” حتى لو عتب على النظام الذي، رسمياً، هو رجله الثاني؟ نائب رئيس الجمهوريّة الأول، الذي يؤكد لنا الأمين أنه “في الحدث” لكن ليس “في دائرة صنع القرار”، أي أنه غير مبعد أو مغضوب عليه، وله كلمة داخل النظام، لكنه غير مسؤول عن الخيارات “الخاطئة” التي تم العمل بها. نذكّر أن هذا ليس تأهيلاً للرجل لدور مستقبلي ﻷنه عبّر عن أنه لا يطمح لذلك. طبعاً علينا التصديق.

أما عن تعبير نائب بطل الدبابات والبراميل المتفجّرة والميغ ضد الأحياء والقرى السوريّة عن قلقه ودعوته لمتابعة دقيقة لما يجري في مصر “ﻷن الثورة التي انطلقت منها لا تستطيع أن تحقق على الفور نتائج حاسمة تعبّر عن تطلعات الشعب المصري ومطالبه” فقد ﻻ يكون أكثر من عصفةٍ سينكيّة ﻻ يمكن لمن خبر وقاحة نظام الإفقار هذا أن يستغربها.. ألم تقم الثورة المصريّة، أصلاً، لأن الشعب المصري سئم مبارك وأراد لنفسه رئيساً شاباً ومثقفاً ومنفتحاً كالرئيس السوري (وربما نائباً له كفاروق الشرع، أفضل من عمر سليمان) حسبما اخبرتنا دكاكين إعلام السلطة حينها؟

يعزو الشرع ارتفاع أعداد “المسلحين” إلى تراجع أعداد المتظاهرين السلميين، دون أن يشير صراحةً، طبعاً، إلى الطريقة التي عومل بها المتظاهرون السلميون حتى أصبح رفع السلاح مقبولاً، بل ومطلوباً، في أوساطهم الشعبيّة، ويعتب على الجامعة العربيّة بما يخص “تعريبها للأزمة” دون دعمها لحلّ سوري- سوري، لكنّه لا يُرينا أين كان هذا الحلّ كونه نفسه يعترف أنّ أقطاباً داخل النظام دفعت لإفشال “الحوار” الذي ترأسه بنفسه في الشهور الأولى للثورة، حوارٌ لم يكن إﻻ للذات مع الذات وعن الذات، حوارٌ جرى والمقابر مليئة بالمشيعين كالسجون المليئة بالمعتقلين، حوارٌ يُقرّ بأن رئيسه ﻻ يؤمن به، وﻻ يريد أن يسمع شيئاً خارج سياق “الحسم العسكري” ضد “الإرهابيين والرعاع والمهرّبين”.

من اللافت أيضاً غياب أي كلام عن “الإصلاحات” في إجابات فاروق الشرع، فلربما للرجل بقيّة من نزاهة تقتضي منه أﻻ يستغبي الخلق أكثر مما يستغبيهم في نقاطٍ أخرى، لكن هناك ما هو أهم: استخدامه عبارات “الحزب الحاكم” و”الجيش العقائدي” و”الأحزاب الجبهوية” في سياق حديثه عن تباين الآراء داخل النظام بين من يريد حسماً عسكرياً كاملاً قبل كلّ شيء وبين من ﻻ يرى عودةً ممكن للوراء وﻻ بديلاً عن الحلّ السياسي منذ اللحظات الأولى. هذه لغة “الحرس القديم” وليست لغة “التغيير والإصلاح والشفافية” التي علكها العهد الأسدي الثاني.

أما تفسير قوله بأن “الحل لا يكون واقعياً إﻻ إذا بدأ من أعلى المستويات”، بدءاً من رئيس الجمهوريّة، فلا يحتمل تأويلاً أكثر من كونه إشارةً إلى امكانيّة فتح أبوابٍ معيّنة في التفاوض في حال توفرت الظروف الملائمة. هذه النقطة، على الأغلب، ﻻ تحتاج لمحاورة مع إبراهيم الأمين لإيصالها لمن يجب أن تصل.

يسقط الشرع، مرّة أخرى، في شبكة عنكبوت تاريخه البيروقراطي الحزبي حين يعتبر أن هيكليّة “الدولة” (هل كانت هيكليّة دولة فعلاً؟) التي وُجدت منذ العام 1970 كانت قد ترهلت وكثرت سلبياتها، وإن كانت “مقبولة نسبياً” في حالات الاستقرار والأمن، لكنها لا تنفع في زمن الأزمات. نقطتان: لم تكن “حالة اﻻستقرار والأمن” ناتجة عن نفع الهيكليّة الراهنة النسبي، بل كانت ابنة حالة بوليسيّة-عسكريتاريّة بكل معنى الكلمة.. حالة عطّلت السياسة والإعلام والثقافة وحوّلت المواطن السوري إلى بوق وﻻء للقيادة، أو إلى كائن صامت في أسوأ الأحوال، وثاني هذه النقاط أن الأزمات تأتي من تراكم المظالم على صدور أهلها، أي أن هذه الحالة لم تكن “مقبولة نسبياً” بل كانت تنخر في حياة السوريين بشكل مؤلم وحارق، وانفجرت في أزمة (بل قل:انتفاضة شعبيّة) ﻷن النظام الذي قبع الشرع في مناصبه الرسمية العليا رفض معاملة أهل البلد الذي يحكم بالحديد والنار كمواطنين، ولم يقبل إصلاح نفسه تدريجياً، وقمع ونكّل ليس فقط بمن عارضه سياسيّاً، بل أيضاً بمن نصحه فكرياً ومعرفياً. كانت حالة “مقبولة نسبياً” لمن أصبح مليارديراً في عهدها، أكان من السلب والنهب بشكل مباشر أو من مشاركة السالبين والناهبين والتصالح مع بيئتهم، وجلّ ذخر فاروق الشرع أنه لم يعرف عنه، أو عن أبنائه، أنه من هؤﻻء. ألا يكون المرء لصاً ليس تشريفاً يفخر به، بل هو واجبه الإنساني والوطني. المصيبة هي في نظام ليس فيه إﻻ شخصٌ واحد ﻻ يعرف عنه أنه لص!

لعلّ إشارة اﻻستفهام الكبرى في حديث الشرع هي تلك الخاصة بالتدخل العسكري الأجنبي، حيث يقارن بين قوة عسكرية أجنبية و”الجيش الوطني” بقوله:”عندما نقول ان أي تدخل خارجي مرفوض، ننطلق من أنه لم يكن هناك إجماع من شعبنا أصلاً على زج جيشنا الوطني في الأزمة منذ بدايتها. فهل هناك من يتوهم أن هذا الشعب سيقبل بتدخل جيوش أجنبية فوق أرض سوريا؟”.صحيحٌ أنه لم يكن هناك إجماعٌ على زج “الجيش الوطني” (والذي قال عنه أنه “عقائدي” في مكانٍ آخر) بدءاً من عشرات آلاف السوريين الذين قضوا تحت رصاص وقصف “عقائديّة” الجيش، ومشهد سوريين يرمون الورود والرزّ على الدبابات السائرة نحو سحق قرى وبلدات سوريين آخرين ليموت جزءٌ منهم تحت أنقاضها وينزح الباقون نحو مناطق أخرى أو خارج البلاد هي الصورة المثلى للإجماع الوطني الذي بنته “الحركة التصحيحيّة” الأسدية في طوريها الأول والثاني. من هنا، وربطاً أو دون ربط بالقضايا المطروحة، يمكننا أن نتحدّث عن غياب الإجماعات.

يكثر الشرع، بعد النقاط المطروح بعضها أعلاه، من التأكيد على أن الحسم العسكري غير ممكن ﻻ لطرف النظام وﻻ لطرف “المعارضات”، كما أن التمثيل الشرعي والوحيد للشعب السوري غير متاح ﻻ لأيّ من فصائل المعارضة المختلفة وﻻ للحكم القائم “دون شركاء جدد يساهمون في الحفاظ على نسيج الوطن ووحدة أراضيه وسيادته الإقليميّة”، وينادي لتجاوز فقدان الثقة بين هذين الطرفين لإنجاز تسوية تاريخية سورية ” تشمل الدول الإقليمية الأساسية ودول أعضاء مجلس الأمن. هذه التسوية لا بد أن تتضمن أولاً وقف العنف ووقف إطلاق النار بشكل متزامن وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة. وهذا ما يجب أن يترافق مع معالجة الملفات العالقة المتصلة بحياة الناس ومطالبهم المحقة”، ويؤكد أن إنجاز التسوية التاريخية السورية ” قد يمهد الطريق لتحقيق مناخ دولي يعالج قضايا هامة أخرى بالطرق السياسية وليس بالمواجهة العسكرية”. هل يقصد أن ثمن المحافظة على النظام الحالي بعد تغييره قليلاً وتوسيع دائرة المشاركة فيه الذي يعرض النظام دفعه للمجتمع الدولي هو حل النزاع مع إسرائيل عبر التفاوض غير المشروط؟

نائب رأس النظام السوري يتحدّث عن “الأزمة” وكأنه في موقع المُراقب المتورّط فقط بعواطفه الإيجابيّة تجاه البلاد وأهلها، ويستخدم لغةُ أقلّ حربجيّة من لغة المسؤولين الروس أو الإيرانيين (أو بعض “المعارضين الوطنيين الشرفاء”)، ويتجنّب الهجوم على القوى الإقليمية التي اعتبرها النظام وحلفاؤه أعداءً لا صلح معهم، بل يدعو لشملهم في “التسوية التاريخيّة”. أمام من نحنُ؟ البديل المطروح ممانعاتياً كرأس لحلّ يمنيّ لم ينجح في بلده الأصلي؟ شخصيّة مقبولة للتفاوض باسم طغمة ﻻ يمتلك أيّ سياسيّ معارض ما يكفي من الذخر كي يجلس معها بشكل مباشر؟ أم فقاعة اختبار؟ أم مناورة إلهاء وكسب وقت؟ ﻻ ندري، وفاروق الشرع، على الأغلب، ﻻ يدري هو الآخر..

http://www.syriangavroche.com/

http://www.al-akhbar.com/node/173812

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى